جرائم القتل في الداخل ودور الاحتلال

بقلم : ثامر عبد الغني سباعنه

قباطية – فلسطين

بعيداً عن نظرية المؤامرة، وبعيداً عن حُجة الاحتلال وتعليق كل الاحداث والسلبيات على الاحتلال، سأتناول موضوع جرائم القتل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.

تبدأ الحكاية – في نظري - عام 2000م، وتحديداً مع هبة فلسطينيي الداخل ومشاركتهم الفاعلة في انتفاضة الاقصى، وارتقاء 13  شهيدًا برصاص جيش الاحتلال في شهر اكتوبر من العام 2000.

لقد عمل الاحتلال منذ قيامه على طمس هوية الفلسطيني الباقي في أرضه عام 1948، وحاول الاحتلال افراغ الداخل من أي انتماء وطني لفلسطين ،حيث يمثل الفلسطينيون في الداخل أقلية، إذ يبلغ عددهم اليوم ما يقارب 1.9 مليون من أصل 9 ملايين مجمل السكان، وعمل بكل الطرق والوسائل للوصول لهدفه سواء بالاغراء المالي أو الاسقاط الأمني أو الاسقاط الاخلاقي ونشر الرذيلة والمخدرات.

 انخراط فلسطينيي الداخل المحتل بانتفاضة الاقصى، صدم الاحتلال، وأظهر لمنظومة الاحتلال فشل خطواته ومحاولاته لاخراج فلسطينيي الداخل من معادلة المواجهة مع الاحتلال، وهنا اعتمد الاحتلال بمؤسساته وخاصة الأمنية منها على نظرية المفكر اليهودي الأمريكي ناعوم تشومسكي التي وضع فيها عشرة استراتيجيات للسيطرة على الشعوب منها:  ابتكار المشاكل.. ثم تقديم الحلول.

وهذه الاستراتيجية تسمّى أيضا “المشكلة – ردّة الفعل – الحل”. في الأول نبتكر مشكلة أو “موقفا” متوقــعا لنثير ردّة فعل معيّنة من قبل الشعب، وحتى يطالب هذا الأخير بالإجراءات التي نريده أن يقبل بها. مثلا: ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنية على حساب حرّيته، أو: ابتكار أزمة مالية حتى يتمّ تقبّل التراجع على مستوى الحقوق الإجتماعية وتردّي الخدمات العمومية كشرّ لا بدّ منه.[1]

 

لقد سمح الاحتلال بانتشار السلاح في الداخل الفلسطيني، وخاصة بين العائلات المتخاصمة والمتصارعه، بالاضافه الى عصابات الاجرام العربية، وانخرطت المؤسسة الامنية "الاسرائيلية" بتسهيل توفير السلاح والسكوت عن السلاح المنتشر، وغضّ الطرف عن عمليات الاعتداء المسلحة، وصولا لحماية القتلة واغلاق ملفات القتل في الداخل وتسجيلها " ضد مجهول".

لاجرام بين فلسطيني الداخل قبل عام 2000:

لم يكن المجتمع العربي الفلسطيني خاليا من عمليات القتل والاجرام قبل عام 2000م، لكنها كانت محدوده ومسيطر عليها، وكان يتم معالجة آثار أي عملية قتل تحدث، ويتم حقن الدماء، وكان يواجه المعتدي والقاتل بحرق منزله من قبل أهل البلد، وتهجير عائلته الى قرية أو بلدة اخرى، ودفع دية المقتول، وفي حديث للشيخ كمال الخطيب على قناة الجزيرة ضمن برنامج " ما خفي اعظم" في شهر اكتوبر 2021، أشار الشيخ كمال الى أن عدد القتلى في الداخل منذ عام ( 1980 – 2000) بلغ 83 قتيل فقط، أي بمعدل 4 قتلى في السنه[2].

* الجريمة بين فلسطيني الداخل بعد عام 2000 الى حرب سيف القدس:

كانت انتفاضة الاقصى عام 2000 ومشاركة فلسطينيي الداخل فيها نقطة فارقة في التاريخ الفلسطيني بشكل عام، وعلى الجريمة في الداخل بشكل خاص.

 في "هبة اكتوبر"خرج الفلسطينيون في إسرائيل آنذاك في احتجاجات واسعة تضامناً مع إخوانهم في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وتصدّت لها القوات الأمنية والشرطية الإسرائيلية بعنف شديد، الأمر الذي أدى إلى استشهاد 13 مواطناً فلسطينياً. دفعت تلك الأحداث إسرائيل إلى تبنّي مجموعة من سياسات العصا والجزرة، الترهيبية والاحتوائية، من أجل منع انتفاضة أو هبّة شعبية مماثلة في المستقبل، ولإضعاف التنظيم الفلسطيني في الداخل. وحملت الانتفاضة آنذاك في طياتها معاني تؤشر إلى أن قضية فلسطينيي 48 تمثل جزءاً لا يتجزأ من جوهر القضية الفلسطينية [3].

لم تكن الهبة مشهدا عابرا أمام الاحتلال وأجهزته الأمنية، بل كانت مؤشر خطير يتطلب حل مناسب، ولعل من أفضل الخيارات كانت نشر الجريمة والقتل بين فلسطينيي الداخل، وفي مدنهم وقراهم، ليصبح الهم الأول للفلسطيني بالداخل هو الأمن والاقتصاد وبالتالي انتشار الفوضى والجهل وسيسهل تدمير المجتمع الفلسطيني من داخله وافراغه من وطنيته وانتمائه.

ازدادت منظمات الاجرام العربية، وزاد نفوذها وقوتها، وانتشر السلاح، ويُرَجَّح أن عدد قطع السلاح في المجتمع العربي يصل لنحو 350 ألف قطعة سلاح، فيما تشير النائبة حنين زعبي في كتاب قدمته لمراقب الدولة الإسرائيلي أن 400 ألف قطعة سلاح في المجتمع العربي، وكثرة تواجد هذا السلاح تتمثل بسهولة الحصول عليه، دون رادع[4] .

لقد وصل عدد القتلى خلال هذه الفترة – حسب كلام الشيخ كمال الخطيب- 1480 قتيل فلسطيني، أي بمعدل 74 قتيل في العام، أي زاد المعدل بـ 70 قتيل سنوياً مقارنة بالفترة السابقة، وهذا رقم كبير جداً .

ثمة أسباب كثيرة، اجتماعية واقتصادية تقف وراء ظاهرة انتشار السلاح وتفشي الجريمة. ومنها:

الإفقار المتزايد الذي يعانيه المجتمع العربي في الداخل، واتجاه بعض الشرائح الشابة للمجال الذي تظن أنه يوفر كسبا سريعا ومن دون مجهود، وهو الجريمة بما في ذلك تجارة المخدرات، وغالبا ما يكون ذلك ضمن أدوار ثانوية مساعدة لعصابات الجريمة الإسرائيلية، إلى ارتفاع نسبة التسرب من المدارس وتدني مستوى مؤسسات التعليم، وغياب المرافق الشبابية والاجتماعية والترفيهية التي تسوعب طاقات الشباب، والاكتظاظ الحاد وأزمات السكن، والبطالة، فضلا عن أزمة الهوية التي يواجهها العربي الفلسطيني في الداخل، والتناقض الذي يعيشه حيث فرضت عليه دولة تعادي شعبه، وتعاديه هو شخصيا وتعادي هويته وثقافته.ومن الأسباب الجدية، والجديرة بالبحث، الفرضية التي تقول أن الدولة الإسرائيلية تستخدم الجريمة بشكل هادف، لتفكيك المجتمع العربي والسيطرة عليه، وتوجيهه حيثما تريد، وما يعزز هذه الفرضية تكرار المقولات الإٌسرائيلية عن الخطر الديمغرافي الذي يمثله فلسطينيو الداخل و”القنبلة الديمغرافية” الموقوتة التي قد تنفجر في اي لحظة.[5]

* مابعد حرب سيف القدس 2021م:

ما أن بدأت حرب سيف القدس في شهر أيار عام 2021م حتى سارع فلسطينيي الداخل بالانخراط بالمقاومة ومواجهة الاحتلال ومستوطنيه في القرى والمدن الفلسطينية في الداخل، وأظهر فلسطينيي الداخل انتماء حقيقي لقضيتهم ، بالمقابل ظهر مباشرة ارتفاع في معدل القتل والجريمة في الداخل، ولعل الجدول التالي الذي تم جمعه من جريدة يديعوت احرنوت العبرية في اكتوبر من عام 2021 ومن نشرة الاخبار لقناة BBC في 15 اب 2021 :

 | المرحلة | 1980-2000 | 2000 - 2020 | 2020 – 15/10/2021 |
 | عدد القتلى | 83 | 1480 | 200 |  المجموع 1763
 | معدل القتلى في العام | 4 | 74 | 112 |   المجموع  42

الجدول يُظهر بشكل واضح معدل القتل خلال الفترة القصيرة التي تلت حرب سيف القدس وما تبعها ( 200 قتيل ) وكأن لسان الحال يقول : كلما ارتفع معدل ومنسوب الانتماء والوطنية لدى فلسطينيي الداخل، زاد بالمقابل الاجرام والقتل في المجتمع العربي.

* دور المؤسسة الأمنية "الاسرائيلية" في الاجرام في المجتمع العربي:

يمتلك الاحتلال مؤسسة أمنية قوية ومعروفة، خاصة جهاز الشاباك، وقد أظهر هذا الجهاز قدرة واضحة في اعتقال وكشف مجموعات المقاومة الفلسطينية، كما يظهر دوره بشكل واضح في كشف واعتقال مُطلقي النار على "الاسرائيليين" أو على مصالح"اسرائيلية" فيما يظهر"عجز" هذه المؤسسة أمام الجريمة بين الفلسطينيين !!

من المعروف أن حكومة الاحتلال وأجهزتها الأمنية، تغض الطرف، وتتعامى عن آلاف قطع الأسلحة المنتشرة بين الأفراد والعائلات والعشائر، طالما أن هذه القطع لا تستخدم إلا في الأعراس وفي الاستعراض والمشاجرات، ولكن الأجهزة عينها مستعدة لأن تقيم الدنيا ولا تقعدها، فتشنّ حملات دهم وتفتيش واعتقالات جماعية، وتفرض الأطواق وكل أشكال الحصار بحثاً عن أية قطعة سلاح تشك تلك الأجهزة في إمكانية استخدامها في مقاومة الاحتلال. ونفس هذه المعادلة تسري على الفلسطينيين في الداخل، فالسلاح الذي يقتل به العرب بعضهم بعضاً هو سلاح لا يثير قلق الدولة ولا يستدعي استنفار أجهزتها في البحث عنه، أما إذا لاحت بوادر أو احتمالات لإمكانية استخدامه ضد أمن الدولة، وتحديدا ضد يهود الدولة، فعندها سوف تقوم القيامة كما جرى خلال أحداث ومواجهات شهر أيار الماضي في اللد وعكا. وليس سرّا أن معظم قطع السلاح المنتشرة مصدرها سوق السلاح الإسرائيلية السوداء ومخازن الجيش، وبالتالي تتوفر لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية القدرة الفنية على “تشريك” هذه القطع، أو زرع مجسات صغيرة في جوفها، يمكنها تحديد مكان القطعة وحركتها[6].

 

وهنا لابد من وضع بعض الملاحظات المرتبطة بالموضوع:

1-    نقل عشرات العملاء من الضفة الغربية وغزة وجنوب لبنان، وادخالهم للمجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل ودورهم في الجريمة والفساد.

2-   تقاعس أجهزة الشرطة في كشف القتلة أو متابعة جرائم القتل.

3-   تسهيل وجود السلاح بين فلسطينيي الداخل والسكوت عن السلاح المتوفر.

4-   تجاهل الشرطه للأدلة بل ووضع عوائق في طريق من يحاول التصدي للجريمة وكشف الجُناة.

ومهما كانت الأسباب، خارجية أو داخلية، فهذا لا يعفي القيادات العربية الفلسطينية في الداخل من واجباتها ومسؤولياتها للتصدي لهذه الظاهرة ووقفها، وعدم الاكتفاء بتقاذف المسؤوليات والاتهامات، أو إلقاء اللوم على المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، وهي مهمة ليست سهلة ولا تحل بمجرد اتخاذ قرار، بل هي بحاجة لطائفة واسعة وسياقات متعددة ومتكاملة من النضالات وأشكال العمل الداخلي في كافة الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والتربوية والإعلامية، وإلا فإن النتائج سوف تكون وخيمة جدا علينا جميعا.[7]


*التوصيات:

- كشف دور الاحتلال في الجريمة في الداخل والتركيز على ذلك واثباته.

- لابد للاحزاب والجمعيات ولجان الاصلاح العربية أن تلعب دورها في الحد من الجرائم ومحاسبة القتلة.

- نبذ المجرمين والقتلة .

- بث الوعي من خلال المساجد والمدارس والاندية والتجمعات.



[1]نعوم تشومسكي: الاستراتيجيات العشر للتحكم في الشعوبhttp://www.ppp.ps/ar_page.php?id=131f00dy20049933Y131f00d

[2] الجزيرة: ماخفي اعظم https://www.aljazeera.net/programs/the-hidden-is-more-immense/2021/3/22/%D8%A8%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D9%88%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%A7-%D8%AE%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%B9%D8%B8%D9%85

[3] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "تقدير موقف: الهبّة الشعبية في مناطق الـ 48 المحتلة.. أسبابها وتداعياتها"، 26 أيار / مايو 2021
[4] عرب48:فوضى السلاح،ضياء حج يحيي : https://www.arab48.com/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%B1%D8%A3%D9%8A/2018/11/18/%D9%81%D9%88%D8%B6%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%85%D9%86-%D9%85%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A8%D9%8A%D9%88%D8%AA%D9%86%D8%A7

[5] ابوغوش،نهاد:ااسرائيل وادارة الجريمة في الداخل، القدس https://alquds.com/2021/11/07/%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%88%d8%a5%d8%af%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b1%d9%8a%d9%85%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84/

[6] ابوغوش،نهاد: اسرائيل وادارة الجريمة في الداخل، القدس https://alquds.com/2021/11/07/%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%88%d8%a5%d8%af%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b1%d9%8a%d9%85%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84/

[7] ابوغوش،نهاد (مصدر سابق)