تطوير ( الموجة) إلى انتفاضة

الفرص والتحديات

منذ شهرين تقريبا تشهد الساحة الفلسطينية موجة من العمليات المتنوعة ضد أهداف إسرائيلية داخل الضفة أو الخط الأخضر، فضلا عن تداعيات المواجهات واقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى خلال شهر رمضان وما بعده. وفي ظل ازدياد سخونة الأحداث وتصاعد وتيرتها تمثل ذلك بالتسريبات أو الرسائل التهديدية التي نقلها الإسرائيليون باغتيال قادة المقاومة في غزة وخارج فلسطين، مقابل التحذير اللافت للمتحدث الرسمي باسم كتائب القسام وبلغة غير مسبوقة بعبارات مثل: ( زلزال في المنطقة، فصل كارثي في تاريخ الكيان...)، وفي ظل حديث الإعلام الإسرائيلي عن موجة من ( العمليات) يتوقع لها أن تستمر طيلة سنة 2022م، فيما يتحدث الفلسطينيون- فصائل المقاومة تحديدا- عن تطوير هذه الموجة إلى انتفاضة قادرة على تحقيق إنجازات ملموسة على طريق التحرير. ستحاول الأسطر القادمة استعراض الفرص والتحديات أمام إمكانية ذلك.

أولا: الفرص القائمة

أ/ على المستوى الداخلي الفلسطيني:

1-   انسداد الأفق السياسي أمام الفلسطينيين، وشعورهم أن آمال التحرر آخذة بالتبخر أمام التغول الاستيطاني، والجمود التفاوضي، والتطبيع العربي، والإهمال الدولي، مما شكل قناعة راسخة لدى كثيرين بأنه إن لم يبادر الفلسطيني للتحرك والانتفاض فلن يلتفت إليه أحد، وستضيع حقوقه الوطنية أمام عينيه، وسيفرض الاحتلال وقائعه على الأرض ليستحيل معها تحقيق آماله الوطنية التحررية.

2-   نضوج جيل ما بعد انتفاضة الأقصى. هذا الجيل الذي كان طفلا وقتها، ونغّص عليه الانقسام فتوّته اليافعة، وحفرت في وعيه الجمعي معاني العزة والجرأة حروب 2009، 2012، 2104، ثم سيف القدس في 2021، وما تخللها من هبات وموجات، فكأنما يريد هذا الجيل أن يقول كلمته، ويترك بصمته.

ب/ على مستوى جبهة الاحتلال الإسرائيلي:

يقولون إن القوة التي لا يستطيع صاحبها أن يملي بها إرادته على خصمه هي قوة موهومة، فإنما يمتلك المرء القوة ليحقق أهدافه التي منها فرض إرادته على خصومه بتغيير قناعاتهم أو إجبارهم على تنفيذ ما يريد، فإن عجز عن ذلك فما جدوى قوته وما وزنها؟

من ناحية نظرية يمتلك الاحتلال من القوة المادية ( بكل أشكالها) ما يجعله اللاعب والفاعل السياسي الأثقل وزنا في معادلة الصراع، ولكن عند النظرة المعمقة ومراقبة السلوك والممارسة وما يجري من أحداث، يمكن قراءة المشهد من زاوية مختلفة، فنحن أمام كيان مرتبك، مضطرب، متردد، عاجز عن اتخاذ القرار، ولو وصفناه بأنه في هذه اللحظة التاريخية من عمره هو كيان مكبل أو مشلول فلربما لا نكون قد جانبنا الصواب كثيرا. ويمكن ملاحظة صدقية هذا التوصيف من خلال النقاط الآتية:

1-   العجز القيادي، وأزمة الائتلافات، وشبح الانتخابات، والتفكك الداخلي، والانقسام المجتمعي الذي تخوف منه وحذر عديد من قادة الاحتلال بمن فيهم رئيس وزراء الاحتلال بينيت مؤخرا.

2-  تآكل قوة الردع لدى الاحتلال، فكـأنما استطاع الفلسطيني أن يحدث ثقبا بليغا في هذا البالون المنتفش الذي كان يرعب انتفاخه خصومه الواهنين، وما إن بدأ الهواء يخرج من الثقب حتى انهارت هالة هذا البالون في قلب الفلسطيني، فما عاد يقيم له وزنا، ليفعل ابن العشرينات الهاوي غير المدرب الأفاعيل في الكيان الذي يمتلك البحر والبر والجو، والفضاء والأعماق، والتقنيات والخبرة، والدعم والميزانيات...

3-   ضعف المناعة المجتمعية، أو هشاشة الجبهة الداخلية، أو تآكل قدرة هذا الجسد الهرم على التعايش مع الجراح البسيطة التي يحدثها أعداؤه في جسده بين الحين والحين. فلقد كانت انتفاضة الأقصى أشد إيلاما على الاحتلال من حيث تكبيده الخسائر كما ونوعا، ومع ذلك ولأنه كان ما يزال جسدا قويا - إلى حد ما- فإنه استطاع التعايش معها، لكننا الآن نشاهد مشهدا مختلفا تماما، فهذا الجسد يبدو منهكا تماما حتى لتؤثر فيه وتوجعه أدنى ضربة، بل تربكه وتشله، وتصب مزيدا من الزيت على نار خلافاته وضعفه وعجزه.

ثانيا: التحديات الماثلة

أ/ على المستوى الفلسطيني الداخلي:

1-  الانقسام المؤثر، وعدم الإجماع الفلسطيني على جدوى مثل هذه الموجة أو الانتفاضة، بل واقتناع البعض ( فريق السلطة) بضررها وسلبيتها. وإذا كانت مقولة أنه (لا انتفاضة بدون فتح)، كما أنه (لا حرب بدون حماس) صحيحة، فإن التحدي الأكبر أمام الراغبين بتحويل الموجة إلى انتفاضة، هو في مدى قدرتهم على إقناع فتح بالدخول القوي على خط المواجهة دون موافقة ورغبة السلطة. إذا جاز أساسا الفصل بين فتح والسلطة.

2-   قدرة الفلسطينيين على وضع أهداف مرحلية معقولة تعنون هذه الموجة، وتضع أمام المنتفضين هدفا في متناول اليد يمكن جعله ثمرة ملموسة للتضحيات المقدمة، كما أن وجود هدف مرحلي معقول ومعلن ويخاطب به المحيط الإقليمي والدولي، سيجعل الفلسطينيين قادرين على نقل ملعب الصراع من ( الملعب الأمني) كما يحاول الاحتلال حصره فيه، إلى ( الملعب السياسي ) المتمثل بشعب تحت الاحتلال يبحث عن حريته واستقلاله كما هي الحقيقة. وحين تحدث (السنوار) عن هدف تفكيك الاستيطان في الضفة وسقف ذلك بنهاية هذا العام، فالذي يبدو أن التحدي الماثل هو في قدرة الفلسطينيين على الاتفاق على هذا الهدف أو على ما هو دونه بقليل، وإعادة صياغته وبلورته.

3-   هم المعيشة وغلاء الأسعار والأزمة المالية الخانقة للسلطة، مما يضيق اهتمامات الناس ويحصرها في هموم الرزق والمعاش، ويبرز التحدي في مدى قدرة الفلسطينيين في قلب هذا التحدي إلى فرصة من خلال حشد الرأي العام أن الاحتلال هو سبب ذلك، ومن ثم فإن الخلاص منه هو سبيل الخلاص من ضيق المعاش، ولا خيار آخر.

ب/ على المستوى الخارجي:

1-  الانشغال العالمي بالحرب الروسية الأوكرانية، وتداعيات هذه الحرب اقتصاديا وسياسيا على العالم.

2-   التطبيع العربي الآخذ في التمدد مع الاحتلال.

وعليه فإن مآلات الموجة وما سيرشح عنها مرتبط بمقدار قدرة الفلسطينيين على استثمار الفرص وتطويرها، وقدرتهم على مواجهة التحديات، وإلا فإن الاحتلال سينجح في احتوائها وامتصاص الصدمة لتكتفي بتحولها إلى رصيد جديد من الهبات والموجات التي تسجل نقاطا معنوية هامة في معركة الوعي لكنها لا تثمر إنجازا سياسيا مباشرا وملموسا. غير أن دخول غزة في حرب كبيرة مع الاحتلال قد يحدث تغييرات مفصلية في معادلة الصراع، حيث المتوقع لها في حالة حصولها أن تمتد إلى كل الساحات بما يشبه المواجهة الشاملة التي يمكن أن تحدث انعطافة مركزية في الصراع. والأيام حبلى بالأحداث، والشعب الفلسطيني هو شعب المفاجآت، ومدرسة البطولات.