الأقصى بين الحقيقة والتزوير
في الآونة الأخيرة، تعرض المسجد الأقصى إلى اعتداءات شرسة ومتكررة من قوات الاحتلال الإسرائيلي من قِبل أعداد كبيرة من قطعان المستوطنين والجنود المدججين في السلاح، وتعرض الفلسطينيون العزل هناك إلى شتى أنواع الاعتداء والترهيب والاعتقال.
وفقاً للأرقام الواردة من العديد من المصادر فإن هجمات الصهاينة على المسجد الأقصى، نتج عنها عدد كبير من الإصابات والاعتقالات بين صفوف الفلسطينيين و التي قُدّرت بالمئات، و ذلك بسبب استخدام العنف المفرط والذي تنوع بين الرصاص الحي والمطاطي، وبالإضافة الى العديد من الإصابات بسبب الضرب الوحشي بالهراوات.
و على الرغم من ذلك، فإنّ العالم غير العادل يحاول من خلال الإعلام وتصريحات السياسيين والدبلوماسيين تصوير ما يحدث في الأقصى، على أنه مواجهات بين أصحاب الديانات المختلفة على حقوق دينية تتعلق بتمسك كل دين بحقه في فرض تواجده على مكان مقدس، وبالتحديد أقصد هنا الأديان السماوية الثلاث الإسلام واليهودية والمسيحية.
فالعالم يتناسى و يتغافل عن حقيقة أن المواجهات في الأقصى لم يكن يُسمع عنها في حال عدنا بالزمن، فحوالي مئة سنة من الآن كان العُبّاد من أتباع الديانات السماوية الثلاث يمارسون شعائرهم الدينية في القدس و في محيط المسجد الأقصى بكامل الحرية، و لكن مع قدوم الاحتلال الإسرائيلي و فرض سيطرته بالكامل على القدس في عام ١٩٦٧، بدأ يظهر الى السطح رغبة الاحتلال في جعل مدينة القدس و مقدساتها تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة، و تزامن مع هذه السيطرة محاولات الصهاينة القضاء على اي وجود ديني آخر في الأماكن التي تحمل رمزية دينية.
والمتتبع لتاريخ المواجهات التي تدور في محيط المسجد الأقصى المبارك، يجد أن هناك سياسات استفزازية ممنهجة قد عشعشت في العقيدة الإسرائيلية والتي تقوم على فكرة أن الوجود هنا ينبغي أن يكون لنا ولا لسوانا.
إنّ ثورة البراق في ١٩٢٩، وإحراق المسجد الأقصى في ١٩٦٩، وهبة النفق في ١٩٩٦، وانتفاضة الأقصى في ٢٠٠٠، وهبة البوابات الإلكترونية في ٢٠١٧، وسيف القدس في ٢٠٢١، ومواجهات الأقصى في عام ٢٠٢٢ والتي تجددت مرة أخرى قبل أيام كانت كلها بسبب اعتداءات الصهاينة على الفلسطينيين، و لم يقتصر الأمر على المسلمين فقط، و إنما طالت المسيحيين أصلا، حيث اعتدت قوات الاحتلال عليهم أثناء احتفالهم بسبت النور ، فجميع هذه الأمثلة تثبت أن الاعتداء دائماً يأتي من طرف الاحتلال تجاه أتباع الديانات الأخرى، وليس كما يحاول العالم في جعل الصراع يبدو وكأنه نزاع بين أتباع الأديان المختلفة.
لكننا لم نسمع يوماً عن مواجهات بين المسيحيين والمسلمين في القدس، فقد اعتادت المدينة على أن تكون مركزاً للأديان السماوية، وهناك العديد من الأحياء تسمى بأديان قاطنيها، فهناك حي يهودي تاريخي في مدينة القدس يعيش فيه اليهود ويمارسون فيه شعائرهم الدينية بحرية المدينة، وما تشهده المدينة حالياً وسابقاً من مشاكل وأزمات قدمت مع قدوم الاحتلال الإسرائيلي.
و قد يطرح أحدٌ سؤالاً، لماذا يتسبب الاحتلال الإسرائيلي بهذه الأزمات على الرغم من ادعاءاته بحرصه على الاستقرار والأمن؟ فما يحدث في مدينة القدس و محيطها و أماكنها المقدسة يقع ضمن نطاق العقلية الإسرائيلية القائمة على الاستعمار و الإحلال، فالقدس كشبيهاتها من المدن الفلسطينية الأخرى، تقع تحت سلم أهداف دولة الاحتلال للسيطرة عليها، و من هنا نقول أن استماتة دولة الاحتلال في نقل العاصمة إلى القدس و الذي تحقق على يد الرئيس الأمريكي ترامب يمكن اعتباره قفزة كبيرة في إثبات ملكيتهم الكاملة للمدينة، و مع هذا، لا يرى الشعب الفلسطيني في وجودهم سوى أنه غير شرعي، و جميع محاولات شرعنته من خلال تأييد بعض أطراف المجتمع الدولي مجرد حبر على ورق، فحق الشعب الفلسطيني في أرضه و مقدساته أمر ثابت لا يسقط بالتقادم أو تآمر المتخاذلين، فموازين القوى متقلبة و أحوال الشعوب متأرجحة ، و لكن الحقوق تبقى كما هي، و لن يضيع حق إنسان مالم يسكت عنه ،كما يقول المثل "ما بضيع حق وراه مطالب".
أنا ادعو إلى الانتباه إلى ما يتم الترويج له حول ما يحصل في الأقصى، فالمشكلة هناك لم تكن يوماً تتعلق بقدسية المكان لأتباع الديانات المختلفة، إنما ولدت المشاكل مع قدوم الاحتلال الساعي نحو القضاء على الوجود الفلسطيني، و لا تنتهي هذه المشاكل إلا بانتهاء الاحتلال.