*أثر السجون على العمل الفلسطينى المقاوم*
تحدثنا في المقال السابق عن الأثر الذي يمكن أن تفعله الخطوات التصعيدية التي يقوم بها الأسرى على الشارع الفلسطيني وقلنا أنها قد تكون صاعقه تفجير إضافي يزيد من الواقع اشتعالاً. وتحدثنا تحديداً عن الآثر الاعلامي الذي يولد تعاطفاً قد يحرك فى النفوس دافعية المشاركة في العمل المقاوم .. بالاضافة الى إمكانية انخراط المقاومة في غزة في الدفاع عن الأسرى.
وقد جاءت تصريحات المقاومة من قمة هرمها ومن أكثر من مصدر أن المقاومة ستكون مع الأسرى بالفعل، وأنها لن تتركهم لوحدهم ، وأنها لن تسمح باستهدافهم دون رد، مما يعنى ارتفاع احتمالية اندلاع جولة جديدة في رمضان..
في هذا الجزء نتحدث عن أثر البيئة الاعتقالية على الاسرى الذين خاضوا تجربة الاعتقال ، فبقى الأثر مصاحب لهم خارج الاعتقال، مما ترك أثراً على العمل المقاوم عموماً.
شكلت مؤثرات البيئة الاعتقالية على الاسير فعلا يتعرض له بشكل يومي بل لحظي أدى الى إعادة صياغة وعيه وإدراكه بما ينسجم مع هذه المؤثرات، والتي يغلب عليها الفكر الوطني المقاوم . ويمكن أن نتحدث في هذه الورقة عن أبرز مؤثرين :
الأول: شركاء الأسر من عاش تجربة الاعتقال
من عاش تجربة الاعتقال يدرك أن وجود الأسير لفترات طويلة ومتواصلة على مدار الساعة بين ثلة من المناضلين والمجاهدين الذين اعتقلوا على خلفية مشاركتهم في أعمال المقاومة العسكرية أو السياسية أو الشعبية ، بعضهم قاد العمل المقاوم في منطقته، وبعضهم يشكل مفكراً أو ملهما أو حتى "اسطورة " في مجاله.
جلّهم ينقلون خبرتهم إلى الأسرى الذين يعيشون معهم في ظل هذه الصحبة الطويلة، وما يصاحبها من حوارات ومدارسات ومحاضرات وتوجهات ، فإن الأسير يخرج من سجنه وقد اكتسب من هؤلاء فکراً مقاوماً وخبرة وتجربة أخذها من شريك الأسر
بعض من عشنا معه في الأسر وجدنا أنه عاد إلى السجن بعد أن ارتبط وجدانياً وعاطفياً بإخوانه ورفاقه في الأسر ، فعمل في الخارج على نصرتهم . بل وسعى الى تنفيذ عمل يساهم في إطلاق سراحهم . ولدينا الكثير من التجارب والنماذج التي يمكن الاستدلال بها ، نكتفي منها في هذا المقال بنموذجين :
* في حوار دار بيني وبين الأخ المجاهد ( جمال الهور/ أبو تقي) ، وهو أسير محكوم بالسجن المؤبد عدة مرات لعضويته في خلية صوريف ومشاركته في قتل عدد من الجنود، وأسر وقتل الجندي (شارون إدري). حدثني أن فكرة تشكيل الخلية نشأت في السجن، وأن إخوة الأسر كانوا واقعاً ومحركا لها، وأن فكرة أسر الجنود كانت سعياً لعقد صفقة تبادل مع الاحتلال لتحرير إخوانهم الأسرى الذين عاشوا معهم ، وشعروا بمعاناتهم فكانت البيئة الاعتقالية وشركاء الأسر هما الدافع الحقيقي لهذا الفعل المقاوم الناجح.
وفي حديث آخر مع الأسير المجاهد (معاذ بلال/ أبو الشريف) أحد مسؤولي خلية (شهداء من أجل الأسرى) التي نفذت عدة عمليات أدت الى مقتل بضع وعشرين صهيوني، وسعت إلى أسر عدد من الجنود، كانت هذه الخلية الكبيرة - واسمها يدل على ذلك - مشروعاً لأجل الاسرى انقدحت فكرتها داخل الأسر، وكانت بياناتها التي أصدرتها عقب كل عمل تتحدث عن إطلاق سراح الأسرى وتحذر العدو من عمليات أخرى إن لم يستجيبوا لمطلب إطلاق سراح عدد من الأسرى.
كانت فترة وجودهم داخل السجن -أعضاء الخلية - ملهما ومحفراً لتشكيلها ، وتركيز عملهم في هذا الاتجاه والامثلة كثيرة لا حاجة لحصرها أو إحصائها
2- التعبئة ، والمفردات المستخدمة ومادة الحديث صهر الوعى في قالب المقاومة ..
في السجن تختلف الاسماء، ويطلق على العديد من المسميات ألقاب وأسماء جديدة ، جميعها مستوحاة من قاموس المقاومة والانتماء الوطني
فمثلاً.. السجن يسمى قلعة ، والقسم يسمى كتيبة، والغرفة تسمى خلية والأسير يسمى مجاهد أو مناضل ، ويوم العمل الجماعي يسمى يوم جهادي ، والخطوات التصعيدية تسمى خطوات نضالية، والبيان يسمى تعميم وطني، ولجنة التنسيق الفصائلي تسمى لجنة وطنية..
فالمرء يعيش مع هذه المصطلحات، ويسمعها في يومه عشرات المرات، وحتى الأسماء الشخصيه يتحول كثير منها إلى كُنى تعبر عن الفكر الذي يحمله الاسير، أو الروح الوطنية والثورية التي اعتقل فى سبيلها.
أما البرامج الثقافية التي تقدمها التنظيمات في السجن فلا تخلو من المواد التعبوية والوطنية التي تعمق الانتماء لهذه الأرض، بالاضافة الى المواد الفكرية التي تعبر عن ايدولوجيا التنظيم.. فمادة القضية الفلسطينية، ومواد التعبئة الأمنية وتاريخ الثورات الفلسطينية .. وغيرها من المواد حاضرة في البرامج الثقافية لمعظم التنظيمات داخل السجن بشكل دائم .
وفوق ذلك كله فمادة الحديث التي تدور بين الاسرى تأخذ طابعاً سياسياً وحركياً وفكرياً أكثر من غيره . فلا تجارة تأخذ الوقت، ولا أشغال تستنزف الأسير ، ولا أحداث تسيطر على مادة الحديث.
كل ذلك يؤثر على فكر الأسير ووعيه وقناعاته ، فيجعل الهم الوطني حاضراً في ذهنه أكثر من غيره - دون الانتقاص من الاخرين - فيزيد من دافعيته للمشاركة في العمل المقاوم من جديد، الأمر الذي يفسر عودة نسبة كبيرة من الأسرى المحررين الى الأسر أكثر من مرة.
*وخلاصة القول أن السجون شكلت إحدى رافعات العمل الفلسطيني المقاوم بشتى أشكاله، بشكل مباشر، وغير مباشر*.