في ذكرى معركة جنين.. واستلمت الكتيبة الراية
شكلت عمليات المقاومة النوعية ما قبل اجتياح مخيم جنين دافعا لكل من يحمل فكر المقاومة للعمل والتصدي لجيش الإحتلال في معظم مناطق الضفة الغربية، ليعود مخيم جنين للواجهة من جديد في تصدر العمل المقاوم.
وبالنظر إلى أن غالبية العمليات خرجت من مدينة جنين ومخيمها والتي كان آخرها عملية شادي الطوباسي بتاريخ 31/آذار 2002 أي بعد يومين من بدأ عملية السور الواقي فكان الرد من قبل الإحتلال باجتياح كامل للمخيم لتجفيف منابع الإرهاب على حد زعمهم.
غرفة عمليات مشتركة
كان الرد على الإجتياح باستعداد المقاومة بتشكيل غرفة عمليات مشتركة من كافة الفصائل بقيادة الشهيد طوالبة وأبو الهيجا وأبو جندل وغيرهم من قادة الأجنحة العسكرية للفصائل، التي استطاعت تجهيز 200 مقاوم مسلحين بالبنادق والعبوات بدائية الصنع.
وأسفر هذا الإجتياح عن استشهاد 58 فلسطينيا بحسب تقرير الأمم المتحدة واعترف الجانب الإسرائيلي بمقتل 23 من جنوده قُتل منهم 14 في يوم واحد 12 منهم في كمين للمقاتلين الفلسطينيين.
وبالنظر للفعل المقاوم خلال تلك الفترة فقد تميزت بالتنظيم ووجود قيادة ورموز تضبط العمل المقاوم وتوجهه، والتفاف الحاضنة الشعبة حول المقاومين والفعل المقاوم، وقد شجع ذلك إستقطاب مقاومين من مناطق أخرى للإنضمام إلى مقاومة المخيم ومثال ذلك الشهيد رياض بدير وسائد عواد من طولكرم والعديد من المقاومين من قرى جنين.
وافتقر الفعل المقاوم آنذاك للتغطية الإعلامية الموجهة والخاصة بالمقاومين لنقل ما يدور في الميدان، مما جعل إعلام الإحتلال يتفرد بنقل الرواية التي يريدها.
نيران تحت الرماد
كان هذا الإجتياح ونتائجه بمثابة جذوة النار التي تشتعل أحيانا وتخبو لكنها لا تنطفئ؛ فمنذ ذلك الحين إلى الآن لم يستطع الإحتلال من تحقيق هدفه بالقضاء على المقاومة؛ وبحسب ما نسبته صحيفة يديعوت أحرونوت لمصادر عسكرية من قيادة الجيش القول "إن بنية فصائل المقاومة الفلسطينية قد تعرضت لضربة قوية ولكن لم يتم القضاء عليها ".
في حين رأى(رعنان ألياهو) أحد الذين عملوا في قسم الأبحاث التابع لجهاز العمليات الخارجية الإسرائيلي (الموساد)، أن ما فعله (شارون) "قد صنع واقعاً سيجعل كل الشعب الفلسطيني يتحول إلى تأييد العمل المسلح".
عملية غبية
فيما عقب رئيس كتلة السلام الإسرائيلية يوري أفنيري أن"تدمير البنية الإرهابية يدل على الغباء"، لأن "البنية الإرهابية موجودة في روح ملايين الفلسطينيين، وكلما قُتل المزيد من المقاتلين إزداد المستعدون للإحلال مكانهم، رأينا في مشاغل العبوات الناسفة عدة أكياس من المواد يمكن الحصول على مثلها في كل مصنع في إسرائيل، و الجيش يتفاخر بأنه ضبط عشرات كهذه بدلاً عنها سيأتي مئات".
وأضافت مصادر عسكرية لصحيفة هآرتس "إن عملية الجيش في مدن الضفة الغربية قد عززت الروح العسكرية وسط الفلسطينيين وعمقت الكراهية لإسرائيل".
أرواح عصية
الكاتب الإسرائيلي "يارون فريدمان" كشف في مقاله على موقع "زمان إسرائيل" حجم التخوُّفات الإسرائيلية من منطقة جغرافية فلسطينية بعينها هي مخيم جنين ومدينته الواقعة شمالي الضفة الغربية، التي تبرز إلى الواجهة دوما بوصفها جبهة عصية على الإحتلال .
وللمفارقة أن جميع الأسرى الذين خرجوا عن طريق النفق في حادثة الهروب من سجن جلبوع هم جميعا من منطقة جنين، مما يدل على أن روح المقاومة في جنين لا تقتصر على من في الميدان وإنما اكتملت أركانها بمشاركة الأسرى الذين حط إثنين منهم رحالهما في جنين فعلا.
حلول وهمية
لقد أدرك الإحتلال أن العمل العسكري لم يؤت ثماره بالقضاء على المقاومة، فطرق باب الحل السياسي عن طريق عقد الإتفاقات مع السلطة الفلسطينية؛ حيث أكدت بعض المصادر الإسرائيلية، أن رئيس الأركان موفاز في حينها إقترح شن حملة على قواعد المقاتلين الفلسطينيين الأكثر قوة، من أجل تغيير الواقع الأمني السياسي لتمهيد الطريق أمام المحادثات السياسية، الأمر الذي رفضه شارون، وأكد أنه لن تكون هناك محادثات سياسية.
وبالرغم من تلك التصريحات إضطر الطرفان لعقد قمة شرم الشيخ في 8 / شباط 2/ 2005 باتفاق الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون على أن جميع الفصائل الفلسطينية ستوقف جميع أعمال العنف ضد الإسرائيليين في كل مكان، بينما توقف إسرائيل كل نشاطها العسكري ضد الفلسطينيين في كل مكان، إلا إن الإنتفاضة الثانية لم تنته لعدم توصل السلطة الفلسطينية والإسرائيليين إلى أي حل سياسي، واستمرار المواجهات في مدن الضفة الغربية.
وتلى هذه الإتفاقية العديد من الإتفاقيات واللقاءات من أجل تحقيق هذا الهدف التي كان آخرها لقاء العقبة التي عقد بتاريخ 27/2 شباط 2023 ولقاء شرم الشيخ في 19آذار الماضي أي بعد 22 يوم من لقاء العقبة .
"كتيبة جنين..فسيفساء المقاومة"
إن فسيفساء رمزية المقاومة التي بُني منها المخيم وسطرت بطولاتهم عبر الأجيال القادمة، وأسماء ورموز المقاومة حُفرت في أذهان الصغار أمثال حمزة أبو الهيجا وكان عمره لم يتجاوز حينها العاشرة، والذي تربى في أحضان المطاردين والمقاومين، وتبنى فكر المقاومة برغم صغر سنه.
وينطبق الحال على مقاومي "كتيبة جنين"التي ضمت كل فصائل العمل المقاوم إحتذاءً بآبائهم في "الغرفة المشتركة" إبان معركة المخيم.
فكان خيار تسمية الأذرع العسكرية للفصائل ب"كتيبة جنين كإمتدادٍ للمقاومة في مخيمها، وكتجربةٍ جمعيّة تخلق زخماً يرتفع بالحالة النضاليّة في الضفّة الغربيّة، بالرغم من الظروف والإمكانيات المعقدة على الأرض.
إلا أن ثلة من الشباب بقيادة الشهيدين الحصري والعموري إستطاعت تشكيل نواة مقاتلة تستقطب فصائل العمل المقاوم في المخيم، وبالنظر إلى قلة خبرة هؤلاء الشبان وصغر سنهم وملاحقتهم وعدم وجود قيادة على الأرض توجه وتوزع المهام، والعمل في ظروف شبه مستحيلة ؛ إستطاع الشبان المقاومين من فرض وجودهم والدفاع عن مخيمهم بالإضافة إلى حماية كل مقاوم يقصد المخيم، كما حدث مع الشهيد عبد الفتاح خروشة والمطارد ماهر تركمان.
وفي ظل التطور التكنولوجي ووسائل الإتصال الحديثة شكلت سيف ذو حدين على الشاب المقاوم؛ فمن جهة إنعكست جهود المقاومة على المحيط بتشكيل أنوية للعمل المقاوم في جبع والزبابدة وقباطية، من خلال حث، ومن جهة أخرى أصبح الهاتف الذي يحمله المقاوم وسيلة ملاحقة واستهداف وتصفية.
مخيم جنين الإنطلاقة والمنهج
لقد شكلت حالة المقاومة في جنين ومخيمها صياغة جديدة لأساليب المقاومة الفردية في المناطق والقرى المحاذية التابعة والقريبة؛ وأرست معالم لمراحل قادمة من النضال الفلسطيني على إمتداد الخارطة الفلسطينية التي لا يُقيدها الإحتلال الديموغرافي؛ ونُفذت العديد من العمليات النوعية الفردية كعملية رعد خازم وضياء حمارشة وأحمد وعبد الرحمن عابد وغيرهم.
لقد سعى الإحتلال ولا يزال من خلال الإعتقالات أن يُفرغ مدينة ومخيم جنين من المؤثرين وقيادات العمل الوطني والإسلامي والرموز؛ وذلك لأجل الإستفراد بالمقاومين الشباب وتغييب عنصر التخطيط والتوجيه للعمل المقاوم؛ وتشتيت الجهد والتركيز على النشاط الحزبي بدلا من الإسناد الحقيقي.
كانت ولا زالت الحاضنة الشعبية للمقاومة هي الدافع والرافع والمشجع لثلة الشبان، للإقدام والإلتحاق بركب المقاومة مع إطمئنانهم أن أُسرهم ليسوا وحدهم في الميدان، ومن أجل هذا الهدف كانت جنين ومخيمها هي السباقة لتشكيل رابطة"أمهات الشهداء" التي تقوم بواجب المواساة وشد أزر أم الشهيد والمقاوم .
تجربة المخيم أصبحت مثال يحتذى في باقي مناطق الضفة الغربية وأصبح دخول الجيش في أي منطقة يقابل بإطلاق النار أو إلقاء عبوات شعبية بالإضافة إلى إطلاق النار على الحواجز بشكل شبه يومي، وإرتكاب الإحتلال لجرائم كبيرة بحق المقاومين في المخيم يتم الرد عليه من مناطق أخرى، وما عملية معتز الخواجا وخيري علقم إلا دليل على ذلك.
لقد أصبحت مدينة جنين ومخيمها منذ الإجتياح ولغاية اليوم مؤسسة رسمت معالم للمقاومة في فلسطين وتناقلتها الأجيال عبر جيناتها المتراكمة بالفعل المقاوم، واليوم وامتدادا لهذا التراكم تحول المخيم إلى رمزية للتضحية وعصية الإنكسار، وشكلت مقاومتها المتجددة"كتيبة جنين" والتي تضم جميع تنظيمات العمل الوطني والإسلامي، وأصبح الجميع في مضمار سباق لرد أي عدوان على المخيم وساكنيه.