الحياة مفاوضات ....عندما تمتلك القوة

 

 في عام ١٩٩٦، وخلال المفاوضات بين وفد من المجاهدين الشيشان مع نظرائهم الروس لعقد هدنة في محاولة لوقف القتال الذي استمر لسنوات بين الاحتلال الروسي و المقاومة الشيشانية، أبى الرئيس الروسي يلتسن وقتها إلا و الجلوس على رأس الطاولة، و حاول إلزام رجال الوفد الشيشاني الجلوس على الطرف الجانبي من الطاولة تعالياً و محاولة للتأكيد على التفوق الروسي، طلب الشيشانيون في البداية من يلتسن الجلوس في الجهة المقابلة لهم على الطاولة و احترام عادات التفاوض بين الأطراف المتحاربة ، و عندما لقوا الرفض من جانب يلتسن بسبب عناده و عنتريته، قرر الوفد الشيشاني الانسحاب من المفاوضات و بالتالي سوف تستمر العمليات القتالية بين الطرفين، فأدرك الروس خطورة الموقف و أُجبِر رئيسهم على الجلوس في الجهة المقابلة من الوفد الشيشاني على طاولة المفاوضات، و تحول التكبر إلى تواضع بسبب الحزم و القوة التي أظهرها الشيشانيون.

 

 

 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، بدأت مفاوضات لوزان بين تركيا من جانب وبين بريطانيا وفرنسا في الجانب الآخر، وكانت قد تعثرت المفاوضات في البداية بسبب عدم قبول تركيا لشروط لوزان القاسية، إلا انها وافقت في النهاية كراهيةً،  وذلك لأنها كانت الطرف المهزوم في الحرب، وقد خسرت تركيا في المعاهدة جميع ممتلكاتها خارج حدود دولة تركيا الحديثة، أي جميع ممتلكات الدولة العثمانية السابقة سواء في آسيا او أوروبا أو أفريقيا.

 

 وقعت القصتين في زمانين ومكانين مختلفين، إلا انه يمكن الاتفاق على أن القوة كانت هي العامل الأبرز والمُحَدِّد في حسم المفاوضات وتحقيق الأهداف التي يرجوها أي طرف منها في كلا الحالتين. 

 

 

** مِن فلسطين:

 

 

نشر موقع أكسيوس الأمريكي نقلا عن مسؤولين من الاحتلال الإسرائيلي أن حكومة يبنيت رفضت اقتراح الرئيس الأمريكي بايدن لعقد قمة بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية، وهذه ليست المرة الأولى التي يرفض فيها الاحتلال الجلوس مع مسؤولي السلطة الفلسطينية للتوصل إلى تفاهمات حول القضية الفلسطينية،  

فسياسة الاحتلال واضحة في تعمدها تجاهل السلطة، وهذا يظهر من خلال استمرارها في انتهاك الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، من خلال التوسع في الاستيطان، والتوغل غير القانوني المستمر في داخل أراضي الضفة الغربية، والسيطرة على أموال الضرائب الفلسطينية وفرض حصار داخلي و خارجي على الدولة الفلسطينية.                                                

 

 

 

نهج الاحتلال الإسرائيلي باتجاه السلطة الفلسطينية لم يأت من فراغ، فدولة الاحتلال تعلم يقيناً السلطة الفلسطينية باتت ضعيفة جداً، ولم تُعَد تلك القوة التي دائماً ما كانت تؤرق الاحتلال وتضج استقراره، فالحركة اليوم اصبحت عبارة عن شركة امنية تعتمد في وجودها كلياً على رضا دولة الاحتلال والعالم الغربي الصهيوني، والوصول إلى هذه المرحلة المؤسفة، جاء عندما قررت حركة فتح إلقاء سلاحها والتخلي عن نهجها المقاوم وتسليم نفسها بوعود المحتل والغرب، والتي هي أشبه بوعود إبليس بالجنة.

 

 

واليوم، فقدت السلطة الفلسطينية رصيدها الشعبي على الشارع، فالشعب الفلسطيني محمل بمشاعر الغضب بسبب سياسات حكومته، وكذلك السلطة الفلسطينية فقدت جميع مقومات حلم الدولة الحقيقية التي هي أساساً بنت فكرة وجودها عليها، فالأرض والسماء والبحر والمال وأي مقومات تساعد على قيام الدولة باتت بأيدي الاحتلال الإسرائيلي.

 

 

 عندما تأسست حركة فتح في الستينيات من القرن الماضي، قامت على فكرة العمل الثوري المسلح لنيل الحقوق الفلسطينية، بالرغم ان الحركة مرت بتقلبات واختبارات عديدة إلا أن عملها المقاوم اجبر الجميع على الاعتراف بها، وفي عام ١٩٧٤، ألقى الرئيس الراحل ياسر عرفات خطابا أمام الجمعية العامة للأمم لمتحدة.

 

 

اتفاق أوسلو جاء بعد جهود إسرائيلية كبيرة بدأت من بداية السبعينات لمحاولة استقطاب حركة فتح إلى طاولة المفاوضات، وكانت الحركة وقتها في ريعان عنفوانها النضالي، ولكن بعد عشرين سنة، والتي خلالها تعرضت حركة فتح لنكبات عديدة أبرزها خروجها من لبنان والأردن وفقدانها فرصة المواجهات الحدودية مع الاحتلال، ونقم الأنظمة العربية على الحركة، وهزيمتها في لبنان، وفقدانها لكثير من قادتها البارزين أمثال صلاح خلف وخليل الوزير.

 

 

بعد هذه الموجة من النكبات التي عصفت بالحركة، دخلت فتح إلى المفاوضات منهكة وضعيفة، حيث تمكن الجانب الإسرائيلي من فرض شروطه على طاولة المفاوضات، وقد كانت مخاسر الحركة أكبر من انتصاراتها في الاتفاقية، فتأجيل جميع قضايا فلسطين المرحلية الى المستقبل خير دليل أن حركة فتح خسرت في المفاوضات سواء على الصعيد الداخلي او الخارجي. 

 

 

لا إشكال في خوض المفاوضات مع العدو، فجميع القوى المتحاربة كما ثبت تاريخياً لا بد لها أن تصل إلى مرحلة لا مفر منها من الجلوس على طاولة واحدة للتفاوض، ولكن الإشكال ان تفاوض وأنت ضعيف، لأن العدو سيستغل ضعفك ويأكل المزيد من حقوقك.

 

  الرئيس عباس خلال تصريحاته دائما ما يؤكد على فكرة الحل بالمفاوضات والديبلوماسية، لكن هل حققت السلطة الفلسطينية اي شيء على ارض الواقع؟، ألا تعد تجربة مفاوضات طالبان مع الاحتلال الغربي أكبر دليل على أن القوة هي كلمة السر في فرض الشروط اثناء المفاوضات.

 

تيار السلطة الفلسطينية يحاول اقناع الشعب انهم اتخذوا من منهج المفاوضات طريقاً آخر للوصول الى حل للقضية الفلسطينية، يميزهم عن طريق المقاومة المتبع في غزة، المضحك انهم يمارسون المفاوضات والديبلوماسية بشكل غير صحيح، بل بشكل يتنافى تماماً مع الكيفية التي تدار بها المفاوضات، لا يختلف مثلهم مع من يقرأ الهندسة ويقرر العمل بالطب.   

 

الحديث عن الماضي له انعكاسات على الحاضر، فالسلطة الوطنية الفلسطينية لم تقرر بعد التعلم من اخطائها و الوقوف عليها، ما زالت على نهجها المستمر في المفاوضات عن ضعف، لا يمكن لضعيف أن يأخذ حق إنما يؤخذ من حقوقه.