المحددات السياسية لبناء المستوطنات في الضفة الغربية

ماهر عابد

مثّل الاستيطان وسيلة الحركة الصهيونية لفرض السيطرة السياسية تدريجيا على فلسطين قبل إقامة الكيان الصهيوني، وبحسب تعبير موشيه سنية القائد العام ' للهاغانا "في عام 1943م " أن الاستيطان ليس هدفًا بحد ذاته فحسب، بل هو وسيلة الاستيلاء السياسي على فلسطين، ولذلك يجب أن نسعى في ان واحد لإقامة مستوطنات عبرية سواء وسط المراكز السياسية والاقتصادية للبلد أو بالقرب منها أو حولها، أو في تلك النقاط التي يمكن استخدامها مواقع طبوغرافية مشرفة، أو مواقع رئيسية من ناحية السيطرة العسكرية على البلد، والقدرة على الدفاع الفعال عنه، وان كانت أهميتها الاقتصادية قليلة"،[1] أي أن الحدود السياسية ل"إسرائيل" ستقررها حدود الاستيطان إضافة للقوة المسلحة.

والواقع أن جوهر السياسة الصهيونية وجوهر المشروع الصهيوني لم يتغيرا، فبناء شبكة المستوطنات في الضفة الغربية يعطى ل"إسرائيل" فرصة السيطرة على الأرض، وتعديل حدودها  بما يحقق طموحاتها التوسعية، كما يمكنها من إملاء شروطها في عملية التسوية السياسية، ومن هنا، فإن ما سمي بخطة الانفصال" الإسرائيلية" الأحادية الجانب والتي تم تطبيقها على مستوطنات غزة، وعلى عدة مستوطنات شمال الضفة الغربية، والتي بموجبها تم إخلاء هذه المستوطنات، جاء بمثابة محاولة سياسية "إسرائيلية" لفرض تصوراتها للحل النهائي التفاوضي، وذلك عبر إقامة كيان فلسطيني مقطع الأوصال، وفاقد لكل مقومات الدولة على أقل مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية، تديره سلطة فلسطينية تعمل بمثابة وكيل أمني للاحتلال، وهو ما سيخلص دولة الاحتلال في نفس الوقت من تحمل الأعباء السياسية والأمنية والإدارية لسيطرتها على الضفة.

التنفيذ العملي للمخطط السياسي الإسرائيلي

في العام 1967 وبعد الاحتلال مباشرة، قامت إسرائيل بخطوات استراتيجية ذات أبعاد سياسية بعيدة المدى، تخدم فكرة تعديل الحدود بما يتوافق مع المتطلبات الاستراتيجية لدولة الاحتلال:  

أولا: قامت قوات الاحتلال بهدم ثلاث قرى فلسطينية داخل الضفة الغربية وهي : يالو وعمواس وبيت نوبا، وهي قرى كانت تمتد كإصبع داخل حدود المناطق المحتلة منذ العام 48 في منطقة رام الله،  وقد قامت  الخطة الإسرائيلية على التخلص من هذا الإصبع الذي يشرف على الطريق الرابطة بين القدس وتل أبيب، وإبعاد السكان الفلسطينيين بقدر الإمكان عن الحدود في أثناء الحرب، لكي تبدو عملية التهجير كأنها جزء من سير المعارك، وليست عملية تهجير مقصودة بذاتها.[2]

وبالرغم من أن" إسرائيل" لم تعلن ضم هذه المنطقة رسمياً إلى كيانها كما فعلت في القدس، إلا أنها ضمتها عمليا كأمر واقع، حيث قامت ببناء المستوطنات فيها، ونصبت نقاط التفتيش، وبات من المستحيل على سكان الضفة الغربية الوصول إلى هذه المنطقة، وبالتالي تم فصلها تماما عن الضفة الغربية، وعلاوة على هذه المنطقة، فهناك شريط واسع يقع إلى الغرب والجنوب من أراضي هذه القرى، وقد تم ابتلاعه لتوسيع طريق القدس - تل أبيب السريع، كما تم تعزيز ضم هذه المنطقة إلى حدود " 48" عبر إنشاء مستوطنة موديعين التي بُني الجزء الأكبر منها داخل الخط الأخضر وجزء منها داخل الضفة الغربية، وبناء موديعين عيليت في الضفة الغربية[3]، وبذلك تم إلغاء خط الهدنة في تلك المنطقة التي أضحت جزءا من المنطقة الواقعة بين القدس وتل أبيب، ومن المهم هنا أن نشير إلى أن القرى المهجرة يالو وعمواس وبيت نوبا تقع مباشرة فوق الحوض الغربي للمياه الجوفية، أغنى الآبار المائية في فلسطين.[4]

ثانيا: الخطوة التالية التي اتخذتها قوات الاحتلال بعد حرب 67 مباشرة هي البدء باستيطان الأغوار الفلسطينية  في محاولة حثيثة لجعل نهر الاردن حدا طبيعيا شرقيا لدولة الاحتلال، ولتعزيز "الحدود الجديدة لدولة الاحتلال" بحاجز بشري من المستوطنين المسلحين، وقد أخذت هذه المستوطنات المقامة شكل التعاونيات الزراعية، وجرى تحصينها لتصبح معسكرات استيطانية، وإضافة لجعل حدود "إسرائيل" الشرقية على نهر الأردن الذي يمثل عائقا طبيعيا، فإن لمستوطنات الغور قيمة استراتيجية تتمثل في طبيعتها الزراعية الخصبة، وتوفر المياه  للري-  عبر السيطرة الإسرائيلية على المصادر المائية الجوفية في الأغوار وحجبها عن المزارعين الفلسطينيين في خطوة تهدف إلى التخلص المتدرج من سكان الأغوار من الفلسطينيين-  وبذلك فإن " إسرائيل" منعت توسع القرى الفلسطينية في الأغوار، وحدت من نموها بشكل كبير، وحصرتها في مناطق محاطة بالأراضي المصادرة وبالمستوطنات والمناطق الأمنية، فأصبح دخول الفلسطيني إلى الأغوار مهمة شاقة، ويُمنح فقط لمَن يسكن المنطقة بعد تنفيذ كل أشكال التدقيق الأمني.

ثالثا: منذ الساعات الأولى للاحتلال عام 1967 بدأت السياسة "الإسرائيلية" والجرافات "الإسرائيلية" برسم المعالم الجديدة للقدس من أجل إيجاد أوضاع جيوسياسية يصعب على السياسي أو الجغرافي إعادتها الى سابق عهدها، حيث شرعت في وضع أساسات الحي اليهودي في القدس الشرقية، بالإضافة إلى كثير من المواقع المفتوحة التي سيطرت عليها من أجل بناء سلسلة من المستوطنات لتحيط بالقدس من جميع الجهات، وإسكان مستوطنين فيها لإقامة واقع جغرافي وديموغرافي جديد، وإحداث خلخلة سكانية في القدس، وبعد أن كان الفلسطينيون يملكون غالبية الأراضي في سنة 1967 أصبحوا بعد عمليات المصادرة، وبعد إقامة المشاريع الاستيطانية، وفتح الطرق، والبناء ضمن الإحياء  العربية يسيطرون على 14% من الأراضي في شرقي القدس.

وبعد العام 1993 بدأت دوائر القرار في دولة الاحتلال بإعداد خطة استيطانية كبيرة في القدس سميت ب(القدس الكبرى)، تريد أن تحقق جملة من الاهداف الكبرى أهمها: تعزيز مكانة القدس " كعاصمة لدولة إسرائيل" بعد توسيعها وضم المستوطنات المحيطة بها، وصبغها بالطابع اليهودي، وخلق تواصل مريح  للسكان اليهود، ومنع تكون جيوب سكانية متداخلة بقدر الإمكان.

ان السعي الإسرائيلي لإحكام السيطرة على الضفة الغربية والقدس يأتي للحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في الأراضي المحتلة عام 1967، ومن هنا فإن فرض حقائق ديموغرافية جديدة على الأرض تجعل من إمكانية إخلاء المستوطنين من الضفة "عملية مستحيلة" في أي عملية تسوية، حيث ارتفع عدد السكان اليهود في القدس مع نهاية العام 2021 إلى 330 الف مستوطن وفق ارقام الاحتلال، وهذا الرقم لا يشمل مستوطنات تكتل معالي ادوميم الضخم، والذي يناهز عدد سكانه 50 الف مستوطن.[5]

لقد اتضحت أبعاد المخططات "الإسرائيلية" لخلق واقع سياسي جديد في الضفة الغربية والقدس من خلال ما طرح في مفاوضات التسوية بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" سواء في أوسلو أو كامب ديفيد، فقد طرح موضوع الاستيطان وتم تأجيل نقاشه، وكان طرح الاحتلال أن لا عودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967 بحجة عدم قدرة" إسرائيل" على الدفاع عن نفسها ضمن تلك الحدود، وأن "إسرائيل" غير قادرة سياسياً على سحب جميع المستوطنين وتفكيك المستوطنات كلها، وأن مستعمرات القدس هي أحياء لا مستعمرات.

الجدار الفاصل يكرس الواقع الجغرافي السياسي الجديد للضفة الغربية:

سار بناء الجدار وإقامة المناطق المعزولة في خط متوازٍ مع تصعيد البناء الاستيطاني وتسمين المستوطنات، وإقامة بؤر استيطانية جديدة، والسعي لإقرار تشريعات وقوانين لضم المناطق قليلة الكثافة السكانية في الضفة الغربية  (مناطق (ج) بالأساس)، كما تصاعدت حملات هدم المنازل وتشريد المواطنين الفلسطينيين في المناطق المستهدفة بالضم أيضا.

وقد عزل الجدار الفاصل منطقتين أساسيتين في الضفة الغربية، حيث باتتا تعرفان باسم منطقة العزل الشرقية ومنطقة العزل الغربية، ويبلغ مجموع المساحات المعزولة (الشرقية والغربية) ما يعادل 41.8% من مساحة الضفة الغربية.

منطقة العزل الشرقية

تمتد هذه المنطقة ابتداء من  أقصى شمال محافظة طوباس ولغاية البحر الميت، وتضم منطقة غور الأردن، التي تعتبر من أجود الأراضي الزراعية في فلسطين، وأكثرها وفرة بمصادر المياه، وكانت تمثل سلة غذاء فلسطين، إضافة  إلى السفوح الشرقية للضفة الغربية المطلة على الغور، والتي تتبع إداريا لمحافظتي نابلس ورام الله، كما تشمل المنطقة الصحراوية المحاذية للبحر الميت، والتي تتبع لمحافظات القدس وبيت لحم والخليل، وتبلغ مساحتها 1,664 كم2، وتشكل ما نسبته 29.4% من المساحة الكلية للضفة الغربية, وخلال  سنوات الاحتلال قامت "إسرائيل" ببناء عشرات المواقع الاستيطانية في منطقة العزل الشرقية، التي  أحكم جيش الاحتلال السيطرة عليها، محولا إياها  إلى منطقة عسكرية مغلقة، يحظر على المواطنين الفلسطينيين من خارج سكانها دخولها، إلا بإجراءات خاصة ومعقدة، وتتوزع هذه المواقع الاستيطانية كالتالي:  33 مستوطنة يقطنها اليوم ما يزيد عن 17 ألف مستوطن، 5 مواقع سياحية هي: اتراكزيا، سولار بوند، ليدو يهودا، عين الفشخة، مشوكي دراجوت، ويضاف الى ذلك 44 بؤرة استيطانية أقيمت حتى العام 2022،  وقام الاحتلال ببناء 133 قاعدة عسكرية في المنطقة.

منطقة العزل الغربية

وهي أراضي الضفة الغربية التي عزلها الاحتلال بين الجدار الفاصل شرقا والخط الأخضر غربا، وتضم هذه المنطقة  إحدى  أفضل الأراضي الزراعية في الضفة، وقد بات وصول المزارعين الفلسطينيين  إليها أمراً بالغ الصعوبة، أو شبه مستحيل، ويتم عبر بوابات محدودة العدد ومخصصة لهذا الغرض، ولعدد قليل من الأفراد، ولفترات قصيرة، وبعد الحصول على تصاريح خاصة من قبل الإدارة المدنية الاحتلالية، التي تفرض قيودا شديدة على إعطاء هذه التصاريح. وقد تم تعديل مسار الجدار الفاصل عدة مرات من قبل الاحتلال، ويبلغ طول الجدار 771 كلم فيما بلغت مساحة أراضي الضفة الغربية المعزولة 705 كم مربع.

خاتمة:

لقد نتج عن المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس واقع سياسي جديد مبني على معطيات جغرافية وديمغرافية، بحيث بات السكان الفلسطينيون محشورون في معازل لا تزيد مساحتها الكلية عن 2000 كم مربع، وهي مناطق "أ" و "ب" والتي تخضع إداريا وامنيا لسيطرة السلطة الفلسطينية، فيما يسيطر الاحتلال على باقي الضفة الغربية سيطرة مطلقة، وهي منطقة "ج"، وفي هذه المنطقة يتقلص الوجود الفلسطيني يوما بعد يوم، ويتعزز الوجود الاستيطاني، وعمليا باتت المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية اشبه بأرخبيل من الجزر المعزولة، وهو ما يعيدنا الى التساؤل المركزي عن جدوى عملية التسوية، وهل حل الدولتين ما زال قابلا للتطبيق ام ان الواقع قد تجاوزه عمليا.

 

( خارطة توضح الجغرافيا السياسية الجديدة للضفة الغربية، المناطق بالأصفر هي مناطق السيطرة الفلسطينية، والمناطق بالأزرق هي مناطق ج التي يسعى الاحتلال لضمها الى كيانه، والتي يتركز فيها الوجود الاستيطاني)

 

 



[1] عايد، خالد، الوجود الاستيطاني في الأراضي المحتلة،  في "دليل إسرائيل العام" تحرير كميل منصور، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2004، ص: 566

[2] ايوب، نزار، فصلية حوليات القدس، العدد الثالث عشر، 2012 ص 6-14

[3] يمثل التكتل الاستيطاني موديعين كتلة ضخمة وتتوسع باستمرار جغرافيا وبشريا، حيث يزيد عدد سكان هذا التكتل عن 91 الف مستوطن لغاية  شهر 1\2022، مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذا التكتل يزيد سنويا بنسبة تزيد عن 3,6%.

[4]  الجعبة، نظمي، الاستيطان الكولونيالي في الضفة الغربية والقدس: قراءة في أبعاد وأشكال السيطرة على الأرض، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد91، المجلد 23،  2012، ص: 59- 76.  انظر أيضا: الهندي، عليان، مشاريع الاستيطان وتأثيرها في تشكيل مستقبل الضفة الغربية، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الابحاث، رام الله،2012

[5] Katz ,Yaakov,30\1\2022, Jewish population stats for Judea and Samaria( the west bank),state of Israel