كرة القدم
كرة القدم أظن أنها ستكون أهم وسائل التغيير لأنها ببساطة أهم وسائل الحفاظ على نفس الوضع ، بحدين متناقضين وأظنهما قاتلين معا ، حين تدخل في منظومة الفساد تكون وسيلة لجعله يتقوى أكثر ، هذا ما فعلته الكثير من الأنظمة المستبدة حين أدمجت الرياضة في سياستها وجعلتها أفيونا ومخدرا وعصى غليظة ووسيلة إلهاء عظمى ، ثم أنها يمكن أن تكون وسيلة توعية حين تستقل عن النظام الفاسد ، أو حين تنفلت من المراقبة وسطوة الرأسمال بشكل نسبي، حينئذ يمكننا توقع خروج المظاهرات من الملاعب مثلما خرجت من الجامعات والمدارس، سنسمع شعارات عظيمة يرددها مشجعون لا يعرفون في السياسة كثيرا ، ودون شك ستكون الشعارات أفضل لحنا ورقة مما يرفع في الجامعات والمظاهرات لذا ستنتقل هذه الشعارات التي خرجت من مدرجات يملؤها عشاق المستديرة لتصل إلى الحرم الجامعي وساحات التحرير ، سيكررها محتجون في قطاعات متعددة بنفس اللحن ونفس الحماس ، ويمكن لتيفوهات المرفوعة في المدرجات أن تكون رسائل سياسية إلى من يهمه الأمر ...هنا كرة القدم لن تكون مجرد لعبة فقط بل ستكون وسيلة من وسائل إظهار مللل المواطن ويأسه بالأوضاع ووعيه التام بضرورة التغيير ...
لكن ما يخيفني هو كوني قد سبق وشاهدت برنامجا يتحدث عن كيف تترك الأنظمة الفاسدة للمواطن فسحة للاحتجاج ولإظهار قنوطه ويأسه ، تترك له هذه الفسحة ليكون حرا فقط داخل مدرجات الملاعب ، تعلم هذه الأنظمة أنه من الواجب عليها أن تنفس الاختناق الذي تعرف أنه يصيب المواطن ، تعلم جيدا أن الضغط يولد الانفجار ، وتدرك أنه من الذكاء أن تترك هوامش للمواطن ليقذف عنه الضغط واليأس ، ما تخافه هذه الأنظمة هو أن ينفجر الضغط في الأماكن التي لا تريده أن ينفجر فيها ، هي لا تريد ضغطا في الشوارع والساحات كي لا تسمى ساحات تحرير ، هي تريد الضغط أن ينفجر في أماكن يختلط فيها الشغب بالمتعة بالفرجة ، تريده على المدرجات وبشكل قوي جدا ، المتفرج المواطن حينها يقول كل ما عنده ، يرمي عن نفسه كل الثقل بواسطة الشعارات التي يرفعها والهياج الذي يحدثه ، الأمور تظل هنا دائما لأن مسألة كبيرة جدا وقعت ، خديعة متقنة وقعت وهي: تحويل شعارات من أماكنها التي يجب أن ترفع فيها إلى أماكن ليس من الضرورة أن ترفع فيها ، ليسقط مع مرور الوقت هذا الربط بين مطلب احتجاجي والمكان الذي يجب أن يرفع فيه ، فنصير بدل رفع الشعار أمام البرلمان والعمالة والمؤسسات الحكومية نرفعه في الملاعب لنشعر بأننا نمارس الحق في الاحتجاج ، ولنعتقد أن مطالبنا تصل المسؤولين من الملاعب ، لكني أظن أن المسؤولين لا يرون المطالب التي ترفع في المدرجات مطالبا جادة ، يظنونها ابنة الحماسة والشغب ونتيجة خطة التفريغ التام للضغط الذي يحمله المواطن ، الشعارات التي تسمع هي تلك التي تكون مباشرة قادمة من تحت مكتب المسؤول أو الوزير أو رئيس الدولة وملكها أو التي تصدح من أعرق الساحات في البلد ناهيك عن الحروب الكلامية التي تحدث بسبب عشق كرة القدم تعكس مدى الفراغ الذي نعيش فيه.
الشاب منهوك بالكامل ، ليس له شغل ، لا يتمدرس جيدا ، لا يسافر مستمتعا بالحياة ،لا يقرأ ، ورغم ذلك يدافع بشراسة عن فريق حتى لو كان فريق وطني ما المقصود بالفريق الوطني لكرة القدم ؟ أي وطنية هذه التي يكون أساسها هو كرة القدم ؟ وطنية كرة القدم مثلها مثل كرة القدم المملوءة بالريح ، مجرد جلد منفوخ ودائري . الناس يتناوشون من أجل مزيد من الحرية ، من اجل عيش أفضل ، ومن أجل رفاه أكثر ، ثم بعدها يذهبون لمشاهدة فرقهم الأثيرة . القوم عندنا لا شأن لهم بكل هذا ، السكين مغروسة في خاصرة الوطن ، وهم ملتهون بالحديث عن الفريق الوطني وعن وداد الأمة ...، هي كرة قدم سياسية ، هي الحزب التوتاليتاري الأشمل ، الوثن الجديد ، والعجل الذهبي معبود الجميع ، نساء ورجالا واطفالا وشيوخا ، تشعر أن كرة القدم تحبها حتى الحجارة والرصيف وأعمدة الكهرباء. الرجل يدخل المقهى متزنا ، وتظهر على ملامحه حكمة الزمن ، ما إن يعطي الحكم إشارة البداية حتى يبدأ بالنط والحركة والكلام كمهووس ، يشتم يقدم خططا يضرب الطاولة ويمكنه أن يتناقش مع زميله كأنهما في حرب ...أي هراء هذا . لا تقل لي إنها الفرجة ..ليست فرجة هذه بل هي نوع من المرض الجديد ، مرض يصيب الكادحين أكثر ، المغيبين ، النائمين في سابع نومة ، الذين يتركون الحياة تمشي بمتعها ويتسمرون لمشاهدة مباراة . بالمناسبة قد كتب الكاتب الأورغواني غاليانو كتابا جميلا عن كرة القدم اسمه" كرة القدم بين الشمس والظل". الكاتب صاحب الكتاب الشهير عن" شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة" قدم بأسلوب أخاذ شاعري ذكريات جميلة وسيئة عن كرة القدم . في البداية اعتبرها مرآة العالم المعاصر ، وديانة السوق ، فيها يتصارع الخوف والأمان الجشع والإيثار القوة والضعف الحب والكره ثم البؤس والرغبة في عيش أفضل . إن أسوأ ما في الكرة الآن هو أن اللاعبين اليوم يلعبونها من أجل الربح ، أو لمنع الخصم من الربح ، وهذا هو الأسوأ ، ولكن يظهر على الدوام بين اللاعبين أناس يجعلون الوهم ممكننا ..يكتب غاليانو. يحدثنا غاليانو عن الكرة حين كانت لعبة شعبية يمارسها الفقراء ، وتظهر لهم كفوانيس أمل تضيء لهم الطريق، وتبدو عبارة عن نجم مشع كبير سينير لهم حياتهم . الكرة في أمريكا اللاتينية سابقا كانت تظهر الصراع- كما يرى غاليانو- بين أولائك الذين لا منجاة لهم غير الركض والتعب وبين أولائك المرتاحيين الذين يتوفرون على كل شيء دون تعب أو ركض أو عرق ؛ لم يكن الأغنياء يلعبونها ، بل كان منهم من يعتبرها غير جديرة بمكانتهم لذا كانوا يلعبون الغولف والتنس ويسوقون السيارات وغيرها . الملعب كان رقعة تظهر عليها الآمال العريضة لشرائح كثيرة من المجتمعات الأمريكو -لاتينية . لم يكن المال والرأسمال قد ابتلع بعد كل شيء في الكرة . لقد كانت مجرد لعبة يحمل المهرة فيها إلى مصاف الملوك والقساوسة والرهبان. كان اللعب يتم من أجل المتعة الخالصة ، وكان اللاعب يعرف أن ربحه الأول والأساسي هو عشق الجماهير له ، وتتبع حياته الخاصة كأحد مشاهير الأسر الملكية .
كان من وكان من اللاعبين الطبيب والمهندس والمفكر والمغني والكاتب والشاعر ؛ لقد كانت لعبة تمارسها النخبة الفكرية بمعنى من المعاني ، أي أن من يجيدونها كانوا يعرفون أن عليهم أن يكونوا نماذجا للشباب في كل المجالات ، لذا اللاعب حين يشتهر يهتم بالسياسة والثقافة والفن ليقول لمعجبيه أنه لا يجيد كرة القدم فقط لوحدها. الملاعب كانت تمتلئ بجماهير راقية تعرف حدود المتعة ، ويتحدث غاليانو أنه ما كان ليشاهد صدامات بين الجماهير لأي سبب كان . الكرة متعة وفرجة ...لكن الأمر لم يعد هكذا حتى في أمريكا اللاتنية التي عرفت بلدانها تاريخيا بأنها تهتم بهذه اللعبة . حين ستدخل ماكينة الرأسمالية إلى كرة القدم سيتهدم كل شيء ، وسيسبق الربح مسألة المتعة والفرجة . حين بدأ اللاعب يباع بأثمان خيالية ، ويعيش حياة بذخ غير متخيلة ، فقدت اللعبة أي ارتباط لها بالفقراء والشعوب . لقد تحولت إلى مؤسسة اقتصادية لا تهتم بالرياضة إلا لأنها منجم مليء بالمال ، ثم أنها وزعت اهتماماتها وصارت تنتج منتوجات وبضائع وتسوقها بدعوى عشق الرياضة ، وبات لها محلات اقتصادية كالمطاعم والفنادق والمؤسسات التعلمية الخاصة ومحلات مختلفة وغيرها ، وكل هذا لم يكن من أجل كرة القدم بل لقد نتج عن عشق الناس لها ،وكان حقيقة من أجل الربح المادي. صارت كرة القدم ديانة السوق حسب تعبير غاليانو ، إنها أكثر الديانات ارتباطا بالاقتصاد والفرجة ، هي وحدها من تستطيع أن تجعل عيون سكان العالم أجمع مشدودة للقنوات التلفزية التي تنقل المباريات ، وهي وحدها من تستطيع أن تجمع مئات الآلاف من الجماهير في رقعة واحدة وتجعلهم يهتفون في لحظة واحدة ويرتفعون عن كراسيهم في لحظة واحدة حين يسجل هدف ما ، وهي الوحيدة التي أصبحت قادرة على جمع أموال الرهانات التي يراهنها الناس دون أي ندم من خسارة أموالهم ... لقد تحولت كرة القدم من الشمس إلى الظل ، فحين لم تعد للفقراء ولم يعد المساكين قادرين على لعبها تحولت من الشمس إلى الظل . في السابق من كان يلعب هذه اللعبة كان ابن اسكافي أو خضار أو ابن عامل بناء وعاملة مقهى وابن بائع سجائر بالتقسيط ومنظفة بيوت ؛ فلم تكن هناك حواجز أبدا ، وكانت بطولة الأحياء التي ظهرت في الكثير من بلدان العالم تسمح للشرائح الفقيرة أن تظهر علو كعبها في هذه الرياضة ، وبالفعل هذا ما كان ، فقد اكتسح أبناء الفقراء هذه اللعبة ، وبرز منهم أغلب المشاهير والأساطير التي كان العالم كله يلهج بأسمائهم . ما إن فكر الاقتصادي ورجل الاستثمار والسياسي في هذا العدد الهائل لعشاق هذه اللعبة حتى سيبدأ تواريها من الشمس إلى الظل . سيكتسح المنطق الرأسمالي اللعبة ، وسيتحول اللاعبون بشكل من الأشكال إلى رجال استثمار ونجوم شاشة ونجوم إعلان وأوثان اقتصادية جديدة. ستكون نتيجة هذه الرأسملة للعبة أن الأبواب والقلاع العالية سترفع أمام أبناء الطبقات الفقيرة ، وستختفي تماما بطولات الأحياء التي يشارك فيها كل أبناء الأحياء الفقيرة ، وستقوم الأندية الرأسمالية الكروية بتشييد معاهدها ومدارسها الخاصة التي تكلف أموال طائلة من أجل دخولها ، ولن يصير هناك أي حديث عن البحث في الأحياء الفقيرة عن الموهبين في ملاعبة الكرة بخفة . بات منطق البيع والشراء هو الأساس وتكون المعادلة بسيطة ؛ يدفع أب غني ثمن مشاركة ابنه في نادي كروي عريق ، حين يكون موهوبا يتبناه النادي ، ويستثمر في موهبته ، ويسوق له بشكل كبير وجيد ، وينتظر ما سيحققه مع النادي من بطولات، ثم حين يظهر نادي يقدم فيه أكثر يتم بيعه . لم تعد البداية في عشق كرة القدم تبتدئ بالموهبة والتنقيب عنها بل لقد صارت هي منطق الدفع المسبق لمشاركة الأبناء في النوادي ... لقد كنت أعرف شبابا يلاعبون كرة القدم بشكل رائع . كانوا يلعبون في الشوارع والأزقة والملاعب المتربة والإسمنتية . كانوا بحق مهرة وماكانوا قادرين على الذهاب لنادي حتى ليسألوا عن شروط الاشتراك في النادي . كانوا يلعبون لأنهم يعشقون الكرة ، ومن فكر منهم في المشاركة في النادي وجد بيروقراطية قاتلة لموهبته ، ووجد شروط تسجيل غير قادر على أدائها ، لذا آب أوبته الأخيرة إلى اللعب في الأحياء إلى أن افتقدت كرة القدم في الأحياء تماما : هل سبق وأن شاهدت مباراة تقام في حي ما بالمدينة هذه السنوات ؟ واخيرا بعد كل هذا كنت أعتقد أنه من الصارمة والجدية والثقافة أن لا تشجع فرق كرة القدم . ليس على الرجل الجاد والمثقف الذي يضع بيرية ويحفظ الشعر ويعرف أسماء المفكرين أن يشاهد مباريات كرة القدم لأن الأمر سيكون دليلا على ، ما زلت أن هذه الفكرة أشعر أنها ابنة الصراع الطبقي الذي أومن به ، فكيف لي أن أشاهد أشخاصا يمررون كرة القدم ويأخذون أموالا طائلة وشعبي يعيش في أسفل سافلين ذا كان العالم كله أعرج فسيكون المشي بعرج مظهر من مظاهر الإستقامة ... لنشاهد كرة القدم من أجل نسيان غلاء الأسعار والسعار الذي ركبته فينا الرأسمالية ، فحين ستتغير الكثير من الأنظمة والثقافات ستظل كرة القدم كما هي دون أي تغيير : ملل في اللعبة ، حماس في الجماهير ، أموال طائلة ...ولا شيء بعد..