تكلفة التبليغ عن الفساد في فلسطين
عندما ترى القوانين الموقعة من قبل الحكومة الفلسطينية بشأن الالتزام باتخاذ أفضل التدابير لمكافحة الفساد، يأتي الى الاعتقاد بأننا دولة وصلت الى مراحل متقدمة في شأن مكافحة الفساد، لكن في واقع الامر لو تتبعنا المسألة الى ابعاد أعمق من هذا، سنكشف مدى السطحية لدينا في محاولة علاج مشكلة حقيقية تؤرق المجتمع الفلسطيني، بل ابعد من ذلك سوف نجد مع الأسف عدم وجود نوايا حقيقية لمعالجة هذه الظاهرة.
لا يمكن حصر أنواع الفساد المستفحل في مؤسسات دولتنا، لان ظواهر الفساد في حقيقتها تأخذ اشكال وأنواع متعددة، من غير الممكن ادراجها في موضع واحد.
اليوم سوف يتم إلقاء الضوء على جانب واحد من جوانب الفساد الموجود في مؤسساتنا، ويرتبط هذا بالشخصيات أو المبلغين الذين يأخذون على عاتقهم ومسؤوليتهم التبليغ عن ظواهر فساد يشاهدوها ويشهدوا عليها في أماكن تواجدهم في قطاعات عملهم مختلفة. الامر الطبيعي بالنسبة للمبلغ عن حالة فساد ان يُشاد بصدقه وحرصه على ضمان كفاءة عمل المؤسسة التي يعمل بها، بل إن الحكومة مخولة في تأمين الحماية له وذلك بسبب حساسية طبيعة القيام بالتبليغ وتقديم المعلومات حول ظواهر الفساد.
المشكلة لدينا أن الأشخاص الذين يقومون بالإبلاغ عن حالات الفساد، يعانون من التهميش والنبذ وقد ويصل الامر فيهم كما حصل مع عديد من الأشخاص الى فقدان وظائفهم، مروة فرح واميرة شحادة وياسر خطاطبة وغيرهم تعرضوا الى الخذلان من الحكومة ومن مواقع عملهم بسبب قيامهم بالإبلاغ عن حالات فساد شهدوا عليها في أماكن أعمالهم، وأيضا أجبروا على ترك وظائفهم بشكل يتناقض تماما مع احقيتهم في الإشادة والمكافآت نظرا لشجاعتهم ومهنيتهم.
مجرد صورة صغيرة لما قد يحصل مع الانسان الفلسطيني إذا مع قرر الإبلاغ عن حالات فساد، ياسر خطاطبة من سكان مدينة نابلس كان يعمل في بلدية المدينة، قرر التوجه الى هيئة مكافحة الفساد لتقديم تقرير حول فساد ينطوي على مبالغ مالية ضخمة نتيجة إبرام صفقات غير قانونية، تعرض ياسر الى الاعتقال، والملاحقات القانونية الى الان تطارده، و هذا يتنافى تماما مع حق مقدم الشكوى او المبلغ في الحصول على حماية فورية وشاملة من الحكومة الفلسطينية حسب نظام حماية المبلغين والشهود الذي صادق عليه مجلس الوزراء في عام 2019
قررت الحكومة الفلسطينية في عام 2019 اعتماد نظام حماية المبلغين والشهود، وذلك لتأكيد جديتها حول مساعيها في مكافحة الفساد وحماية من يبلغ عن حالات فساد. نظام الحماية يشمل توفير وسائل تضمن الإبقاء على هوية المبلغ سرية، وفي حال انكشفت هويته على القانون توفير الحماية الشخصية له، بالإضافة الى منع أي جهة قانونية او جنائية من التعرض له وملاحقته.
منذ عام 2017 وحتى الربع الثاني من عام 2021، حسب التقارير السنوية والفصلية الصادرة عن هيئة مكافحة الفساد تم منح 23 أمر الحماية من أصل 66 قُدِمت منذ اعتماد هذا النظام في نوفمبر 2019.
الأرقام تبين ان هناك تقصير كبير من جهة الحكومة للقيام بالدور الواجب عليها في حماية المبلغين من مواطنيها. الغريب في الامر ان هناك شهادات تثبت ان الحصول على امر الحماية قد يأتي بالضرر على المبلغ بدلا من حمايته. اميرة شحادة تؤكد ذلك في القصة التي روتها عن ما تعرضت له من ضغوط وتهديدات بالرغم من حصولها على الامر الحماية، وانتهى بها الامر الى فقدان عملها في ديوان المحكمة.
هذه القصص تثبت عدم جدية الدولة في معالجة ظواهر الفساد ومتابعتها، وإلا كيف يمكن ان يصبح المدعي مدعى عليه والمبلغ متهم، بدلا من إلقاء الضوء على الفساد ومصادره يتم إدانة واتهام المبلغ في ظاهرة لا نكاد نراها في الدول التي تمتلك قوانين ودساتير قوية. عندما اشاعت صحيفة واشنطن بوست فضيحة ووترجيت في عام 1972 والتي على أثرها قام الرئيس الأمريكي نيكسون بتقديم استقالته، لم تقم الدولة بملاحقة الصحيفة او مقدمي البلاغ الحقيقيين، إنما واجهت المسؤولين عن الفساد والمتمثلة بالرئيس الأمريكي وبعض مستشاريه.
حتى لا نبتعد كثيرا، دولة الاحتلال تعتبر أقرب جهة يمكن الاعتماد عليها لرؤية كيفية التعامل السليم مع الفساد، نتنياهو بالرغم من إنجازاته وتاريخه الطويل كرئيس وزراء لدولة الاحتلال الى اليوم يُجَرجر الى المحاكم بسبب تهم موجهة اليه تتعلق بالفساد، وأولمرت أول رئيس حكومة يدخل السجن في إسرائيل بسبب تهم الفساد، وقد ظهرت صور له وهو في السجن وكان يبدو ضعيفا وهزيلا الامر الذي جعل القضاء الإسرائيلي يمنحه إفراج مبكر من السجن بعد قضائه تقريبا نصف مدة محكوميته البالغة 27 شهرا. أتذكر في واحدة من محاضرات الشيخ بسام جرار كان قد ذكر ان من أسباب قوة إسرائيل واستمرارية وجودها حرصها الشديد على محاربة وعدم التسامح مع الفساد حتى لو وصل الامر الى محاسبة كبار وابطال دولة الاحتلال.
فلسطين بدولتها وشعبها أحق من غيرها في محاربة الفساد، بسبب الخصوصية التي تمتلكها كونها دولة تحت احتلال. حسب مقتضيات المنطق ولو نظرنا الى الامر من كل الجوانب، الفلسطينيون أكثر شعب يجب ان يلتزم في محاربة الفساد، الدين الاسلامي يرفض بشكل قطعي الفساد وقيم الوطنية تتنافى مع مظاهر الفساد وجميع تجارب الأمم التحررية من كافة اشكال الاحتلال والاستعمار تبدأ من خلال عملية التطهير من الداخل من كافة اشكال الخيانة والفساد قبل الخوض في معركة حقيقية مع المحتل الرئيسي.
لن يحلم الفلسطينيون في حياة حرة وهنية إن بقي سوس الفساد ينخر في مؤسساتهم، الدولة بكافة عناصرها وبالعمل المشترك يجب ان تضع نهاية للفساد، ونستطيع القول ان حماية المبلغين عن الفساد يمكن ان يكون الخطوة الأولى نحو هذا الطريق.
** المراجع:
دليل شريط التسجيل القاطع
https://security-legislation.ps/ar/law/100204 قرار مجلس الوزراء رقم (7) لسنة 2019م بنظام حماية المبلغين والشهود والمخبرين والخبراء في قضايا الفساد وأقاربهم والأشخاص وثيقي الصلة بهم