وصفة الاستبداد

 

لا تتوقف الحكومات العربية عن محاولاتها في إجبار شعوبها على قبول الأوضاع المعيشية الصعبة من خلال وصفة أقل ما يمكن التعبير عنها بأنها وصفة شديدة المرارة لا يمكن أن تستساغ بغض النظر عن كل محاولات تحليتها وتلطيف طعمها من قبل الحكومات العربية المستبدة، انا اسميها بوصفة الاستبداد، هذه الوصفة تخرج لنا من أبواق الأنظمة العربية من خلال عبارات تشبه أن الاستقرار والامن   أهم من التقدم والتطوير.

 

الغريب في الأمر أن الحكومات العربية تجهل سبب وجودها، والذي يتمثل بتقديم -على الأقل- الحد الأدنى من مقومات الحياة، فالحكومة التي لا تستطيع تغطية الالتزامات المنتظرة منها لا تستحق أن تستمر ، الشعوب تختار الحكومات بناء على آمال، معظمها يتمحور حول الصحة والتعليم والامن والحرية والبنية التحتية والاقتصاد والشفافية، و عندما تفشل أي حكومة في تحقيق التزاماتها حول هذه الآمال او جزء منها، عليها المغادرة دون التفكير مرتين ومن غير أي محاولات تشبث مرضية بالسلطة. سمعنا عن حكومات فشلت في جزئية صغيرة من واجباتها وأجبرت على ترك السلطة، على سبيل المثال أجبر البرلمان رئيس وزراء السويد السابق ستيفان لوفن على الاستقالة من خلال التصويت لحجب الثقة بعد خلافات حول أسعار الايجار للمباني الجديدة، كما ان الرئيس الأمريكي السابق ترامب خضع مرتين لمحاولة تفعيل إجراءات عزله في مجلس النواب بالكونغرس بسبب اتهامه بقضايا سوء تصرف، و ما اريد توجيه النظر إليه أن الشعوب لها الحق في محاسبة وعزل حكوماتها على أصغر صور الفشل والتقصير.

 

لو نظرنا الى الدول العربية سنجد أن الحكومات غارقة في الفساد والفشل، و بالرغم من كل ذلك مازالت تتمسك بزمام السلطة والحكم، الدول العربية معظمها تعيش ظروفاً اقتصادية صعبة إذا ما استثنينا دول الخليج التي تعوم على مصادر الطاقة، ففي مصر وصل الجنيه الى أدنى معدلاته أمام الدولار، وهناك كلام عن بيع الحكومة المصرية لشركات وطنية الى الإمارات بسبب العجز الرهيب في ميزانيتها، فوصل حجم الديون الخارجية على مصر الى 80 مليار دولار، و هذه الديون وحدها كفيلة في إضاعة مستقبل أي بلد الى مئات السنين.

 

الأردن تعتمد على المساعدات الخارجية في تسيير شؤون بلادها، لدرجة أصبحت بها الأردن مكبلة في سيادتها وقرارها بسبب اعتمادها على دول مثل أمريكا وبريطانيا والخليج في الحصول على الدعم المادي، وفي لبنان وبعد انفجار مرفأ بيروت في عام 2020 والذي لم يشهد العالم مثله منذ انفجار هيروشيما، لم نسمع عن عزل أو محاسبة أي مسؤولين، و في عام 2010 شهد الشمال السوري موجات نزوح ضخمة من القرى الى مناطق الحضر بسبب تعرض البلاد الى موجة جفاف ناتجة على الأغلب عن فشل الحكومة السورية تأمين حقوقها المائية من نهري دجلة والفرات.

 

الحكومات العربية لم تفشل فقط في تحقيق أدنى التزاماتها، بل أصبحت في وجودها القسري عدواً صريحاً للشعوب العربية التي باتت ترى أن حكوماتها موجودة في السلطة لتحقيق منافع عائلية وفئوية على حساب البلدان ومستقبلها، وهذا ما حصل عندما قامت الثورة السورية في 2011، فلم يتردد بشار الأسد عن منح بلاده للروس والإيرانيين واستباحة أرضه و تهجير شعبه مقابل أن يبقى على كرسي الحكم.

 

 ** وصفة الاستبداد:

الحكومات العربية تتغنى في أن وجودها ضمان لتحقيق الأمن والاستقرار لبلدانها وشعوبها، الكثير من التجارب التاريخية اثبتت ان الأمن والاستقرار يسير بشكل متوافق مع رضا الشعب عن حكومته. فكيف يمكن للشعوب العربية أن تخرج على الحكومات في حال أوفت بوعودها والتزاماتها ؟ الجميع يتذكر محاولة الانقلاب التي حصلت في تركيا عام 2016، لو لم يكن الشعب راض على الحكومة هناك لما خرج في الشوارع، وتحت تهديد الموت ليمنع سقوطها.

في شواهد أخرى تعكس صورة مغايرة، رأينا كيف أن الشعوب تفرح بحدوث انقلاب على حكوماتها، عندما قام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بالانقلاب على الحكم الملكي في ستينات القرن الماضي، استقبله الشعب بالأحضان وعلقوا آمالاً كبيرةً عليه، ولا يمكن تجاهل فرح الشعب المصري بثورة الضباط الاحرار في عام 1952، هذا الشواهد تثبت ان الشعوب في كل مكان تبني علاقاتها مع حكوماتها بالرضا أو السخط حسب مدى ولاء وعمل الحكومات.

 

الامن والاستقرار يتحقق من خلال شعور الشعب بالراحة والرفاهية، وفي المقابل فإن أموراً مثل الفقر والجهل تعزز فرص دخول البلدان في دوامات الفوضى والفلتان. عندما يتخرج مئات الالاف من الشباب سنويا، ألن يؤدي هذا الى شعورهم بالعجز والاحتقان وبالأخص عندما يروا أن أبناء المسؤولين والمتنفذين يحصلون على أرقى المناصب من غير منافسة عادلة، وعندما يفشل الناس في تأمين حاجاتهم اليومية من طعام ودواء بينما يعيش أبناء المتنفذين في أوروبا وامريكا، ألن يؤدي هذا الى غليان الشارع وانفجاره بالنهاية، هناك امثلة كثيرة تثبت أن الشعوب التي تعاني من الفقر والعجز والجهل لا يمكن لها ان تبقى مستقرة.

 

  ادعاء الحفاظ على الأمن والاستقرار من قبل الحكومات العربية ما هو إلا ادعاء واه وباطل. فاستقرار الشعوب يتحقق من خلال تنعمها بحياة تملؤها الحرية والكرامة، من المستحيل على أي شعب تقبل وصفة الاستبداد، فهي مُرّة وسامّة ومن يعيش عليها، نهايته لن تكون سوى الموت.