لماذا تآكلت هيبة الولايات الأمريكية في منطقة المشرق؟

الكاتب: ممدوح غالب بري


لقد مضى ثُلث قرن منذ حدوث أول تدخل عسكري أمريكي مباشر في منطقة الشرق الأوسط، حينما استُهدِفَ النظام العراقي في حرب الخليج الثانية عام 1990م، وَتَبِعَ ذلك غزو أفغانستان عام 2001م والعراق عام 2003م، والدخول العسكري الأمريكي المباشر في أجزاء من سوريا، سيما في الشمال الغربي، لصالح دويلة كُردية في منطقة حبيسة وبعيدة عن الممرات المائية وطرق التجارة العالمية، مما سيفقدها الكثير على المدى البعيد.
وسبق مجمل هذه الأحداث هالة من العَظمة والهيبة اجتاحت العالم العربي والإسلامي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتراجع النفوذ البريطاني والفرنسي، مما أتاح للأمريكان القدرة على التأثير الغير مباشر في رسم سياسات العديد من بلدان العالم العربي والإسلامي، واستغلت لأجل ذلك الصراعات البينية وبؤر التوتر الملتهبة قرب الحدود وبين الأقليات في هذه المنطقة المعقدة جغرافياً وسياسياً ودينياً ومذهبياً وعرقياً.


وحافظت الولايات المتحدة الأمريكية على هذه الهالة وعززت مكانتها في المنطقة بعد حرب الخليج الثانية، وأظهرت حجم تفوقها العسكري وقدرتها على الحشد والتدمير عند احتلال أفغانستان والعراق، لكنها وقعت في فَخ اختبار تجربتها عبر تدخلها المباشر على الأرض لأول مرة، ورافق ذلك ما تَكَبَدَتهُ من خسائر واستنزاف نتيجة تقلب الحلفاء المحليين وتضارب مصالح الحكومات والأحزاب والقبائل والقوى المحلية واشتداد المقاومة المحلية، مما افقد الأمريكان أدوات التكيف والسيطرة والتحكم منذ اللحظة الأولى لنزول أول جندي أمريكي على التراب الأفغاني والعراقي، وحدث ذلك على مَدارِ اقل من رُبعِ قرنٍ منذ بدء تجربتها المباشرة على الأرض.
ولكنها بدأت تفقد هذا الدور في منطقة أخرى داخل هذه الجغرافية العربية والإسلامية الممتدة، وعايشت هذا التراجع خلال بعض مشاهد تحولات حراك الربيع العربي، حيث ظهرت قوى إقليمية ودولية ومحلية استطاعت أن تمارس دورها وتدافع عن سيادتها وتفرض شروطها دون الانصياع للسياسة الأمريكية، وأن تِلكَ الأطراف المحلية التي راهنت على دور وهيبة الولايات المتحدة الأمريكية قد خسرت الرهان وتُرِكت وحيدة.


كانت إسرائيل هي احدى اهم الأسباب الفاعلة التي قيدت دور الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وأفقدتها هيبتها وأربكت مصالحها وتحالفاتها، وكانت الأزمة السورية هي العنوان الذي اسهم في تعزيز تهميش الدور الأمريكي لصالح السياسة الإسرائيلية في شرق البحر المتوسط، مما ترك حلفاء الأمريكان من دول وقوى وجماعات للمجهول.
حدث ذلك حينما نجحت السياسة الإسرائيلية في سحب ملف المنطقة من يد الأمريكان عبر الاعتماد على اللوبي الصهيوني في واشنطن، وأُتيحَ لها حُرية إبرامِ تفاهماتٍ مع روسيا وبلدان عربية وإقليمية ومؤثرة لصالح الرؤية الإسرائيلية تجاه مستقبل الأزمة السورية، ولم يستطع كل الفرقاء في السياسة الدولية إلى اليوم بناء نظام سياسي سوري موحد على كامل الجغرافيا السورية نتيجة الفيتو الإسرائيلي، رغم أن العمل على توحيد الجغرافيا السورية وبناء دولة موحدة سيسهم في تعزيز الأمن والسلم الدوليين، وأن الرؤية الإسرائيلية جعلت سوريا ساحة مفتوحة لكل من يعبث أو يريد أن يقايض في لعبة المصالح الدولية، وأصبحت عنوان واضح لمستقبل قريب قد يفتح الباب على مصرعيه أمام تلك الأصوات التي تطالب بإعادة تشكيل النظام الدولي الجديد.
انه ومن مصلحة إسرائيل أن تبقى سوريا في حالة الضعف والتجزئة، وليس من مصلحتها أن ينجح بشار الأسد في فرض سيطرته على كامل الجغرافيا السورية ولا حتى أن تنجح المعارضة السورية، لأن إسرائيل لا تستطيع أن تُعَوِل على طبيعة النظام الذي لربما يَخلُف نظام الأسد، فمن مصلحتها بقاء نظام تَعلَم حجمهُ وتوجهاتهِ ومستقبل أفعالهِ، وهي مرتاحة لحالة الأمان الجزئي على طول جبهة الشمال ولحالة التنسيق المتبادل على صعيد الأمن والمعلومات بينها وبين روسيا.
لقد مَنَحَت هذه الحالة الروس هامش للعب دوراً مؤثراً على صعيد السياسة العالمية، وجعلها تُمسِك زمام احدى اهم ملفات الشرق الأوسط، وبِذَلِكَ تكون قد استشعرت أهمية دَورِها ولاحظت عجز أمريكا وتآكُل هيبتها.


وانعكست نتائج الأزمة السورية على السياسة الأمريكية في أفغانستان، وأحدَثَت لها فتور، سيما أنها فقدت قُدرَتِها على التأثير لصالح الدور الروسي في اهم بقعة جغرافية والتي تتمثل بشرق البحر المتوسط، إذاً فما الداعي لاستمرار وجودها جنوب الجغرافيا الروسية وفي منطقة أفغانستان واسيا الوسطى؟، وجاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في نهاية صيف عام 2021م ليؤكد هذا الزعم حول تآكل الدور الأمريكي في المنطقة والعالم.
وترتب على هذه التحولات انتعاشه أصابت صانع السياسات في روسيا، ودفعته نحو استخدام المزيد من القوة والبطش أثناء تَعامُلِهِ مع الملفات والقضايا العالقة بينهُ وبين حلف الناتو على غرار الدور العسكري الروسي العنيف الذي مارسته في الأزمة السورية منذ صيف عام 2015م.
وجاء الدخول العسكري الروسي في  -أوكرانيا - ليُجَسِد مشهد تآكل الدور الأمريكي، وليتناغم مع هذه التحولات التي أكدت لروسيا وَلِعَديد حلفاء أمريكا أن المراهنة على دور الولايات المتحدة الأمريكية لن ينفع العديد من الأنظمة ولسوف تُترَك وحيدة في وجه العاصفة، ولَن تَحصُل سوى على بعض الأسلحة والمواد الغذائية وتعاطف إعلامي بسيط.
لم تكتمل مشاهد خريطة التحالفات ومراكز القوى، وكذلك لم يكتمل مشهد صعود وهبوط العديد من القوى الإقليمية والمحلية وتُعايِش سيرورةٍ مستمرةٍ، ومن المؤكد أن العديد من الأنظمة والحكومات سوف تَتَبَدَل وأَن العديد من بؤر النزاع سوف تُعَزِز عدة صراعات على أطراف منطقة المشرق أو في القلب منها، وكان أخِرُها الأزمة الأوكرانية، وأَن العديد من الشعوب والقوى والبُلدان سوف تبحث عن حلفاءٍ جُدُد تحتمي خلفهم في ظل انكفاء حضارة الغرب وتراجع دور حلف الناتو، وأَن السياسة البراغماتية التي أصبحت تمارسها دولة الإمارات العربية تجاه العلاقات الحميمة مع روسيا وتركيا ودمشق ومحاولة الانفتاح على ايران تُعَزِز صدق ما ذهبنا حوله من تحليلات.