في محاولة لفهم دور ردع المقاومة للناهب الدولي
في عملية إطار استراتيجية الناهب الدولي بأحكام القبضة على الوطن العربي سعى الإنكليزي والفرنسي ذات سايكس-بيكو الى نعف البلاد وتجزئتها.
ومن أجل التمكين والقدرة ، قام بزرع كيان اجتماعي أجنبي يفصل جغرافياً بين أعضاء الامة وسوقها.
وفضلا عن ذلك، ولمزيد من التمكين، منح هذا الكيان الأجنبي قوة عسكرية استثنائية ليتحول الى مخفر يردع من تسول له نفسه يوماً أن يوحد أو يستقل عن الناهب.
هذا الدور الردعي انتهى بفضل المقاومة فقط وليس المهادنة والاتفاقات العقيمة .
إن الكيان الصهيوني، بعد هزيمته في غزوة تموز تحديداً وفشله في حروب غزّة وفشله في إحباط المقاومة في الضفة الغربية ومخيم جنين ، لم يعد يستطيع ان يردع أحداً.
المقاومة بجميع اشكالها في غزة والضفة ونصر تموز أيضا أنهين بدون شك إحدى وظيفتي الكيان الصهيوني الأساسيتين: الوظيفة الردعية، وههنا النصر وليس في أي مكان آخر.
وطالما ان هذا الشلل في الوظيفة قائم فالمقاومة على جميع الأصعدة قائمة ولها مفاعيلها الحاضرة ونصر تموز قائم ومفاعيله راهنة وحاضرة.
يبقى أمام العرب ان يعملوا على إنهاء الوظيفة الثانية للكيان الصهيوني، وهي منع التواصل واللحمة، وهو الاصعب، ولا يتحمل أعباءه طرف واحد مهما كان إيمانه عظيما وتفانيه استثنائياً.
وإذا كان من الصحيح أن من خلق إسرائيل خلقها بدور وظيفي مزدوج، احتلال وفصل وردع، فإن الصحيح أيضاً أنه خلقها من ضمن منظومة هيمنة متكاملة لا تقتصر عليها ولا يمكن اختصار الهيمنة بها وحدها.
هي "أثر من آثار الاستعمار" .
الهيمنة، بما تعنيه من اخضاع، هي علاقة بين ناهب ومنهوب. وهذه العلاقة لا تقتصر على نهب ارض، بل هي الى ذلك نهب ممنهج للأرض وما عليها وما تحتها.
أي دارس مبتدئ للغرب الرأسمالي يدرك هذه الحقيقة. محرك هذا الغرب الرأسمالي هو الربح والنهب، لا الأخلاق ولا القيم ولا تعميم الديمقراطية ولا الأرض بذاتها.
وهذا الغرب الرأسمالي الذي يحركه الربح لا يعتمد في سلوكياته على الصدفة بتاتا، بل على التخطيط المسبق والبرمجة انطلاقاً من عقلانية مفرطة يتميّز بها نمط معاشه.
فالرأسمالية نمط معاش عقلاني التنظيم يبحث دوماً عن افضل منهج وأفضل تقسيم للعمل وأفضل إدارة وأفضل الكفاءات للوصول الى"الفعّالية" والربح الأقصى. وهو بتطوره الطبيعي يجد نفسه باستمرار بحاجة الى التوسع أفقياً وعمودياً، هو بحاجة الى أسواق جديدة والى مواد أولية ويد عاملة رخيصتي الكلفة. من هنا كانت مناسبة "دخوله" على وطننا العربي ...
بعيد نجاحه في فرط الإبراطورية، كان لا بد للعقلانية فيه أن تدفعه إلى تصور منظومة متكاملة لا تتيح الهيمنة فحسب، بل تؤبدها عبر خلق شروط إعادة إنتاجها من داخلها.
فقام اولا بتفريغ البلاد من الاقتصاد المنتج فارضاً عليها الاعتماد حصرا على الريع، وجعلها سوقا مفتوحة لبضائعه. إنهاسياسة الدكان.
ثم جزَّأ البلاد وفق منطق يقود بنيوياً إلى تأسيس دولٍ غير قابلة للعيش بذاتها، حيث تصبح "السلطة" فيها اداة حراسة مصالحه مقابل بعض الفتات، ومادة سحرية لإثارة لعاب القرابات المتنافسة تقليديا على المُلْك بحيث تضطر في سعيها للملك إلى أن تتقرب بنيوياً من المقرر الفعلي (الخارج) وتصير كلها تابعة له، إما بالفعل او بالقوة: ناطور أو مرشح ناطور.
الناطور دور سياسي وظيفي بنيوي خلقه الناهب لتأبيد سيطرة بنى الاجتماع الأهلي السابق على مجتمع الدولة و منع قيام شروط تحوّل الاجتماع نحو الانصهار الوطني.
منظومة النهب منظومة عقلانية متكاملة اذن لا مجال فيها للصدفة أو الارتجال.
منظومة مبنية على تجزئة السوق، وخلق دول كيانات عاجزة اقتصادياً وممزقة العمران البشري لا يمكن حكمها إلا من خارجها عبر الاعتماد على الاجتماع الأهلي والاستثمار بتناقضاته التاريخية، وعبر فرض الاستهلاك بواسطة تبذير الموارد المتوافرة (الريع)، كل ذلك بوجود مخفر متقدم يردع "الأشقياء".
منظومة لا يمكن الفكاك منها عبر قائم واحدٍ من قوائمها. فإذا تغلبت فرضاً على المخفر الردعي يبقى الدكان والناطور والكيان غير العيّيش. وإذا تغلبت على الناطور يبقى الكيان العاجز والمخفر والدكان. وهكذا إلى ما لا نهاية.
المقاومة ردعت الردع في هذه المنظومة وألغىت مفاعيلها. لذلك هي راهنة وهي إنجاز دائم طالما منعت المخفر" من ممارسة ردعه.
ما تبقى من مرتكزات منظومة النهب، التجزئة والمخفر الفصلي، والدكان، والناطور، هي مهمات تاريخية تتجاوز قدرة طرف سياسي او اجتماعي واحد. هي مهمة ملقاة على العرب بأسرهم لان المطلوب هو فك الهيمنة بكل مرتكزاتها وهي مهمة صعبة، متعددة الجبهات، وتتطلب تضحيات كبيرة وتحالفات واسعة، فضلاً عن عقلانية كبيرة.
وما لجوء الرأسمالية الغربية حالياً إلى تغيير النواطير القرابية، واستدراج مرشحي النواطير عبر استخدام سلاح "المظلوميات الديمقراطية" واستنفار كل ترسانتها الأيديولوجية والمالية والعسكرية، فضلاً عن استغلال التناقضات القرابية الدينية التاريخية في اجتماعنا إلا دليلٌ على راهنية المقاوكو من نصر تموز إلى حروب غزة والضفة حاجة الناهب الدولي إلى كسرها من خلال تشغيل بقية مرتكزات منظومة النهب.
لحسن الصدف، بالنسبة لنا كعرب، فإن شروط وظروف مسعى الناهب الدولي اليوم تختلف كلياً عن ظروف ناهب القرن الماضي.
فالناهب اليوم ليس في بدايات صعوده الرأسمالي كما كان الإنكليزي والفرنسي يومها. وهو إلى ذلك يمثل رأسمالية آفلة لم تعد تنتج قيماً اقتصادية بل تعيش من الخوّات التي ما تزال تفرضها على الكون بالقوة. وطالما أن الصراع هو صراع مع منظومة النهب فإن ساحاته لا تقتصر على ساحة مخفرها وحسب أو على "أثر" من آثارها.