اختزال المواطن وعصر تنمية الموت

 

في  العلوم الرياضية  ، وبمنهَجها التَّجريبي الصارم ، يتم اختزَال اللامتناهي واللامحدود ، في أرقام بسيطَة ليسهُل التَّعامل مع المعادلات ،والألغاز الرقمية ، وغَيرها.. وليتم تَسهيل عمَلية إستغلاَل الرياضيات نفسها في علوم آخرى كالجغرَافيَا مَثلاً،التي تبسط مسَاحة الأَرض ،وتنقلها إلى كُرَات بلاستيكية أصغر من كَرة القَدَم .

 

الاختزَال علميا هي  آلية عَقلية تُنظم وتبسط لنا فَوضى الكَثرَة والتَّعدد، لهذا نجده في كل المَعارف البشرية،بل إنَّ الإستعداد لقبوله من غير شك هو مَن جعلَ فكرة إخضاعْ التَّعدد إلى الواحد يؤمن بها المُّوحدون والمَّاديون معا رغم تناقضهم في تحديد الوَاحد ؛ هل هو الله تَعَالى أم الطَّبيعة الصماء ؟؟؟

 

الإختزال الذي تحدثنا عنه سابقا هو نَفْسُه من يضع عدد كَبير من الأفراد والمواطنين وفق نسق إجتماعي معين في خَانات مُختلفة ؛ لقَد شهدنَا في حقبات من التاريخ البشري  الإختزَال فِي أوجه ، فَجيمع المُّواطنين ليسوا إلا نظَامَا معينا  ، والخارج عَن النِّظَام له المقصلة أو السلاح ، وليس هناك أَي إختيار... الأمر نفسُه في معظمزل العالم  ، لكن الاختزال  أيضا يوجد في البلدان الليبرالية ، لكن بشكل أكثر تحررا  .

 

كل نظام توتاليتاري يتحرك ويعمل بآلية الإختزال، لكن ليس كمَا في الريَاضيات أو العلوم ، لكن كما تعمل آلة فَرم اللحم التي تفتته إلى أَصغر مكوناته ، لهذا يبدو المُّواطن في هذا النِّظام مختزلا إلى حدوده الدنيا ،فلم يعد له وقت ليمارس غير الضروري من الحياة .

 

العمل ، الأكل لاستمداد الطاقة لمزاولة هذا العمل ، النوم لإراحة الجَسد واستئناف العمل بنشَاط ،التناسل لإنجاب يد عاملة ، ثم الخضوع لنظَام شمولي .... إنها أهم عمليات الإختزال التي تُمَارسها الأنظمة الشُّمولية على المواطنين مَع عَدم تَحويلهم إلى آلات لأن الآلات تكلف صيانتهَا الكثير من المال .

 

حين يتروض ويتدرب ويتمرن المواطن المختزل على عَدم إنسانيته يقْصف بقنابل أكبر من حجمه بكثير كما حدث في معظم الدول ويقتل ، ويبحث له في أَرشيف المُّراقبة الذي دونته أعين المخبرين ولصوص الحَياة  كما يحدث في أغلب البلدان العربية  ، أو يلقى في حفرة لسنين عليها سجانين غلاظ اختزلوا هم الآخرين الى أدنى إمتيازاتهم،..

 

لكن دَائما ما يتلاشى الاختزال أمام العَزيمة ، فيعود المواطن إنسانا وليس مجرد رقم قابل للتصغير اللامحدود .

 

اذكر مُواطنين تعرضوا -لسوء حظهم - أو لأنهم أحسوا بشمولية النظام ولا عدله بشكل أكثر - أو لرهافة إحساساهم - لاختزال مضاعف ،حاربوه إما بالتواري عن الأنظَار، وإما يحَالات حُمق متقدم لا علاج له ، وإما بالإنتحار كعلاج مؤقت من آلام الدنيا ... وهم في كل هذه الحالات كانوا كمن يحارب العاصفة بالبصاق ، لكنهم - من وجهة نظرهم - أمنوا بإرتياحهم .

 

ليست هناك غرابة في إعتبار الأنظمة الشمولية لمواطنيها مُجرد ارقام ،وتحديدا، ليسوا  أَكثر من أصفار يوضعون في خدمَة الواحد الزعيم .

 

اختزَال المواطنين بصفر يَعني تَجويعهم ثقَافيا واقتصاديا  ونفسيا ومعرفيا ،كما حدث مَع حكوماتنا  ،وَجَوعته اقتصاديا حين ضرَبت قُدرة المواطن على  الرفاَه الإقتصَادي ، وحين  امتنعَت عن تَقديم فرص شغل جيدة ، وحين امتنعت عن وقَف التَّرقيات ، وحين أَصرت على الزيادات ، وجوعته نفسيا ، فمواطن مختزل تُصر حُكومته المنتخبة على اختزاله أكثر ، لا بد أن تصبح حَالته النَّفسية عرضةً  لنهش مجموعة من  الأمراض .

 

اختزال المواطن صفر ، يَعني رسم حدود معينة لتعَبيره ، ما إن يتجاوزها حتى يأتي مقص الرقيب ...

 

إختزال المواطن صفر ،يعني أَنْ يَقتنع المواطن أنَّ اهدافه من الحياة هي ؛ أكل ، تغوط ، تناسل ، ونوم ، ثم موت ....

 

ومن الظواهر التي يعاني منها المواطن المختزل أيضا ظاهرة اسميها ظاهرة عَصرُ المَّوت المَّنقول .. فَلم يَعد هُنَاك  فَرق بَين قَنَاة إخبَارية  تبثُّ آخر الإنفجَارات ، والأَشلاء ، والجثث ، ويَين قَناة  َتبث الأفلام الرُّومانسية ،وقَنوات الطرب والأغاني  المُّملة، وقنوات الرياضة ، والقنوات  البورنوغرافية .

مَاذا وَقَع ؟؟؟؟

 مَا الذي جعل  المُّشَاهد يَتفاعل بهذا  الغباء الشَّديد ، وهَذا الجفاف مَع  مشاهد العنف ،والمَوت التي تحدث في العَالم ؟؟؟

 في المقهَى يُمكنك أن تَجد أعينَ الكَثيرين تُشَاهد لقطة حمل أشلاَء صبي وقتل مقاوم معارض مثلا او استشهاد شباب يحلمون بالحرية والحياة   دُون أن تَشعر بالفعل أن الأعين تُشاهد هَذه اللقطات ، فلاَ انفعال  يحدث على الإطلاَق ،عَكس ما يُمكن انْ تُشاهده من انفعال نَتيجة تَسجيل هَدف  مِنْ قدم ميسي أو رُولاندو، يَظل المُّشاهد مُراقبا لمشهد الموت دوُن أن يَعيش المشهد على الإطلاق ، يَستمر في تحديقه ، وحديثه مَعَ صاحبه ، وأحيانَا يَضحك  ملء شَدقيه عَلَى نُّكتة سَمجة سمعهَا مِن صَديقه . يَنتقَل الخَبر إلى مَشْهد عُنف آخر ، ونَتَوقع أنَّ تَراكم  المّوت المنقول على الشَّاشة يُمكنه أَنْ يُحول من المُشاهد إلى مُنفعل ، لكن هَذا ما لاَ يحدثُ على  الإطلاق .

 إنَّ ما وقع هو تَحويل الموت من أَمر هَامشي وإنْ كانَ يَوميا وبديهيا إلى  حَالَة مَركَزية ، بَل حَالة منقولَة كَأي بضاعَة  يتم استيرادهَا  ،وكأي اشهار يَجوبُ العالم في نفس اللحظة .

 

لنصطلح عَلى  الأَمر حَالة  تَنميط الإحسَاس  بالموت ، فمثلمَا نجح الإعلاَم في تنمط الذَّائقة المُّوسيقية ،  والفنية ،  ومثلما جعل  الرّداءة أمرا غير  مستهجن ،وفَرض على الجميع قبول فَن مخصُوص ودُون  المستوى ، فَقد نجح أيضا  في جعل  حَالات استشهاد جماعة أو قتل معارض ،  ، خالية من كل دلالة إيثيقية ، واكتفى بأَن جَعلها سلسلة  من صور ولقطات الأخبَار  التي على الصَّحفي أن ينقُلها  للمُّشاهد .

تصير اللقطات  النَّاقلة للموت خالية  من أَي دَعوة  للتأسي والتَّأسف ، وليس فيها أي تَلميح عَن ضرورة التذمر للإنهيار  الذي يَذهب إليه الإنْسَان ، إنَّها تدرج كأي لقطات استطيقية آخرى ، إنَّها تَصيرُ  بِفعل التَّنميط الذِّهني لمن يَتَلقاها  شبيهة بلقطات  فنية وجمَالية ليس فيهَا أي إشَارة للمَوت ، فمادَام المُّتلقي  قدْ تَلقى مَجموعة  من اللقطات والصُّور في ظَرف وجيز ، والتي تَحمل  المعنَى ونَقسه ، فَهو لا شَّك ، وبَعد مدة إدمَان علَى المشَّاهدة ، سَيَتعامل معها  بنفس الإحساس كأنَّها صُّور من نفس الدلالَة  ،فالإنسَان يحاول ما أمكنهَ أن يَبتعد عمَّا يشعره بالألم .

 

 الأَكيد أَنَّ اعادة  بَث لقَطات  المَّوت المنقُول بِشَكل مّتَسارع  جعَلت الموت بدُون أَي دَلالة ، ولا يحمل أي  إدانة  لوجودنا، لكن الخَوف ، هُو أن تَستَنفذ هَذه الصّور والفيديوهات  ما نحمله من مشَاعر ، وتُفرغ دلالة الموت ، ودلالة الضحة / الميت ، ولا تبقى إلاّ دلالة المجرم / القاتل والصهاينة ، وباقي الخفافش.