من يقاتل في ساحة من؟

عندما واجه موسى عليه السلام فرعون بدعوة الحق فحاجه وبهته، أراد فرعون أن يغير ساحة المعركة ويحدد أدواتها ووسائلها ليحقق فيها النصر، إذ رأى أنه لو استمر في القتال في الساحة التي حددها موسى عليه السلام، وفق الأدوات التي حددها له، والكيفية التي يريدها فإن الخسارة الحتمية ستكون نصيبه.

يقول الله تعالى في وصف تلك المحاولة الفرعونية الفاشلة:

" قال من ربكما يا موسى. قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. قال فما بال القرون الأولى؟ " [ طه: 49-50].

أدرك فرعون أنه لو ظل فرعون في ساحة المعركة الحقيقية، ساحة الربوبية والإلهية، والخلق والإحياء والإماتة، لخسر بضربة الحجة القاضية خسرانا مبينا. إنها الساحة التي يملك موسى عليه السلام كل أدواتها، وهو القادر على تحديد زمانها ومكانها، ولعل فرعون أدرك أن مآله مآل النمرود حين حاجه إبراهيم عليه السلام وهو يدعي الإحياء والإماتة ( مجرورا إلى القتال في ساحة القدرة الخارقة والمعجزات التي حددها إبراهيم عليه السلام مسبقا حين أخبره أن الله يحيي ويميت، فادعاهما بخفة)، ف: " قال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر" [ البقرة: 285]. وهنا أراد فرعون أن يشغب على الجماهير التي طالما اعتاد استخفافها لتطيعه، مثيرا غبار الغوغائية ليشوش عليهم الرؤية، فسأل موسى عليه السلام عن مصير آباء هذه الجماهير التي يدعوها إلى التوحيد: أخبرهم يا موسى عن آبائهم وأجدادهم: هل هم في الجنة أم النار؟ ( قال فما بال القرون الأولى؟ ). ها هو ينقل ( بل يحاول نقل ) المعركة إلى ساحة أخرى اختار هو أدواتها. إن فرعون لم يكن يبحث عن الإجابة، فهو لم يكن مكترثا أبدا بمصير آبائه وآباء الجماهير. إنه لا يفكر إلا بذاته. ولكنه أراد أن يحرج موسى عليه السلام بهذا السؤال الخبيث فإن قال موسى الحقيقة وأنهم في النار فسيستغل ذلك لتحريض الجماهير ضده، حيث سيقول لهم: انظروا كيف يتحدث عن آبائكم وأجدادكم ويزدريهم ويسفههم ويجعلهم حطب النار! أما إن أرد موسى عليه السلام أن يتجنب هذا الحرج، فيسايرهم تأليفا لقلوبهم، فيقول خلاف الحقيقة أنهم في الجنة، فسيقول فرعون للجماهير: لقد مات آباؤكم على دين وهم يتخذونني ربهم فدخلوا الجنة، فما الداعي لتبديل دينكم؟ وفي كلا الجوابين سيخسر موسى عليه السلام المعركة. تلك ساحة القتال التي حددها فرعون وأراد جر موسى عليه السلام لها. ولعل العاطفة تفترض بقائل أن يقول: إنها قضية عقيدة. وأيا كانت النتيجة، فلا مجال إلا قول الحقيقة العقائدية، وليكن ما يكون. لكن موسى عليه السلام أدرك لعبة فرعون، ولم ينجر وراء عاطفته، ولم تحركه أشواقه وأمانيه، فلم يقبل القتال في الساحة الفرعونية، بل ظل متماسكا ومصمما على أن يحدد هو ساحة المعركة وأدواتها، ظل رابط الجأش، بارد الأعصاب، ليعيد فرعون إلى ساحة المعركة التي يحددها هو، ويحدد أدواتها وزمانها ومكانها. " قال فما بال القرون الأولى. قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى..." [ طه:51- 53].

دعك يا فرعون من مصير الآباء والأجداد. اهتم بمصيرك أنت. ثم يعيده إلى قضية الربوبية والألوهية ( ساحة القتال الحقيقة). قم وانظر إلى بديع خلق الله: فمن خلق وأبدع وأوجد؟ هذه هي القضية. وهنا قاتل يا فرعون إن كان لديك أسلحة. وأنا من يحدد ساحة القتال وأدواتها.

ولقد ظل هذا دأب موسى عليه السلام طوال الصراع، فهو من حدد طبيعة معركة المناظرة مع السحرة. " قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى" [ طه:59]. وهو من طلب من السحرة الإلقاء قبله، " قال بل ألقوا" [ طه:66].

وإذ تقتضي السياسة وعلومها، والكياسة ومهاراتها، والحروب وخدعها، من الساسة اليوم أن يحددوا هم لعدوهم ساحة المعركة، فيفرضوا عليه أو يجروه بالحيلة إلى أدواتها التي يختارون، وزمانها الذي يحددون، فإن البرمجة القرآنية للعقل المسلم قبل ذلك ومعه وبعده تنشئه عقلا فعالا يعرف من أين تؤكل الكتف، وتؤهله وتدربه ليظل واضح الهدف، مركّز الوسيلة، يتحرك وفق خططه وبرامجه، مبادئا مبادرا فارضا على أعدائه أن يواجهوه في ساحة القتال التي يريد، وحيث يختار زمانها ومكانها وأدواتها.

وما دام ذلك كذلك. فلعل جند القرآن اليوم وقد فشل عدوهم في جرهم إلى ساحة المعركة التي حدد زمانها ومكانها، يكون لهم القول الفصل بالطريقة التي يريدون، ولعلنا حين يظهر الله لنا من بأسهم في قادم الأيام ما أعدوه، سيفاجؤوننا بيوم زينة اختاروه، وساعة ضحى حددوا توقيتها بدقة ذات وعد يرتقبه تلاميذ سورة الإسراء. فانتظروا إنا منتظرون.