في السجن.. حيث نعلق بين الموت والحياة

 

الأسيرة السابقة سوزان العويوي

كانت الساعة تُقارب 2:30 فجرا عندما عدت من جولة ميدانية نفذتها برفقة زملاء لي في مجلس بلدية الخليل،  في العشرين من شهر رمضان المبارك، طلبت من عائلتي ايقاظي على صلاة الفجر فقط خشية الا استيقظ على المنبه بسبب التعب. دقت الساعة 4 فجراً فاذا بالمنبه يرن بالتزامن مع طرق اولادي على غرفتي لإيقاظي مع رنة هاتف زوجي، كان كل شيء مفهوماً عدا رنين هاتف زوجي في هذا الوقت.

رد زوجي ومباشرة امتقع وجهه، سألناه من المتصل فاخبرني انه صاحب البيت الذي كنا نقطنه سابقا ًيخبره بان جنود الاحتلال اقتحموا العمارة يسالون عنا، وعن عنواننا الجديد، لحظات ادركت وقتها انني المستهدفة، وأدركت ايضا انهم – جنود الاحتلال- لن يهتدوا لمنزلنا الجديد بلا مساعدة، وفعلا اقتحموا بيت اهلي واصطحبوا معهم اخي الاسير السابق لأكثر من 11 عام ليدلهم على منزلي.

كان الاقتحام صادماً رغم انني عرفت عنه مسبقا فنجونا من مباغتة عنف الطرق على الأبواب، دخل الجنود وانتشروا سريعا في المنزل، ثم دخل ضابط وسال عن هويتي، اصطحبني وزوجي الى غرفة واغلق الباب ثم بدأ يسال وعندما وصل لسؤاله عما اذا كنت اتناول ادوية معينة ادركت ان الهدف اعتقالي، تحدث مع مجندة كانت ترافقهم بالعبرية فطلبت مني الدخول لغرفة اخرى للتفتيش الجسدي العاري، وعلى عجل وبمساعدة اخي وضعت حاجيات اساسية سريعا في حقيبة، ودعت ابي – الذي اتى بعدما سمع ما حدث بعد خروجه من صلاة الفجر بالمسجد- وبجانبه كان يقف اخي ثم زوجي ثم أبنائي، ودعتهم جميعا وغادرت المنزل للمجهول.

لا زلت اذكر جيدا تلك الرجفة في ذقن والدي وهو يحاول يكتم ألمه، وكذا الصدمة في عيني اخي وزوجي، اما ابنائي وعد وحذيفة فكانت الدموع تسبق أي ملامح أخرى قد تظهر على محياهم، أما قتيبة الذي كان قد غفى قبل كل هذا بوقت قصير فقد ايقظه احدهم ليودعني، كانت الصدمة ومحاولة استيعاب الامر صعبة عليه، حتى انني خفت من تأثره بالموقف وقتها.

قبل الظهيرة كنت قد وصلت مركز تحقيق عسقلان، احدهم في البوسطة أخبرني باسم السجن، كنت لا أزال اشعر انني في كابوس سأستيقظ منه، مر اليوم والثاني والثالث، وعند موعد الافطار أعادتني السجانة الى زنزانتي بعد جلسة تحقيق قاسية، جلست أذكر الله فإذا بمشهد ابني الصغير قتيبة وهو يمازحنا كل يوم لحظة الافطار موهما ايانا بانه لن ينتظر الثواني الاخيرة المتبقية للصيام وسيفطر، فنصرخ جميعا به ضاحكين،  وصادف يومها ذكرى ميلاد ابني حذيفة التي لم أكن اضيعه بلا هدية له، قفز المشهد والذكرى الى مخيلتي فجأة فدخلت بحالة بكاء شديدة انتهت بانهيار استدعى اخراجي من الزنزانة لأكثر من 3 ساعات حتى استطعت استيعاب الأمر، وهدأ روع نفسي، ادركت وقتها أنني أسيرة امضي العشر الاواخر من رمضان في زنازين تحقيق عسقلان، صدمني الابتعاد عن ابنائي في رمضان ولم ادرك انني سأغيب عنهم عاما كاملا بأعياده ومناسباته وأحداثه كلها.

في مكاتب التحقيق، كانت الامور أكثر تعقيدا، فقد توالى على التحقيق معي أكثر من 13 محققا بفترات مختلفة، كان التهديد بالبقاء هناك للابد، أضافة للتهديد باعتقال اخوتي وابنائي وصديقاتي مستمرا على السنة المحققين، استخدموا الصراخ الشديد تارة، وتارة اخرى الاقتراب الجسدي حتى شفا التلامس، الاسئلة المتكررة والوعيد ورمي التهم الجزاف المرعبة بقي ديدن المحققين لانتزاع اعترافات مني باي ثمن، بقيت عدة ايام لا اعرف لم تم اعتقالي، وما هي جريمتي لأكون في هذا المكان المقيت، اسئلة كثيرة بقيت برسم الاجابة لأسابيع طويلة، فانا لم التق المحامي لأكثر من 20 يوما، ومثلها مضت قبل ان التقي بممثل الصليب الاحمر.

جولات طويلة ومعقدة من التحقيق، كانت تستمر حتى 16 ساعة رغم انها كانت أيام رمضان وكنت صائمة، ولا شيء في الزنازين الا القتامة، ولا فرق بين زنازين النساء والرجال، فكلها واحد، ويتم نقل الاسرى والاسيرات بشكل غريب، ففي احدى المرات ادخلوني زنانة كان الفراش فيها دافئا، وكان من الواضح ان احدهم غادرها للتو، وبعد خروجي من السجن اخبرني اسير محرر انه أُدخل لزنزانة فوجد فيها ملابس نساء، اخبره المحقق بعدها انها لأسيرة تًدعى "سوزان".

حتى تلك الاحتياجات النسائية كانت مفقودة بالسجن، وبعد الحاج طويل يتم توفيرها، ولكن لوقاحة السجانين وامعانهم في الضغط علينا كان السجان هو من يوفرها لنا لا السجانات. فالسجانات هناك يتعاملن معنا وكأننا مخلوقات غريبة، يمسكننا من ايدينا بشكل مُهين لنقلنا من الزنازين الى مكاتب التحقيق، فعيوننا معصوبة بقطع قماش سوداء نتنة الرائحة تحجب عيوننا عن رؤية الطريق تماما.

مرت اسابيع التحقيق في سجن عسقلان والعزل الانفرادي هناك  طويلة وصعبة كأنها دهور، وبعد اسابيع من منع لقاء المحامي او الاهل في المحاكم، سمح واخيرا لهم حضور أول جلسات المحاكمة برفقة المحامي، دخلت قاعة المحكمة مقيدة الارجل، ورغم اهمية الحديث مع المحامي الذي اراه لأول مرة لأعرف وضعي القانوني وتفاصيل قضيتي،  الا ان لهفتي للقاء أي من اهلي كانت اقوى، كان في الجهة الاخرة يقف زوجي برفقة ابنتي وعد، استغربت صمتهما، وعندما بدأت الحديث معهما فاذا بهما ينهاران بالبكاء، ولم استطع فهم ما حدث، فلدي ألف سؤال واستفسار وهما يبكيان بصمت، ولا يجيبون اسئلتي، تحاورت مع المحامي قليلا لكن ردة فعلهما لم تغب عن خاطري بعد تلك الجلسة، وبعد خروجي من السجن سالتهما عن سبب تصرفهما الغريب، فأخبراني انهما لم يتعرفا عليّ رغم أن الفارق بيني وبينهما امتار قليلة، قالا بان ملامحي تغيرت كثيرا بسبب انخفاض وزني الشديد، اضافة لارتدائي الحجاب الاسود - الذي أحضره لي ضابط الشاباك مع ملابس وحاجيات اخرى -  لأول مرة فلم  يستطيعا التعرف الي.

بعد انتهاء الجولة الاولى من التحقيق ونقلي لسجن "هشارون" لعدة ايام، اخبرتني ممثلة الاسيرات باني يجب ان استعد لجلسة محاكمة، وغالبا سأستطيع خلال هذه الجلسة استلام لائحة الاتهام الخاصة بقضيتي وبالتالي سيستطيع ابنائي حذيفة وقتيبة زيارتي في المرة المقبلة، كونهما قاصرين، فإصدار التصاريح لمن هم فوق 16 عاما يحتاج لعدة شهور حتى يصدر، فكانت  صدمتي يومها بطلب النيابة إعادتي للتحقيق فكانت 8 أيام إضافية في الزنازين، وبعد عودتي لسجن "هشارون" بعدة ايام جرت جلسة محاكمة لي وحصلت على لائحة الاتهام بي وبالتالي بدأت الاستعداد لاستقبال ابنائي في الزيارة المقبلة.

مرت الساعات بطيئة جدا وانا انتظر يوم الزيارة، صباحا تجهزت جيداُ، فيجب أن يراني ابنائي بأحسن حال كي يطمئنان عليّ، كانت اذاعة صوت فلسطين في حينه تبث برنامجاً يرسل من خلاله الأهالي رسائل للأسرى والاسيرات خاصة هؤلاء الاسرى الذين لا يتواجد في اقسامهم هواتف مهربة، فجاء اتصال صادم بان ابني حذيفة ابن الاربعة عشر عاما قد تم منعه أمنياً من اجتياز حاجز ترقوميا فعاد للبيت، صدمني الخبر لكنني لم اصدقه.

 حان وقت الزيارة فمشينا في طابور فرادي حتى وصلنا قاعة الزيارة التي كنت أراها للمرة الأولى، دخل الاهالي وهنا كانت صدمتي التي لم اتمالك نفسي وقتها فبكيت، دخل ابني الصغير قتيبة ابن الاحد عشر عاما لقاعة الزيارة وحده، بلا مرافق من اهلي، ولم يكن قد تعرف الي أي من اهالي الاسيرات بعد.

 صدمتني رؤيته أمامي وحيدا في رحلة ادرك تماما قسوتها حينا كنت اتوجه لزيارة اشقائي في السجون قبل اعتقالي، فكيف عبر الحاجز وحده، وكيف ركض من باص الصليب الاحمر الذي يحمل رقم الضفة  الى باص آخر استأجرته ذات الجهة لكن بنمرة صفراء، وكيف تصرف قتيبة لحظة تدقيق الأوراق والتفتيش الجسدي المهين، وكيف امضى وقت الانتظار الطويل قبل دخول قاعة الزيارة، ماذا خطر بباله وهو يركب باصا يقطع مسافات طويلة داخل اراضِ لا يعرفها ولم يصلها من قبل. وفي الزيارة التالية تكرر الامر ذاته وتم ارجاع حذيفة عن الحاجز ووصلني قتيبة فقط، قتيبة الصغير عاد إلى سجن "هشارون" للمرة الثانية وحده.

توقفت بعدها الزيارات لعدة أسباب، فلم تكن قد صدرت بعد تصاريح عائلتي التي تمكنهم من زيارتي، كما انه ومع بداية شهر ايلول تزامن نقلي لسجن الدامون على جبال دالية الكرمل في حيفا، مع بدء الاعياد الصهيونية، فبات السجن كأنه خراب، فلا محامين ولا زيارات ولا مقصف ولا حتى اذاعات راديو احيانا، شعرت وكأنني في كوكب آخر، لم نستطع وقتها معرفة أي خبر عن أحبابنا واهلنا في الخارج.

 أذكر انه في احدى ليالي ذلك الشهر المقيت، استيقظت لصلاة القيام، وما بدأت بالوضوء حتى اجتاحتني نوبة بكاء شديدة استمرت اكثر من نصف ساعة استيقظ على اثرها اغلب الاسيرات الاربعة عشر الموجودات معي في نفس الزنزانة، لم استطع تفسير ما حدث معي، لكنني حفظ التاريخ جيدا ليلتها، عرفت وقتها انه وفي تلك اللحظات تحديدا اصيبت جدتي – التي اعزها واحبها حبا لا يعلمه الا الله- بجلطة حادة فقدت على اثرها الحركة والنطق والسمع، كانت ليلة من أ+صعب ليالي السجن.

انتهى شهر ايلول بكل جفافه وقساوته، وبدأنا بالاستعداد لاستقبال تشرين الذي سيكون الثالث منه أول زيارة سأرى فيها عائلتي بعد 4 شهور على الاعتقال، كان يدور برأسي الف سؤال ولا اعلم هل ستكفي ال45 دقيقة للإجابة عليها ام لا، كما انني لم أكن اعرف وقتها من سيزورني بالتحديد.

جاء يوم الاربعاء الذي نستقبل به اهالينا، حان الوقت وخرجنا لقاعة الزيارة خارج القسم ومشينا بطابور نحن الاسيرات بعد تفتيش جسدي مهين اعتدنا عليه، كل اسيرتين في قيد واحد، وصلنا القاعة وكنا وقتها 7 اسيرات صديقات بقضية واحدة من الخليل، نرتدي حجابات بيضاء، وصلنا الاهالي الذين استقبلونا بالدموع، فهم اعتادوا علينا صديقات في فضاء الحرية، ولم يتوقعوا ان يرونا نسير في هذا المسار مقيدات.

وبعد البحث عن الشباك الزجاجي الغليظ الذي جلس على طرفه الاخر عائلتي، وقبل ان امسك سماعة الهاتف المشوشة للحديث معهم، كنت احتاج لتفقد ملامح ابنائي الثلاثة، فقد أكل الشوق من قلبي الكثير طوال الاربعة شهور الماضية، بكينا بداية جميعا، انا وزوجي وابنائي، واستغرقنا بعض الوقت حتى استطعنا البدء في الحديث.

 كانت يهمني ان اعرف ما حدث مع ابنتي وعد التي بدأت عامها المدرسي الاخير "التوجيهي" قبل أكثر من شهر، ذلك العام الذي طالما حلمت بأن أقف سندا لها فيه، ولم ادرك انني ساترك لها عائلة كاملة وبيتا تعتني بهم بدلا عني اضافة لدراستها، والاصعب انها تعرضت لوضع صحي الزمها الفراش لأكثر من شهر، فكانت معها عناية الله اولا ومن ثم رعاية امي واخواتي واهلي ووالدها بالطبع.

أما حذيفة فقد كانت عينيه تدوران في حيرة مريبة، اختلط بها الحزن مع الجزع، وعرفت لاحقا كم تأثرت معنوياته ودراسته سلبا، حتى كاد يترك المدرسة لولا لطف الله. أما صغيري قتيبة فكان يحاول رغم صغر سنه أن يظهر قويا متماسكا امامي، وكذا الحال بالنسبة لزوجي فقد لمحت في عينيه ثقل العبء الذي تركته له، وأدركت وقتها كم تتأثر العوائل  باعتقال الامهات، في حين يتجاوز الابناء محنة اعتقال الآباء بخسائر أقل بكثير.

تسببت مياه السجن لي بالعديد من المشاكل الصحية، فهي ملوثة او على الاقل ترتفع بها نسبة الكلور بشكل كبير، حتى أن مدير السجن منعنا من شربها فاضطررنا لشراء الماء على حسابنا الشخصي، بعد عدة شهور على استخدام المياه وتحديدا مياه سجن الدامون بدأت تظهر مشكلة في الجلد لدي مما استلزم نقلي لمستشفى "رمبام" في حيفا مرتين، اضافة الى مشاكل تساقط الشعر الشديدة ومشاكل الترسبات في الكلى التي تفاقمت وغيرها من مشاكل.

وتبقى تجربة السجن استثنائية، واظنها أصعب ما قد يتعرض له الانسان الحي، تجربة تكتنفها الكثير من التفاصيل المؤلمة التي قد لا تسعفنا الكلمات بوصفها وقد يسقط الكثير منها من الذاكرة ونحن في مرحلة التعافي بعد العودة للحرية.

الخليل

الاثنين - 5/12/2022