مقال علمي بعنوان:
"ديناميات عهد الإصلاح العثماني ومناخات انبعاث القوميات والتغريب"
ممدوح غالب أحمد بري - باحث في فلسفة نشأة الحضارات - كانون أول/ ديسمبر 2022.
تتنقل رياح التغيير والسيادة من حضارة إلى أخرى ومن عرق إلى آخر، وتسهم الثورات في إحداث تغيرات سياسية واجتماعية وثقافية داخل الدول والمجتمعات، وتنتقل هذه التغيرات إلى الجوار الإقليمي، ولربما إلى مناطق وقارات مجاورة والى العالم بأسره نتيجة عوامل متعددة، ومن بينها الحروب والبعثات العلمية، سيما العسكرية منها.
لا يمكن أن تنهض الحضارات إلا نتيجة عوامل ومؤثرات، وتحتاج إلى محركات تعيدها إلى واجهات الفعل الإنساني المجدي، ويصعب أن نحكم على مدى ازدهار تلك الحضارة عبر دراسة جانب واحد أو تجربة إقليم.ل
لم يتمكن العقل الأوروبي من تحقيق إنجازات إنسانية إلا عبر تحولات استمرت خلال قرون متعاقبة، بدأت منذ 1491م – 1494م – 1507م، وبدأت على شكل تحولات علمية وثقافية شهدتها أوروبا منذ بداية القرن السادس عشر للميلاد، وتتمثل بعصر النهضة، ورافقها صعود قوة جديدة تتمثل بدولتي إسبانيا والبرتغال منذ بداية القرن السابع عشر للميلاد، وهي نقطة تحول تأثرت بها أجزاء واسعة من قارة أوروبا، وأسهمت في إحداث ضجيج عبر سواحل إفريقيا وسواحل بحر العرب.
ورافق هذه التحولات حركة إصلاح ديني تأثرت بها أوروبا الوسطى، بالتزامن مع مشهد ثورة هادئة اجتاحت الجزر البريطانية في الشمال بمعزل عن باقي بلدان القارة، وشملت تحولات إدارية وسياسية، وتبعها ثورة صناعية انتقلت ببطء من بريطانيا إلى وسط وغرب أوروبا، وشهد القرن الثامن عشر تحولات إضافية شملت انهيار الإقطاع بالكامل واختراع الطباعة وتدحرجت الثورة الصناعية إلى فرنسا وألمانيا والنمسا.
وتمثل التحولات التي شهدتها فرنسا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بداية حقبة إنسانية جديدة دفعت القارة الأوروبية نحو سلسلة من الإصلاحات والتحولات العنيفة، حينما شهدت فرنسا بين أعوام 1789م – 1799م ثورة اجتاحت مجمل أرجاء الأراضي الفرنسية، واستهدفت النظام السياسي الفرنسي واستبدلته، وأوجدت داخل المجتمع الفرنسي أطروحات جديدة ورفعت شعارات لم يعرفها الفكر السياسي الأوروبي خلال العصور القديمة والوسطى، وتغير شكل الدولة في أوروبا ونظام الحكم وقوانين البلاد.
وانتقلت أفكار هذه الثورة إلى العالم قاطبة من خلال حروب فرنسا مع بريطانيا منذ عام 1792م، واتسع نطاق انتشار أفكار الثورة الفرنسية في العالم خلال وبعد الحروب النابليونية 1798م – 1815م.
التحديث في مصر العثمانية؟
لطالما لعبت الحروب والغزوات دوراً محورياً في توجيه قوارب الحضارات والدول ومصير الإنسانية، وهي من أحدثت تحولات شملت شكل الدولة والمجتمع، وأسهمت الحاجة إلى السلاح بالدفع نحو الاختراع والابتكار بهدف توفير السلاح ووسائل نقل الجنود خلال الحروب، ورغم المقاومة العنيفة الذي أبدتها الشعوب المحتلة عبر التاريخ إلا أنها تأثرت في كثير من الأحول بدعاية المحتل أو تأثرت به نتيجة تفوقه المعرفي والمادي، وهذا ما جرى للعرب منذ بداية العصور الأوروبية الحديثة.
امتلك بلدان القارة الأوروبية زمام الحضارة منذ مطلع القرن الثامن عشر، وأسست جيوشاً حديثة ومدربة، وامتلكت أسلحة ومدافع حديثة، وتم تقسيمها إلى فرق عسكرية لكل منها اختصاص، واستطاعت أن تهزم ما تبقى من قلاع النظام الإقطاعي والأنظمة الملكية المباشرة.
لم تقتصر البلدان الأوروبية على القوة العسكرية بل امتلكت نهضة علمية وصناعية وأفكار إنسانية رائعة، وقدمت أطروحات حول السياسة والدولة والدين والمجتمع والاقتصاد، مكنتها من التفوق الحضاري، ودخلت عصر التصنيع والتنافس الاستعماري على الأسواق والموارد والأيدي العاملة، وكانت وجهتها الأولى صوب سواحل أفريقيا وبحر العرب وجنوب وشرق آسيا والعالم الجدد حيث الأمريكيتان، وتبعها توسع عسكري مباشر شمل أجزاء من آسيا وأفريقيا.
واستمر النفوذ البرتغالي والإسباني بين أعوام 1492م-1798م، وبالتزامن مع ظهور الثورة الصناعية تراجع الدور الإسباني والبرتغالي خلال تصاعد مناخات التنافس الاستعماري، وشهد العالم صعود بريطاني وفرنسي، وتحديداً بعد تغلغل بريطانيا في الشرق من خلال شركة الهند الشرقية عام 1708م، وتبعها محاولة فرنسا عرقلة التغلغل البريطاني في الشرق، وتكلل التوجه الفرنسي الجديد عبر حملة نابليون على مصر عام 1798م – 1801م.
تأثرت مصر بمقدار ما بأفكار الثورة الفرنسية وثقافة الشعب الفرنسي خلال مشهد الحملة الفرنسية على مصر بين أعوام 1798م – 1801م، نتيجة ما أحدثته الثورة من تغيرات في الإدارة والدين والاقتصاد والمجتمع والسياسة والعلم، ولم يرافق نابليون في حملته جنود وضباط وأسلحة فقط، بينما رافقته نخبة من علماء فرنسا ونماذج من علومها واختراعاتها، وتأثر بها علماء مصر ونخبتها ورجال الأزهر بالتحديد، وانقسم موقف علماء وفقهاء الأزهر بين منبهر أو رافض لأنماط العلم والاختراعات التي أحضرها نابليون إلى مصر خلال حملته العسكرية.
لماذا أحدثت الحملة الفرنسية تحولات جذرية في مصر؟
وشملت حملة نابليون على مصر بعثات علمية ومختبر ومطبعة ومرصداً فلكياً، وأحضر معه قادة وضباط وعلماء ومهندسين وجغرافيين، وعني بتشكيل لجنة من العلماء عرفت باسم لجنة العلوم والفنون وجمع حروف الطباعة العربية الموجودة في باريس، واصطحب معه مطبعة.
وتكونت حملته من 36 ألف جندي، في اليوم الثاني لدخوله القاهرة وهو الموافق 25 يوليو/ تموز1798م أنشأ نابليون ديوان القاهرة وهو ديواناً استشارياً يشمل تسعة من كبار المشايخ والعلماء ويرأسه الشيخ عبد الله الشرقاوي، ومن القاهرة أصدر أوامره بأن تدار أمور مصر من خلال دواوين مكونة من المشايخ والعلماء، ولها رأياً استشارياً في مجال الإدارة، ويمثل هذا النمط انعكاس للأفكار الفرنسية التي واكبت الثورة الفرنسية.
ونظم نابليون في يوليو/ تموز سنة 1799م المعهد العلمي المصري، وتكون من علماء مصر وعلماء الحملة، وكان العلماء هم الذين أعدوا أربعة وعشرين مجلداً ضخماً حول مصر وأوضاعها، ومَوَلتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان وصف مصر (1809-1828) Description de L`Egypte، وأحد هؤلاء العلماء لا نعرف إلا أن اسمه بوشار.
ويعد بوشار هو من وجد حجر رشيد في سنة 1799م قرب الإسكندرية، وعليه نقوش بلغتين وثلاثة خطوط (الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة)، وقد مكنت هذه الكتابات - توما يونج - (Thomas Young) عام 1814م وجان - فرنسوا شامبليون عام 1821م من وضع أسس منهج ترجمة النصوص الهيروغليفية، وفتحوا بذلك أمام أوروبا "الحديثة" أبواب حضارة مصر القديمة بشكل يدعو إلى الدهشة، وبذلك يكون اكتشاف حجر رشيد من أهم النتائج العلمية التي حققتها حملة نابليون في مصر.
واقترح علماء الحملة توصيل البحرين الأحمر والمتوسط فيما يعرف الآن باسم "قناة السويس"، ولكن الفكرة لم تنفذ في عهد الحملة عام 1798م، لكنها تكللت بالنجاح خلال فترة لاحقة بين أعوام 1858م – 1868م حينما استطاع المهندس الفرنسي - دي لسبس - إقناع الخديوي محمد سعيد باشا بالمشروع، وحصل على موافقة الباب العالي، وقام بموجبه بمنح الشركة الفرنسية برئاسة دي لسبس امتياز حفر وتشغيل القناة لمدة 99 سنة، واستغرق حفر القناة 10 سنوات في عهد الخديوي محمد سعيد باشا، وانتهى الحفر في عهد الخديوي إسماعيل باشا.
وحين العودة إلى الحملة الفرنسية وتتبع تأثيراتها على مصر نجد انه رافق الحملة الفرنسية مجموعة من العلماء في مختلف مجالات العلم في حينه، وبلغ تعدادهم أكثر من 150 عالماً وأكثر من 2000 متخصص في مجالات الفن والرسم والتقنيات، ورافقوا القائد الفرنسي نابليون بونابرت في مصر خلال أعوام 1798م – 1801م، ومن ضمنهم كيميائيين وأطباء وفلكيين إلى آخره.
وكانت نتيجة مجهود علماء الحملة الفرنسية تأليف كتاب "وصف مصر"، وهو عبارة عن المجموعة الموثقة، وتضم 11 مجلداً من الصور واللوحات، وتوجد اليوم في مكتبة الإسكندرية، وتأليف وإعداد 9 مجلدات من النصوص بينها مجلد خاص بالأطالس والخرائط أسهم بها المجمع العلمي المصري.
وقام هؤلاء العلماء بتأليف مجلد يشمل جميع أرض مصر من شمالها إلى جنوبها خلال سنوات تواجدهم في مصر، وقاموا برصد وتسجيل كل أمور الحياة في مصر آنذاك، وكل ما يتعلق بالحضارة المصرية القديمة ليخرجوا إلى العالم 20 جزءاً شملها كتاب وصف مصر، وتميز الكتاب بصور ولوحات شديدة الدقة والتفاصيل، وقامت الحملة برسم أول خريطة دقيقة للقطر المصري.
موقف مشايخ وعلماء مصر تجاه الحملة:
اختلط علماء مصر من مشايخ وفقهاء وأيضاً رجال السياسة والتجار والأعيان بعلماء الحملة الفرنسية، وحدثت زيارات ولقاءات، تأثرت نخبة مصر بما عرضته الحملة من علوم واختراعات، واحدث ذلك دهشة لدى هذه النخب، وأشعرها بالفرق أو الفجوة العلمية والمعرفية، واجرى بعضهم مقارنة بين ما ليهم من اقتصار على علوم الفقه والحديث والتفسير والتاريخ وبين ما لدى فرنسا من علوم طبيعية حديثة، وتحدث عن هذا المشهد وما تخلله من تساؤلات مؤرخ مصر عبد الرحمن الجبرتي (1753 – 1825م)، وأسهمت حملة نابليون في إثارة الوعي القومي لدى المصريين ولفت انتباههم إلى وحدة أهداف المحتل على اختلاف مشاربه.
تمكن محمد علي باشا من حكم مصر بعد انسحاب نابليون وحملته الفرنسية، وانطلق قطار التحديث في مصر منذ عام 1815م في عهد محمد علي باشا (1805-1849م)، وأتيحت له فرصة التحديث بعد الإجهاز على جيشه من الجنود المماليك عام 1811م في مذبحة القلعة، وتوجه نحو التحديث متأثراً بالثقافة الفرنسية، بعد ما أحدثته حملة نابليون العسكرية على مصر والشام من تأثيرات أحدثت مقارنات وتساؤلات لا يمكن أن يتجاهلها العقل في حينه، وبدأت تتغير عقيدة الجيش ومؤسسات الدولة المصرية منذ تلك الحملة العسكرية، وظهرت الحاجة إلى تأسيس جيش يشبه الجيوش الأوروبية الحديثة.
ولم تتوقف عوامل التأثر عند الحملة الفرنسية، بل أسهمت حملة نابليون إلى وضع مصر في بؤرة الاستهداف الاستعماري، بعد خضوعها للاستعمار الإنجليزي عام 1881م، ولم تنقطع تلك الروابط مع التغريب لدى رواد وضباط المدارس العسكرية في مصر نتيجة مناخات التحديث والإصلاح، وتم إعادة تحديث شكل الجيش المصري، وشملت هذه المناخات تحديث شكل الإدارة في الدولة المصرية، وتمثل هذه الفترة المرحلة الملكية الثانية.
تأثرت نخبة من مشايخ وعلماء مصر بما جاءت به الحملة من أنماط مستجدة، ومثال المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي دليل كافي على الأثر الإيجابي الذي تركته الحملة الفرنسية على الحياة الثقافية في مصر، فلما ملك الفرنسيون عين الجبرتي كاتبا في الديوان، فاختلط الشيخ بالعلماء الفرنسيين، وحدث نوع من الانقلاب الفكري في تصورات الشيخ عن مستويات العلوم والتقنية في أوربة.
فبينما كان الجبرتي في الماضي هو وأبناء بلده مأخوذين بالنقالة التي استخدمها الفرنسيون بدلا من السلال لنقل التراب ومواد البناء الأخرى، أخذ الشيخ يزور غرفة المطالعة في المكتبة التي تستحق كل الإعجاب، فكان يطلع على الكتب النادرة ويحضر التجارب في المخابر العلمية التي كانت نتائجها كما قال: "عصية الفهم وعسيرة المنال لعقول مثل عقولنا". وترك القضاء الفرنسي المرتكز على مبادئ العقل انطباعا عظيما وأخاذا في نفس الشيخ الذي اعتاد على القضاء الخاضع لأحكام الدين والشريعة.
واحتل نفر من مشايخ مصر موقع مميز لدى قادة الحملة الفرنسية غير الجبرتي، كان على رأس هؤلاء الشيخ الفقيه العلامة عبد الله الشرقاوي الذي تولى مشيخة الأزهر، فانصب كل جهده على تخليص البلاد من نير الحكم التركي وتسلط المماليك، أقامه الفرنسيون رئيس الديوان لإجراء الأحكام، وانتفع في أيامهم، ومن أشهر مؤلفاته" تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين"، اختتمه بوصف خروج الفرنسيين ودخول العثمانية، وكان بين هؤلاء المشايخ عبد الهادي بن محمد المهدي (أمين الديوان) ، وخليل البكري، ومصطفى الدمنهوري، وإسماعيل الزرقاني، وغيره، ومن بينهم.
أما صديق الجبرتي الشيخ حسن بن محمد العطار )في حدود 1766-1838) الذي كان أحد كبار مشايخ الأزهر، وفر من القاهرة إلى الصعيد خشية من الفتن التي نجمت عن دخول الفرنسيين، وعاد أدراجه إليها واتصل بعلمائهم، واستفاد منهم العلوم العصرية الشائعة في بلادهم، وعلمهم اللغة العربية، ثم عمل موظفاً في دار النشر الفرنسية، كان العطار قد تأثر أكثر من جميع أقرانه بالتقدم الأوروبي الذي تجلى في أروع صوره من خلال أفكار وتأليف العلماء الفرنسيين في مصر.
ويعد العطار أول من اقتنع بالتأخر الشرقي المهيمن في صفوف الأزهريين، وكان يطلع أصدقائه على المعارف الواسعة في بطون الكتب الفرنسي، وانه كان شغوفا جدا بترديد العبارة التالي: "يجب أن تتغير بلادنا، وعلينا اقتباس العلوم الأوروبية الجديدة علينا"، ينبغي التذكير هنا أن العطار رغم اتصاله الوثيق بالفرنسيين – لم يتخل في الواقع عن أحلامه بطرد المتدخلين الأجانب من البلاد.
ليس من المستبعد إطلاقاً أن بعض المصريين الذين اتصلوا بالفرنسيين بأية وسيلة من الوسائل المتاحة، ومن بينهم بعض المشايخ الذين اشتغلوا مباشرة أو مستقبلا في الوظائف الإدارية (مثل الشيخ المهدي)، أو حتى بعض القراء الذين كانوا يطالعون الجريدة العربية الصادرة آنذاك، أن يكونوا قد اطلعوا على مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى (جمهورية – حرية – مساواة – عدالة)، وعلى الأفكار الجديدة، ولاسيما التشديد على فكرة "الأمة العصرية" التي ظهرت للمرة الأولى في الواقع المصري، لكن المعطيات التاريخية لا تفيدنا بأي خبر عن حدوث أي تحرك اجتماعي في الواقع المصري ولو بالمعنى الضيق لهذا التعبير خلال القرن التاسع عشر.
وأكد بعض الكتاب الفرنسيين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر الحقيقة التالية: "إن البذور الأولى للحضارة الأوروبية قد تسربت بسرعة في الأرض المصرية من شقوق صناديق الذخيرة التي نقلتها الحملة الفرنسية، وأيدهم المؤرخون والكتاب السوفييت كونها أسست لمرحلة الإصلاحات التي قام بها محمد علي باشا في مصر.
ويرى البعض أن الثورة الفرنسية: "لم توقظ فقط مصر من سباتها الطويل، بل أيقظت الوعي القومي في البلاد العربية، ووضع بداية حركة التغريب التي أفضت إلى نشوء الطباعة الحديثة، وإحياء الثقافة العربية التقليدية، وبعث الوعي القومي".
البعثات التعليمية المصرية إلى فرنسا:
اهتم محمد علي باشا بإرسال البعثات العلمية إلى الغرب الأوروبي منذ عام 1813م، وكانت إيطاليا أول دولة ارسل اليها طلاب مصر لتلقي العلوم والمعارف والمهارات، ووصلها العديد منهم لتلقي الفنون العسكرية وبناء السفن والطباعة والهندسة، ولم يصل من الأخبار عن أسماء الطلاب سوى نقولا مسابكي افندي الذي أرسله إلى ميلان سنة 1815م ليتعلم فن سبك الحروف، ومكث فيها اربع أعوام وعاد إلى مصر ليشغل مدبراً لمطبعة بولاق منذ عام 1821م، ومكث فيها حتى وفاته عام 1831م.
وانفتح محمد علي باشا على فرنسا في موضوع البعثات التعليمية، وأسست فرنسا مدارس خاصة للمصريين في باريس، وتولى إدارتها قائد الحربية الفرنسية، مما يؤكد على متانة العلاقة الفرنسية مع مصر في عهد محمد علي باشا.
وكانت أول بعثة علمية أرسلت إلى فرنسا مؤلفة من أربعة وأربعين تلميذاً، لقد ارسل محمد علي باشا هذه البعثات من سنة 1813م إلى نهاية سنة 1848م، أي في ست وثلاثين سنة، حوالي 319 تلميذاً، وتحدث عن هذا العدد جورجي زيدان واتفق معه أمين سامي باشا.
وارسل محمد علي باشا إلى بلاد الإنجليز والنمسا وألمانيا أيضاً، لكن احتلت فرنسا حيزاً كبيراً لدى محمد علي باشا، وكان كلما علم بميزة في جهة أرسل إليها من يعهد فيه الاستعداد للحصول عليها، ارسل محمد علي تلاميذ من المصريين والشركس والأتراك والأحباش، وتوسع في التخصصات ليرسل تلاميذ تتلقى علوم الطب وعلوم الآلية.
الثورة العُرابية:
وتمكنت بريطانيا خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر من فرض سيطرتها على جزر بحر العرب وباب المندب، وفي عام 1858م تمكنت من فرض سيطرتها الكاملة على الهند، واتبعتها مصر عام 1807 – 1809م لكنها لم تتكل بالنجاح نتيجة الدعم الفرنسي والعثماني لمحمد علي باشا، فاتبعتها بحملة جديدة وهزمت قوات احمد عرابي، وسيطرت على مصر عام 1882م في عهد الخديوي توفيق بعد أن تغلغلت في البلاد اقتصادية عبر بوابة الديون والاقتراض المصري من الإنجليز.
أسهمت الإصلاحات العسكرية التي أقرها الخديوي محمد سعيد باشا 1822 – 1863م في مصر بإلحاق أبناء المشايخ و الأعيان بالجيش ضمن جهوده للمساواة بين الشركس و المصريين، وأتاحت فرصة أمام انخراط احمد عرابي 1841 – 1911م في الجيش المصري، وتمتع بعلاقة مميزة مع محمد سعيد باشا، مما أسهم في سرعة تدرجه وترقيته داخل الجيش.
وبعد وفاة محمد سعيد باشا عاد الشراكسة والأتراك إلى مناخات الهيمنة على المؤسسة العسكرية، وفصل عرابي من وظيفته العسكرية في عهد الخديوي إسماعيل، وحاول رفع الكثير من المظالم إليه مده ثلاثة أعوام وفى هذه الفترة التحق بوظيفة في دائرة الحلمية، وخلال شغله هذه الوظيفة تزوج من كريمة مرضعة الأمير إلهامى باشا، وهى أخت حرم الخديوى محمد توفيق فيما بعد من الرضاعة، ومن هنا كانت وساطة بعض المقربين من زوجته لاستصدار أمر من الخديوى إسماعيل بالعفو عنه وإعادته إلى الجيش برتبته العسكرية التي خرج عليها.
أدت هذه الممارسات التي عايشها عرابي وغيره من الضباط والجنود المصريين داخل الجيش إلى تحريك شعورهم الوطني والقومي، والرغبة في التحرر من هيمنة غير العرب على الجيش والدولة، وتحديداً بعد القرارات التي أصدرها ناظر الجهادية عثمان رفقي باشا والتي اعتبرها الضباط المصريون تحيزاً للشركس في الجيش على حساب المصريين.
أحدثت تلك القرارات غضب بين الضباط المصريين، واجتمعوا وقدموا مذكرة بمطالبهم إلى رياض باشا رئيس النظار، ووقع عليها احمد عربي واثنان من زملائه، ورفضها الخديوي، ولم يقبل بمطالب الإصلاح، واصدر أمراً باعتقال عرابي وزملائه ومحاكمتهم، فتحرك الجنود المصريين داخل الجيش، وتمكن الضباط من تحريرهم.
وطلب احمد عرابي ان يتحرك القنصل الفرنسي والقناصل الأجانب للتوسط مع القصر بهدف إقرار مطالب الضباط والجنود المصريين، ووافق على مطالبهم مؤقتاً، ولكنه سرعان ما عزل محمود سامي ناظر الحربية وعين داؤد باشا إلى جانب بعض القرارات التي رفضها الضباط المصريون، وتخلل المشهد القبض على الشيخ * جمال الدين الأفغاني ونفوه عن مصر، بتهمة التحريض على الخديوي توفيق، وكانت تربط احمد عربي علاقة مميزة مع الشيخ الأفغاني، وكان يحرضه على الثورة والتخلص من النفوذ الأجنبي في مصر.
وقدم الضباط المصريين داخل الجيش مذكرة ثانية في صباح يوم الجمعة 9 سبتمبر 1881 يعلمون فيها الحكومة بقدوم كامل القوات المقيمة بالقاهرة إلى سراي عابدين في عصر نفس اليوم لعرض طلباتهم على الخديوي، ثم خاطبوا القناصل الأجانب لتطمينهم على سلامة رعاياهم، وقد استجاب الخديوي لمطالبهم مرة ثانية فاسقط الوزارة و أنشأ مجلساً للنواب و زاد عديد الجيش.
وتم تشكيل وزارة كانت شبه وطنية بسبب أن محمد شريف باشا كان من أصول شركسية إلا أنه كان رجلا كريمًا مشهودًا له بالوطنية والاستقامة، فألف وزارته 14 سبتمبر 1881م، وتم تعيين محمود سامي البارودي ناظرا للجهادية وهو أول مصري يتولى هذا المنصب.
شكلت حكومة جديدة برئاسة محمود سامي البارودي، وشغل عرابي فيها منصب "ناظر الجهادية" (وزير الدفاع) ونائب رئيس مجلس النظار. وقوبلت نظارة "البارودي" بالارتياح والقبول من مختلف الدوائر العسكرية والمدنية؛ لأنها كانت تحقيقًا لرغبة الأمة، ومعقد الآمال، وكانت عند حسن الظن، فأعلنت الدستور، وصدر المرسوم الخديوي به في 7 فبراير 1882 م.
أسهم التدخل البريطاني والفرنسي في عرقلة تمرير أول دستور لمصر، وأفشلت الحياة البرلمانية الوليدة، نتيجة الديون البريطانية على مصر، وتدخلها في الشأن الداخلي، ونتيجة تعاون الخديوي توفيق مع بريطانيا، وتأليبها ضد احمد عرابي على انه متطرف ويكره الأجانب.
وتخوفت بريطانيا من النفوذ المتزايد لفرنسا في مصر دفعها نحو التحرك العسكري، وتفاقم هذا الخوف بعد سيطرة فرنسا على تونس، مما دفعها نحو التدخل العسكري المباشر في مصر.
وتمكن الإنجليز بمساعدة الخديوي من القضاء على نفوذ احمد عرابي عبر معارك مع عدة، ومن بينها معركة كفر الدوار في الإسكندرية ومعركة القصاصين قرب محافظ الإسماعيلية وبالقرب منها حدثت معركة التل الكبير، وعبر سكة حديد الزقازيق دخل الإنجليز إلى مدينة القاهرة بعد استسلام حاميتها، وهزم جيش عرابي، وتمكين الخديوي توفيق من السلطة في مصر تحت رعاية بريطانيا، وحكم احمد عرابي وزملائه بالنفي إلى جزيرة سرنديب (سيلان) أو سريلانكا حالياً.
الإصلاحات العثمانية:
توقفنا فيما سبق عند الحديث عن تأثيرات الحملة الفرنسية على مصر، بينما سنتحدث في هذا المحور حول تأثيرات ما جرى في أوروبا من ثورات وتحولات سياسية واجتماعية على واقع الدولة العثمانية.
ولا يسعنا إلا أن نبحث في الأسباب التي دفعت الدولة العثمانية نحو تحديث جيشها أولاً وإصدار مجموعة من القوانين والإجراءات التي تهتم بالإصلاح الإداري والسياسي ثانياً، ولعلنا نذكر ما لعبته العسكرية الفرنسية من دور محوري في خوض غمار حروب عدة في عهد الثورة وعهد حكم نابليون لفرنسا، وان هذه الحروب تأثر بها الجوار الفرنسي، وأسهمت في نقل مبادئ الثورة إلى إيطاليا وألمانيا والنمسا، ولعلها كانت سبب فيما بعد أدى إلى توحيد إيطاليا وألمانيا خلال مراحل لاحقة.
ولا تستطيع أي دولة مهما كانت أن تفرض سيادتها على أراضيها إلا بعد تطوير جيشها وتحديثه، ولا سيما أن الجيش العثماني كان يعاني من ضعف شديد خلال القرن الثامن عشر، وكان يعاني من صراعات داخلية وتسلط كبار ضباطه على الحكم.
ولان انهيار قطاع الأمن في أي دولة من شأنه أن يسهم في انهيار الدولة بالكامل أو على الأقل تصبح دولة تعاني من صراعات وقلاقل داخلية ويتدهور اقتصادها، وتصبح لا تقوى على الدفاع عن نفسها، ولربما تخضع لشروط الدول القوية، وهذا تماماً الذي جرى في المرحلة الثانية التي تتلخص في موضوع الإصلاحات السياسية والإدارية.
رغم قيام الدولة العثمانية منذ بداية القرن التاسع عشر بمجموعة من الإصلاحات داخل الجيش ووحداته العسكرية إلا أنها لم تأتي آكلها ولم تحقق النتائج المرجوة، نتيجة تراكم ديون الدولة وفي ظل ما تعانيه أرجاء الدولة من حركات انفصالية متتالية كانت ترهقها في كل مرة من الأطراف، ولان هذه الإصلاحات لم يتم إقرارها بشكل شامل، وكانت غير منسجمة مع طبيعة العمل داخل مرافق الدولة الهرمة، ونتيجة وجود فئة تضررت مصالحها من هذه الإصلاحات، واعتبرها البعض بأنها جاءت على مقاس الدول الأجنبية التي استغلتها لتتغلغل داخل مرافق الدولة والمجتمع العثماني.
وأتاحت هذه الإصلاحات وتحديداً ذات الطابع الاجتماعي والتي تخص الأقليات ورعايا الدولة الأجانب وأيضاً الإصلاحات الإدارية والسياسية هامش أمام تدخل الأجانب، عبر تأسيس قنصليات وسفرات أجنبية داخل عواصم الإقليم، وتحديداً في بغداد ودمشق والقدس وبيروت، وأصبحت على اتصال مباشر بهذا الخليط الديني والاثني ومع كبار التجار في بيروت وحيفا وعكا ويافا، ونسجت الدول الأوروبية علاقات صداقة مع هذه الفئات.
بالتزامن مع انتشار الطباعة والمطابع في بيروت وعكا والقدس، وظهرت مطابع ذات نمط تبشيري أسستها الإرساليات التبشيرية في الأديرة والجمعيات في القدس يافا وحيفا وبيروت ودمشق، وتتابعت الصحف والمجلات، وظهرت نخبة جديدة نتيجة هذه البيئات التي روجت للنموذج الغربي، وضاعف من هذه المناخات تلك البعثات التعليمية التي كانت ترسلها كنائس الشرق والقنصليات الأجنبية إلى الغرب الأوروبي، خلال القرن التاسع عشر ظهرت ملامح نخب جديدة، وتختلف عن تلك القديمة المتمثلة بعلماء الدين والمشايخ.
أعجبت تلك النخب بالثقافة الغربية، وأصبحت تطالع كل جديد عبر الصحف والمجلات، ويرتدي أفرادها مظاهر اللباس الغربي، ويرتادون مقاهي وجمعيات أدبية وثقافية ويشاركون في ندواتها.
ونتيجة خلاف السلطان العثماني محمود الثاني (1785-1839) مع الجند الانكشارية تمكن من القضاء عليهم عام 1826م، وأمر باتخاذ الزيِّ الأوروبي الذي فرضه على العسكريين والمدنيين على حد سواء، ومنذ ذلك التاريخ توجه نحو إصلاح الجيش العثماني وفق أنماط العسكرية الغربية، رغم كونه توجه إلى إصلاح الجيش نتيجة خشيته على الدولة ونظام حكمه إلا انه أوقع مؤسسات البلاد في خطر يفوق تمرد الانكشارية.
أصدر السلطان العثماني عبد المجيد منشوراً 1255هـ/ 1839م يسمح فيه لغير المسلمين بأن يلتحقوا بالخدمة العسكرية، ، ومنذ تلك الفترة حدث اختراق في عقيدة الجيش وثقافة ضباطه، سيما أن العديد من ضباط الجيش كان قد تلقى تدريباته العسكرية في بروسيا خلال فترة التنوير التي شهدتها بروسيا قبيل الوحدة وبعدها.
تمتعت بروسيا بعلاقات جيدة مع الدولة العثمانية، وكانت تمثل بروسيا الجزء المستقل والمزدهر من بين الأراضي الجرمانية الخاضعة لاحتلال بعض دول الجوار منذ حروب نابليون، وعايشت بروسيا تحولات سياسية حديثة نتيجة تأثرها بمفاهيم الثورة الفرنسية وأنماط بناء الجيوش الأوروبية الحديثة بعد احتلال نابليون مناطق شاسعة من أوروبا، مما عزز انتشار قيم الثورة الفرنسية بين أبناء هذه البلدان ومنظوماتها العسكرية ومؤسساتها التشريعية ودساتيرها.
تلقى الضباط العثمانيون الجدد جرعات من الثقافة الفرنسية أثناء احتكاكهم مع الضباط الجرمان في بروسيا، وتغيرت نظرتهم حول شكل الحكم والدولة، وضعفت لديهم الفكرة العثمانية على حساب الأفكار القومية التي سادت في أوروبا في حينه، وبدأت تتسرب لديهم أفكار الجمعيات الغربية كايطاليا الفتاة والكاربوناري وذوي القمصان السوداء والعصبة الحمراء، وراقت لهم شعارات الحرية ومحاربة الرجعية.
وطالب بعض الباشوات والنخب السياسية داخل القصر وخارجه دولتهم بأن تضع دستور للبلاد وتشكل هيئة تشريعية تمثل الأقاليم والولايات العثمانية، وارتبط بعضهم بعلاقة مع الكتاب ورجال الصحافة في العاصمة العثمانية اسطنبول، مما وفر للإعلام المستقل فرصة للكتابة في مواضيع سياسية وقضايا الحريات العامة وطباعتها ونشرها وتوزيعها بين الأقليات والملل والمذاهب داخل العاصمة.
في حين روجت فرنسا لمفاهيم ثورتها من تعددية وعلمانية وحداثة وحرية واشتراكية، اعتمدت بريطانيا قبيل استعمارها للبلدان وتفكيكها للإمبراطوريات الضخمة على فكرة تأسيس بنوك مصرفية في عواصم تلك البلدان مثل إسطنبول والقاهرة وبغداد...، وارتبطت إداراتها بقنصلياتها في تلك العواصم، ومنذ ما يزيد على عقد ونصف تتوجت بريطانيا العظمى على رأس إمبراطورية تجارة المال والإعمال ولم ينازعها منازع.
وعبر تلك المصارف الإنجليزية داخل مستعمراتها امتلكت مهارات الإدارة وسيطرت على مفاصل رأس المال العالمي إلى جانب إتقانها مهارات تفكيك تلك البلدان تمهيداً لاحتلالها، فتمكنت من استغلال مفاهيم الحرية والليبرالية.
وبهدف تأسيس بريطانيا نظامها الدولي الجديد كسبت العديد من النخب العائلية والاجتماعية والباشوات ورجال الدين والإعلام والصحافة واحتوت معظمها، وهنا ظهر مصطلح الكولونيالية وهو مقابل لمفهوم الاستعمار، وأطلق عليها خصومها لقب بريطانيا الإمبريالية على اعتبار أنها دولة استعمارية تهدف إلى فرض هيمنتها الاقتصادية على الشعوب الفقيرة وزيادة معاناتها، وأتلفت رويداً نسيج وثقافة المجتمع بتدرج وإتقان، ومازالت تمارس نفس الدور خلال مرحلة ما بعد الاستعمار عبر مفاهيم جديدة من قبيل هيكلة اقتصاديات الدول الفقيرة، وتوقيع اتفاقيات وتفاهمات تجارية تتيح عمل منظومتها التجارية وتعزز تبادل السلع عبر السوق المفتوحة وإلغاء الحواجز الجمركية.
ورويداً رويداً بدأت تلوح في الأفق مناخات الانقلابات العسكرية بالتزامن مع الهجمة الاستعمارية الجديدة، وكان اغتيال السلطان عبد العزيز الأول (1861-1876م) بعد خلعه عن العرش أولى نتائج تلك السياسة، وكادت أن تقضي على هوية الدولة العثمانية منذ ذلك التاريخ لولا أن شخصية الأمير مراد الضعيفة والمرتعشة لم تتيح له أن يستمر في الحكم.
وبعد تنحي مراد فشل مخطط باشوات التنوير (محمد أمين عالي باشا وفؤاد باشا)، وتولى الحكم السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1908م)، لكن لم يتراجع دعاة التغريب، وتمكن الباشوات الثلاث (جمال باشا وطلعت باشا وأنور باشا) في عام 1908م من الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني وعزله عن العرش.
غادر الجنرالات الثلاث أعضاء جمعية الاتحاد والترقي أنور باشا وجمال باشا وطلعت باش العاصمة إسطنبول ليلاً في حالة من البؤس والخوف عبر زورق صغير باتجاه الغواصة الألمانية (الجرمانية) التي كانت تنتظرهم قرب خليج مرمرة عام 1918، بعد فشلهم في الحرب العالمية الأولى، ونتج عن تلك الهزيمة تقاسم الدول المنتصرة في الحرب سائر أرجاء الدولة العثمانية في المشرق العربي.
لم يفلح الباشوات الثلاث في مسعاهم، ولعلنا نتذكر عام 1908م ومشهد انقلابهم على السلطان عبد الحميد الثاني تحت ذريعة فشله الإداري، وتم عزله عن الحكم وسيطر الباشوات على السلطة بمعاونة الألمان ويهود الدونمه والجمعيات السرية، وكان أول انقلاب عسكري ناجح في تاريخ الشرق الحديث قام به مجموعة من ضباط الجيش، وصفوا بتأثرهم بنمط الثقافة الغربية في حينه.
الإرساليات التبشيرية:
ومنذ عام 1860م بدأت حركة التغريب عملها في لبنان عن طريق الإرساليات، ومنها امتدت إلى مصر في ظل الخديوي إسماعيل (31 ديسمبر 1830 - 2 مارس 1895الذي كان هدفه أن يجعل مصر قطعة من أوروبا.
التقى الخديوي إسماعيل في باريس مع السلطان العثماني عبد العزيز 1284هـ/1867م حينما لبَّيا دعوة الإمبراطور نابليون الثالث لحضور المعرض الفرنسي العام، وقد كانا يسيران في تيار الحضارة الغربية.
ابتعث كل من رفاعة الطهطاوي إلى باريس وأقام فيها خمس سنوات 1826 – 1831م، وكذلك ابتعث خير الدين التونسي إليها وأقام فيها أربع سنوات 1852 – 1856م وقد عاد كل منهما محملاً بأفكار تدعو إلى تنظيم المجتمع على أساس علماني عقلاني.
تأثرت تونس بهذه المناخات حينما أنشأ أحمد باشا باي الأول في تونس جيشاً نظامياً، وافتتح مدرسة للعلوم الحربية فيها ضباط وأساتذة فرنسيون وإيطاليون وإنجليز.
منذ 1830م بدأ المبتعثون العائدون من أوروبا بترجمة كتب فولتير وروسو ومونتسكيو في محاولة منهم لنشر الفكر الأوروبي، كان نصارى الشام من أول من اتصل بالبعثات التبشيرية وبالإرساليات ومن المسارعين بتلقي الثقافة الفرنسية والإنجليزية، كما كانوا يشجعون العلمانية التحررية وذلك لعدم إحساسهم بالولاء تجاه الدولة العثمانية، فبالغوا في إظهار إعجابهم بالغرب ودعوا إلى الاقتداء به وتتبع طريقه، وقد ظهر ذلك جلياً في الصحف التي أسسوها وعملوا فيها.
أنشأ جورجي زيدان (1861 – 1914م) مجلة الهلال في مصر وذلك في سنة 1892م، وكان على صلة بالمبعوثين الأمريكان، كما كانت له سلسلة من القصص التاريخية التي حشاها بالإضافات والتدليس في مواضيع تخص تاريخ الإسلام.
أسس سليم تقلا (1849في لبنان - 1892 في مصر) صحيفة الأهرام في مصر، وقد سبق له أن تلقى علومه في مدرسة عربية بلبنان والتي أنشأها المبشر الأمريكي فانديك* ، وأصدر سليم النقاش* صحيفة المقتطف التي عاشت ثمانية أعوام في لبنان، وانتقلت بعدها إلى مصر في سنة 1884م.
كان ناصيف اليازجي 1800 – 1871م وابنه إبراهيم اليازجي 1847- 1906م على صلة وثيقة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وأسس بطرس البستاني (1819 – 1883م) في عام 1863م مدرسة لتدريس اللغة العربية والعلوم الحديثة، وكان بذلك أول نصراني يدعو إلى العروبة والوطنية إذ كان شعاره "حب الوطن من الإيمان"، كما أصدر صحيفة الجنان سنة 1870م التي استمرت ستة عشرة سنة، وتولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت مشاركاً في الترجمة البروتستانتية للتوراة مع الأمريكيَيْن سميث وفانديك.
عهد المبشرين الأمريكان إلى ناصيف اليازجي وبطرس البستاني بتأليف كتب في علوم اللغة العربية أي النحو والمنطق والبلاغة والعروض، لتطبع وتوزع في كامل أنحاء البلاد، ولتسد بذلك نقصًا كبيرًا في هذا المجال.
أفتتح البروتستانت العديد من المدارس في مناطق مختلفة من الشام، افتتحوا بين سنة 1820 تاريخ قدومهم إلى المنطقة وسنة 1860 ما لايقل عن 30 مدرسة، وكانت أولى مدارسهم ببيروت وجبل لبنان ثم حولوا "مدرسة عبية" إلى كلية لإعداد المعلمين وتدريبهم، ولم تحل سنة 1860 إلا وكانت المدارس التي أسسوها تضم نحو 1000 تلميذ خُمُسهُم من البنات، وأخيراً وكنتيجة لتطور المراحل التعليمية من ابتدائي وثانوي وأمام الحاجة لتعليم عالي أنشأوا الكلية السورية البروتستانتية في بيروت، لتفتح أبوابها في أكتوبر 1866 برئاسة المبشر الأمريكي دانيال بليس والتي حافظة على وجودها رغم كل الصعوبات.
ومما سبق يمكن أن يتبين الدور الكبير الذي قام به المبشرون في المجال التعليمي وعلى رأسهم أساتذة الجامعتين اليسوعية والإنجيلية وخاصة الأساتذة الأمريكيين الذين درسوا العلوم العصرية بما في ذلك الطب والفيزياء والرياضيات بالغة العربية إلى غاية عام 1882 حيث تقرر تعويضها بالإنكليزية.
قاد قاسم أمين 1865 – 1908م الدعوة إلى تحرير المرأة المصرية والعربية وتمكينها من العمل في الوظائف والأعمال العامة، وقد كتب تحرير المرأة عام 1899م والمرأة الجديدة عام 1900م.
اصبح سعد زغلول وزيراً للمعارف سنة 1906م ونفذ فكرة كرومر القديمة والداعية إلى إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي بقصد تطوير الفكر الإسلامي من خلال مؤسسة غير أزهرية منافسة له.
كان أحمد لطفي السيد (1872 – 1963م) من أكبر مؤسسي * حزب الأحرار الدستوريين الذين انشقوا عن سعد زغلول سياسياً، وكان يدعو إلى الإقليمية الضيقة وهو صاحب العبارة المشهورة التي أطلقها عام 1907م وهي "مصر للمصريين".
لقد أنشأ * كرومر (1882-1906) كلية فيكتوريا بالإسكندرية لتربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي ليكونوا أداة المستقبل في نقل ونشر الحضارة الغربية أو الكولونيالية، وحينما افتتح هذه الكلية سنة 1936م قال * اللورد لويد: "كل هؤلاء لن يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ".
وكان طه حسين 1889- 1973م من أبرز دعاة التغريب في العالم الإسلامي، حيث تلقى علومه على يد المستشرق دور كايم وقد نشر أهم آرائه الثقافية في كتابيه الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر.
يقول في كتابه الشعر الجاهلي ص 26: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا أيضاً، ولكن ورود هذين الأسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي"، ويقول بعد ذلك: "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح"، كما أنه ينفي فيه نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشراف قريش.
لقد بدأ طه حسين محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه ثم قال: "سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني أبدأ هذه المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر".
ازدهرت حركة التغريب بعد سيطرة الاتحاديين عام 1908م على الحكم في الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد، وفي سنة 1924م ألغت حكومة مصطفى كمال أتاتورك المؤسسات العثمانية، وأسس النظام الجمهوري، مما مهد لانضمام تركيا إلى ركب التغريب الحديث، وفرض عليها التغريب بأقصى صورة وأعنفها على الصعيد الاجتماعي.
نشر علي عبدالرزاق سنة 1925م كتابه الإسلام وأصول الحكم الذي ترجم إلى الإنجليزية والأردية، يحاول فيه المؤلف أن يقنع القارىء بأن الإسلام دين فقط وليس ديناً ودولة، وضرب سميث مثلاً به عندما أشار إلى أن الفكر التحرري العالمي لا يروج في العالم الإسلامي إلا إذا فسرت نصوصه تفسيراً إسلامياً مقبولاً.
وكان محمود عزمي من أكبر دعاة الفرعونية في مصر، ودرس على أستاذه دور كايم الذي كان يقول له: "إذا ذكرت الاقتصاد فلا تذكر الشريعة، وإذا ذكرت الشريعة فلا تذكر الاقتصاد".
وسبق أن قدم منصور فهمي 1886-1959م: أول أطروحة للدكتوراه على أستاذه ليفي بريل مهاجماً نظام الزواج في الإسلام التي موضوعها حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها، وفي هذه الرسالة يقول: "محمد يشرع لجميع الناس ويستثني نفسه" ويقول: "إلا أنه أعفى نفسه من المهر والشهود"، لكنه انتقد بعد ذلك حركة التغريب في سنة 1915م وجاهر بآرائه في الأخطاء التي حملها طه حسين ومدرسته.
ويعتبر إسماعيل مظهر من أئمة مدرسة التغريب لكنه لم يلبث أن تحول عنها إبان عصر النهضة الحديثة، وكان زكي مبارك في مقدمة تلاميذ طه حسين، درس على أيدي المستشرقين، وسبق له أن قدم أطروحة للدكتوراه في الغزالي والمأمون مهاجماً الغزالي هجوماً عنيفاً، لكنه رجع عن ذلك فيما بعد وكتب مقاله المعروف إليك أعتذر أيها الغزالي.
ويعتبر محمد حسين هيكل 1888 – 1956م رئيس تحرير جريدة السياسة في الفترة الأولى من حياته من أبرز المستغربين، وقد أنكر الإسراء بالروح والجسد معاً انطلاقاً من نظرة عقلانية حياة محمد، لكنه عدل عن ذلك وكتب معبراً عن توجهه الجديد في مقدمة كتابه في منزل الوحي.
وكان الشيخ أمين الخولي وهو من مدرسي مادتي التفسير والبلاغة بالجامعة المصرية، يروج لأفكار طه حسين في الدعوة إلى دراسة القرآن دراسة فنية بغض النظر عن مكانته الدينية، وقاد شلبي شميل 1860 – 1917م الدعوة إلى العلمانية ومهاجمة قيم الأديان والأخلاق.
وقام المستشرق الإنجليزي – جب - بتأليف كتاب إلى أين يتجه الإسلام الذي يقول فيه: "من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة"، وقد أعلن في بحثه هذا صراحة أن هدفه معرفة إلى أي مدى وصلت حركة تغريب الشرق؟، وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا التغريب"؟.
يقول لورنس براون: "إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع وفي حيويته، وإنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي"، ولهذا فلابد من الدعوة إلى أن يطبع العالم الإسلامي بطابع الغرب الحضاري، من خلال تشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور يبرر الأنماط الغربية، ومحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائق مستقرة بين الغرب وبين العالم الإسلامي خدمة لمصالحه.
وأكد على أهمية الدعوة إلى الوطنية ودراسة التاريخ القديم والدعوة إلى الحرية باعتبارها أساس نهضة الأمة مع عرض النظم الاقتصادية الغربية عرضاً مصحوباً بالإعجاب، وتكرار الكلام حول تعدد الزوجات في الإسلام وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين.
واهتم بنشر فكرة العالمية والإنسانية التي يزعم أصحابها بأن ذلك هو السبيل إلى جمع الناس على مذهب واحد تزول معه الخلافات الدينية والعنصرية لإحلال السلام في العالم، ولتصبح الأرض وطناً واحداً يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة وثقافة مشتركة، بغية تذويب الفكر الإسلامي واحتوائه في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي.
إن نشر الفكر القومي كان خطوة على طريق التغريب في القرن التاسع عشر وقد انتقل من أوروبا إلى العرب والإيرانيين والترك والاندونيسيين والهنود، بغية تمزيق الكتل الكبيرة إلى كيانات جزئية تقوم على رابط جغرافي يجمع أناساً ينتمون إلى أصول عرقية مشتركة.
واعتمدت هذه الدعوة على تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة، ويقول المستشرق جب: "وقد كان من أهم مظاهر سياسية التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهماً في تقوية القوميات المحلية وتدعيم مقوماتها".
إن ما يمكن أن نستنتجه من خلال كل ما سبق أن العديد من الأطراف تدخلت في تحديد التحولات التي عرفها المشرق العربي خلا ل القرن19 عموما ونصفه الثاني خصوصاً، ونستنتج ضعف العامل المحلي مقارنة بالعامل الخارجي في هذه التحولات والذي وإن كانت غايته تبشيرية فإنه ساهم بقصد أو بغير قصد في إيجاد حركة فكرية ثقافية ستكون من أهم دعائم انبعاث الوعي القومي عند العرب.
هل نضوج الفكرة القومية في العراق وسوريا نتيجة دور النخب العسكرية أم المدنية؟.
أين اخفق دعاة مدارس التغريب؟، وهل دعواتهم تمثل أطروحات علمية أم هي مجرد انبهار بقشور الغرب؟، وما هي مدارسهم الفكرية؟، وما هي حقيقة تجاربهم خلال مرحلة ما بعد الاستعمار؟.
تمهيد:
يعود تاريخ بناء مؤسسات الدولة الحديثة في دمشق والعراق منذ عام 1918م، بالتزامن مع هزيمة الدولة العثمانية وخضوع المشرق العربي تحت الانتداب الاستعماري، فتم هدم مؤسسات الدولة والمجتمع القديمة، واستبدلت بأنماط جديدة استأنست تقليد الثقافة الفرنسية في المآكل والمشرب والملبس والعلاقات الاجتماعية وثقافة الحكم، واتهم رواد ودعاة المؤسسات التقليدية بالرجعية.
أسست الجيوش العربية الحديثة في عهد الاستعمار الانجليزي والفرنسي، بفارق بسيط بين ظروف نشأة وتجربة بلدان المشرق العربي مقارنة مع بلدان المغرب العربي، وكان سوادها الغالب من ضباط وجنود عرب قاتلوا إلى جانب المستعمر الأوروبي في الهند وجنوب أفريقيا ومعركة العلمين.
انشق بعض الضباط العرب عن الجيش العثماني في الشام والعراق والحجاز والتحقوا مع الشريف حسين بن علي والانجليز، وبعضهم ترك العسكرية نتيجة احتدام المعارك العثمانية مع الانجليز، وبعد انتهاء القتال استدعتهم بريطانيا لخدمتها، ومن طلائع هذا الخليط المتعدد العقيدة والولاء أسس الملك فيصل جيش حكومته الأولى في دمشق، وحينما هرب إلى بغداد استقدم إلى جانبه بعض فلولهم، واعتمد عليهم أثناء إدارة مملكته الجديدة في العراق.
تعرفنا كيف أسهم بعض الضباط العثمانيون والصحافة المستقلة في نشر الأفكار الأوروبية الحديث بين صفوف الجيش والشعب التركي وداخل العاصمة اسطنبول وبين الأقليات الدينية والاثنية، ولم يختلف الأمر في العراق وسوريا بهذا الشكل الكبير، بل تكاد أن تتشابه المناخات.
وصِف رشيد علي الكيلاني بالقومي العراقي، شارك في عضوية عدد من الجمعيات السرية أواخر العهد العثماني، من دعاة الانفصال عن الدولة العثمانية، تقارب مع الألمان في العهد النازي وإيطاليا في العهد الفاشي، وخاصم الإنجليز، تقلد عدد من المناصب الوزارية في العهد الملكي، وهو زعيم حركة أو انقلاب عام 1941م، كان متأثراً بالاشتراكية الألمانية على عكس الجنرال عبد الكريم قاسم قائد انقلاب عام 1958م في العراق، فكان قاسم شيوعياً حليفاً للسوفيت.
بينما تأثر زعماء التيار القومي السوري بمفاهيم الاشتراكية الفرنسية والإيطالية الغير متصالحة مع شيوعية السوفيت، ومنذ عام 1940م نبتت نبتت في سوريا الفكرة القومية، ومنها انطلقت أفكار ورسائل التيار القومي العربي في المشرق والمغرب، ولربما لا ينافسها في هذا السبق سوى النخب القومية في العراق.
اختلفت الأنماط الثقافية والمشارب الفكرية وأيضاً التجربة لدى نخب مصر، سيما أن مصر كانت قبلة رواد التجديد الديني في نهاية القرن التاسع عشر، ورحل إليها جمال الدين الأفغاني واستقر فيها الكواكبي ومحمد رشيد رضا، وبرع من بين مصلحيها الإمام محمد عبده، وذاع انتشار هذه المدرسة بين طلاب الأزهر الشريف وكليات ومعاهد العلوم التربوية والشرعية ورواد كليات الآداب.
واستطاعت المؤسسة الملكية في مصر أن تستمر خلال النصف الأول من القرن العشرين رغم تحولات الحرب العالمية الأولى وفترة ما بين الحربين، نتيجة تبنيها الليبرالية السياسية، وأتاحت للأحزاب والقوى السياسية من حزب وطني والسعديين وحزب الوفد ممارسة السياسة وتشكيل الحكومة بعد تحولات ثورة 1919م، وتجاوب القصر الملكي مع مطالب القوى والشارع، وتم صياغة وإقرار دستور عام 1920م، ويمثل دستور مدني ليبرالي يستحق البناء عليه، وتضمن مواد في غاية الأهمية تتحدث عن الحريات العامة وفصل السلطات وتحدد سلطات البرلمان والقصر والحكومة.
أدّت خسارة العرب في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 لسقوط طبقات النخبة التقليدية في المشرق العربي و صعود الجيش إلى سدة السياسة والحكم، حيث أصبح حسني الزعيم أول ديكتاتور عسكري في سوريا عام 1949، ولكن في العام 1950، استطاع الضابط العسكري أديب الشيشكلي أن يمسك بزمام الأمور من وراء الكواليس، وبحلول عام 1953 كانت ديكتاتورية عسكرية أخرى قد أُقيمت في مصر على ركام نظام ليبرالي إقطاعي ملكي.
لم ترتاح النخب المدنية والأحزاب لدستور عام 1952م، خاصة عند مقارنته مع دستور عام 1920م، حيث وصف الأخير بكونه دستوراً مدنياً بامتياز، ووصف بأنه الأقرب إلى مطالب الدولة المدنية، بينما وصف دستور عام 1952م بكونه منح المؤسسة العسكرية هامش مريح يتيح لها التدخل في الحياة العامة في البلاد.
تم إقصاء النخبة المدنية والسياسية التي أثرت في مشهد تحولات مصر السياسية بعد ثورة عام 1919م، واستبدلت بعد عام 1954م بنخبة جديدة، وصفت بالقريبة إلى الثقافة العسكرية، وحلت الأحزاب وبعضها حضر والبعض الأخر لم يمارس دور المعارضة الحقيقية، وفي هذه المناخات حكمت القومية في مصر مختزلة في شخص الزعيم، تمكنت من حكم مصر رغم افتقاد البيئات المصرية لرواد ومنظري الطرح القومي، وهنا تكمن غرابة التجربة القومية في مصر على عكس تلك التي تبلورت في سوريا والعراق.
لم تشهد الساحة المصرية تبلور مدرسة الفكر القومي، ولم يعرف لها كُتاب ومؤرخون كما في الشام والعراق، وانتشرت الفكرة القومية في مصر وتلتها ليبيا عبر طلاب المدارس العسكرية وتنظيمات الضباط خلال فترة تلقيهم التدريب العسكري في سوريا والعراق، وإن ظهرت بعض النخب الفكرية والحزبية فهي في مرحلة متأخرة، واختلف روادها مع تجربة المؤسسة العسكرية، ورفضت تهور تنظيمات الضباط.
ولعلنا يجب أن نقف هنا أمام شخصية محمد حسنين هيكل، حيث حاول الإعلام المصري إن يقدمه بمثابة رمز ثقافي وفكري وكاتب قومي من الدرجة الأولى، بينما ينظر إليه البعض كونه جزء من منظومة الحكم منذ عهد جمال عبد الناصر، ويرى آخرون أن مدارك هيكل تطورت خلال تلك التجربة، بمعنى أنها لم تسبق التجربة القومية في مصر، ولم تؤثر في مجريات أفكارها قبل عام 1952م، رغم اختلاف محمد حسنين هيكل مع خلفاء جمال عبد الناصر في الحكم، ورغم ما ينسب له من كتب ومؤلفات حول الطرح القومي والناصري.
استطاع جمال عبد ناصر أن يؤثر في شريحة واسعة من المواطنين العرب في المشرق والمغرب العربي، وكسب قلوبهم، وتأمل العرب الكثير خلال تلك الحقبة، ووصف ناصر بالزعيم، رغم هذا الزخم الشعبي العربي إلا انه لم يستطع أن يؤسس لمرحلة جديدة شعارها حرية وعدالة اجتماعية وتنمية حقيقية، وخلال سنوات حكمه قدم الدعم المادي والعسكري لصالح حركات المقاومة الشعبية في المنطقة العربية، وتحدث عن قضية فلسطين، وحاول أن يكسب الأمريكان لكنه لم يستطع، وتوجه نحو تكثيف التواصل والتعاون مع السوفييت، وتلقى من السوفييت دعم عسكري وفني أثناء بناء السد العالي وبعض المشاريع القومية وقبيل حرب عام 1967م.
قاد جمال عبد الناصر عام 1967م حرباً ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، وشاركه في هذه الحرب النظام السوري والمملكة الأردنية الهاشمية ودولة لبنان وتلقى الدعم من السودان والسعودية، لكنه خسر الحرب، وخرج منها بخسائر بشرية ومادية كبيرة، وفقد العرب في هذه الحرب شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية وهضبة الجولان، وتراكمت نكبة الشعب الفلسطيني، وكانت هزيمة عام 1969م نقطة تحول اختبرت التجربة القومية التي قادها ضباط الجيش، وفقد ناصر زخمه الشعبي، وبدأت تتراجع هذه التجربة أمام أول اختبار حقيقي.
لم يعرف عن زعماء الحركة القومية في ليبيا ومصر مقدرتهم على الإلمام بالطرح القومي أو تقديم أطروحات علمية ذات طابع نهضوي واضح المعالم، بل مارست هذه الزعامات دور القائد العسكري وتأثرت بثقافة الطرح الاشتراكي، ولم تحسن إسقاطه على الواقع العربي كما فعلت الصين.
وأدى سلوك بعض الزعماء والقادة مع شعبهم ومع القوى السياسة والأحزاب إلى قتل الفكرة القومية في مصر وعموم البلاد العربية، وزاد من هذا الإخفاق مآلات نكسة عام 1967م، وتبعها تردي الأحوال المعيشية وتفاقم الغضب الشعبي على الأوضاع الاقتصادية والرغبة في البحث عن نصر عسكري يعيد للعرب هيبتهم، وتراكمت هذه الأوضاع في عهد الرئيس محمد أنور السادات 1970م – 1980م.
ووصف البعض الحركة التصحيحية في سوريا عام 1970م بانقلاب طائفي قاده وزير الدفاع حافظ الأسد استغل خلاله البعث والقومية وأُجهز على ضجيج وعنفوان الطرح القومي في مهده بحلول عام 1970م، نجح في وضع حد للتنوع الفكري داخل المؤسسة العسكرية، لكنه ضيق على الحياة الحزبية، وكرس فكرة الرجل الواحد والحزب الواحد.
وتمكن حافظ الأسد من تأميم الحياة العامة والفضاء السياسي، وتطورت الأحداث في سوريا حينما اتهم أستاذ القومية الأول ميشيل عفلق وحكم عليه بالإعدام عام 1966م بعد سيطرة الضابطين صلاح جديد وحافظ الأسد على السلطة في دمشق، وبذلك انتصر التيار العسكري داخل البعث، وهرب عفلق قاصداً بغداد بعد سلسة من الانقلابات كان من ضمنها حركة عام 1966م، وتوفي في باريس ونقل جثمانه إلى بغداد، وتؤكد الوثائق فكرة اعتناقه الإسلام، وقدم في أواخر حياته أطروحات ومراجعات وصفت بكونها تجمع بين العروبة والإسلام، وبذلك ابتعد عفلق عن علمانية الطرح القومي في بداياته.
ولم تتوقف تحولات التنكيل برواد الفكرة القومية ومنظريها الأوائل عند ميشيل عفلق بل اتهم الأسد بتدبير حادثة اغتال أستاذ القومية ومُنظرها الثاني صلاح البيطار في باريس في حزيران 1980م.
تتلخص الأزمة التي كان يعاني منها أستاذ القومية العربية ميشيل عفلق، في الفترة بين أعوام 1940- 1942م بالموقف من الشيوعية، ولكنه اختار الابتعاد عن الشيوعية، واختار الفكرة الاشتراكية الأوروبية متأثراً بحركة الانبعاث الإيطالي بزعامة جوزيبي مازيني وجمعيته - ايطاليا الفتاة -، فحملها بأهدافها إلى الواقع العربي، وخلطها مع الاشتراكية الفرنسية، لتصبح فكرة حكم وفلسفة أنظمة وشعارات نخبة حكمت حواضر المشرق العربي منذ عام 1953م، لتنقسم بعدها النخب الثورية وتدخل في صراع مرير بين قومي شيوعي وأخر اشتراكي وكلاهما قد يكون مدني ناقم يتنقل فاراً بنفسه بعد كُلِ انقلاب أو بعد تولي تنظيمات الضباط زمام السلطة في قطر عربي.
كيف انتقلت بعض الممالك العربية إلى أنظمة جمهورية؟
أدى الاستعمار الفرنسي إلى استبدال العديد من الممالك العربية بجمهوريات، نتيجة كون فرنسا اقدم جمهورية تأسست في أوروبا والعالم بأسره، وكانت متأثرة بمبادئ الثورة الفرنسية، ونقلت تلك المبادئ إلى النظام الإداري السائد في مستعمراتها العربية.
ودعونا نتتبع اهم تلك الممالك العربية التي تحولت إلى جمهوريات إلى جمهوريات، نجد أن سوريا هي الجمهورية العربية الأولى، واستمرت بين أعوام 1932 - 1963م، وأعلنت الجمهورية الأولى بعد فترة من إسقاط حكومة الملك فيص بن الحسين وفراره من دمشق عام 1920م متوجهاً إلى بغداد، واستمرت تحت الحكم الفرنسي حتى الاستقلال عام 1946م، والفترة الثانية تخللها إعلان الجمهورية العربية المتحدة مع مصر حتى تاريخ 1961م، وانتهت الجمهورية الأولى عام 1963م بانقلاب البعث في الثامن من آذار عام 1963م، شهدت هذه الفترة ازدهاراً اقتصادياً وتعددية حزبية، ولم يعكر صفوها إلا ثلاثة انقلابات عسكرية كان أولها عام 1949م.
بينما انتهي أول حكم ملكي عربي في سوريا عام 1920م، نتيجة حداثة تجربة الملكية في الشام، كونها كانت تحكم مباشرة من العاصمة العثمانية مثلها مثل الحجاز والعراق، بخلاف مصر وشمال إفريقيا، ففي تلك البلدان العربية الإفريقية تأسست ممالك قديمة تتبع بشكل غير مباشر الحكم العثماني.
وثاني تلك الممالك التي تحولت إلى جمهوريات تحتلها فرنسا كانت تونس، فأتاحت فرنسا سلطات واسعه للحزب الدستوري الجديد ورئيسه الحبيب بورقيبة، وبعد الاستقلال بعام واحد أعلن بورقيبة تأسيس الجمهورية التونسية الأولى عام 1957م، وأتبع سياسة متقاربة مع فرنسا.
ونجحت فرنسا في نشر فكرتها السياسية والاجتماعية عبر هذه الجمهوريات الحديثة، ولم يتردد زعماء تونس منذ بورقيبة وخليفته زين العابدين أعجابهم بفرنسة الدولة ومؤسساتها، وأيضاً اتبعت سوريا نفس السياسة وبالتحديد بين أعوام 1946م - 1958م، وتم فرنسة التعليم وهيكلت المؤسسات وفق النمط الفرنسي وإلغاء الأوقاف والمحاكم الشرعية وتقليص دور الهيئات الدينية في الأوقاف والقضاء والأحوال الاجتماعية، وانعكست هذه السياسة على المؤسسة العسكرية والتعليم والنقابات العمالية.
واعتقال احمد بن بيلا ومجموعة من قيادة الثورة الجزائرية في حادثة الطائرة المغربية اسهم في اتساع مناخات الاختلاف بين حكومة الثورة الجزائرية وقيادة أركان الجيش، واتسع السجال بعد تمثيل بوتفليقة لقيادة الجيش في وفد التفاوض مع فرنسا، مما أغضب وأيد محمد بوضياف موقف قيادة الجيش المتمثلة بهواري بومدين ورفض مساندة لكريم بلقاسم، ورفضت السجناء محاولة استمالتهم، وبعد توقيع اتفاق ايفان في مارس 1962م لوحظ وجود خلاف بين القادة السجناء بعد غياب محمد بوضياف.
حينما خرج بن بيلا من السجن تقاب مع قيادة الأركان، مما أغضب الحكومة المؤقتة المدعومة من القاهرة، لكن يبدو بأن بن بيلا كان الأوفر حظاً من بين القادة نتيجة، حينما توجه جيش الحدود نحو العاصمة وسيطر عليها، وحسم صراعه مع الكريم بلقاسم ومحمد بوضياف والحكومة المؤقتة، وحازم على دعم الجيش بمساندة بومدين، وحصلت حكومة بن بيلا علة ثقة المجلس المؤقت.
واحتفظ بن بيلا بعلاقة جيد مع شارل ديغول رئيس حكومة فرنسا، وتأسست تلك العلاقة خلال فترة الاعتقال في باريس وجلسات التفاوض قبيل الاستقلال، إضافة إلى كون بن بيلا عسكري قديم خدم إلى جانب الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية وخلال حرب التحرير الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، فقدم الرجل خدمات جليله لفرنسا وحاز على عدد من الأوسمة.
وبعد عودته إلى الجزائر شارك في تأسيس المقاومة الجزائرية وتنقل بين العواصم العربية والأوروبية حتى اعتقاله في أواخر عام 1958م وهو قادم من إسبانيا إلى المغرب باتجاه تونس، كرم من السوفيات في مواقف عديدة، فبذلك ربطته علاقة مميزة مع الاتحاد السوفيتي، لكنه اختار أن يعيش بعد خروجه من السجن في العاصمة الفرنسية باريس، ومنها عاد ليمارس نشاطه السياسي.
تولى بن بيلا رئاسة حكومة الجمهورية الجزائرية عند تأسيسها عام 1962م، لم يستطع بن بيلا كسب العديد من رفاق النضال وقادة الجيش، فأقدم على القاء القبض على بعضهم وسجن أخرون وصدرت أحكام إعدام للبعض الأخر ونفي أخرون ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية.
وبدأت تظهر ملامح الخلاف بين حزب جبهة التحرير والجيش، فاختلف بن بيلا مع قائد الجيش هواري بومدين، خلال مؤتمر الحزب في عام 1964م، وفي يونيو 1955م اعلن هواري بومدين عن انقلابه العسكري الأول في تاريخ الجزائر، ووقع بومدين في نفس أخطاء بن بيلا فحل المؤسسات الدستورية، وبعثت الولايات المتحدة الأمريكية أو برقية دعم للانقلاب، واستمر بن بيلا 15 سنة متنقلا بين معتقل وحبس انفرادي، تعرف خلالها على الفكر الإسلامي معتمداً على عدد من الكتب والملفات التي سمح له بمطالعتها.
لم تخرج السلطة في الجزائر من يد العسكر، فبن بلا عسكري قديم شارك إلى جانب الحلفاء، وبومدين أسس الجيش الجزائري قبل الاستقلال، واختلف مع بن بيلا وقيادة الحزب، والشاذلي بن جديد أيضاً عسكري وبالمثل عبد العزيز بوتفليقة الرئيس الجزائري الحالي.
فنسجت فرنسا ثقافة الحكم الاشتراكي الجمهوري في البلدان التي استعمرتها، وأنهت الأنظمة الملكية في سوريا وتونس والجزائر.
لماذا تولت التنظيمات العسكرية الحكم في الشرق العربي، وفشلت الأحزاب؟.
سيطر العساكر على الحكم في الشرق العربي، كونهم القوة الأكبر والأكثر تنظيماً، وتمتلك السلاح وتتكون من تنظيم عسكري خاضع للأوامر قيادته بشكل هرمي، وتدرب جنوده وضباطه في المدارس والمعاهد الحربية البريطانية والفرنسية، وقاتل بعضهم إلى جانب الحلفاء أو دول الوسط خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشارك البعض منهم في حرب التحرير الفرنسية.
لذلك فإن المؤسسة العسكرية هي الوحيدة التي كانت مستعدة لتولي السلطة قبيل خروج المستعمر، ويمكنها أن تضبط الشعب ونخبه وأحزابه والممرات المائية والمضائق والحدود والمعابر والثروة، ويستأمنها المستعمر بعد خروجه، كونها مشبعة بثقافة الغرب ومبادئ الاشتراكية الأوروبية ومتأثرة بمفاهيم ثورات أوروبا الفرنسية والبلشفية وحركة توحيد إيطاليا وجمعياتها السرية وتوحيد ألمانيا.
ووفق هذا المشهد يمكن للمستعمر أن يعقد اتفاق مع طرف يعتقد بمقدرته على ضبط زمام البلاد، تلقف تلك الأفكار والمناخات الاستعمارية كبار الضباط العرب في الممالك الهرمة أو الجمهوريات الفتية، وكان بعضهم عضواً أو مؤسساً لجمعيات سرية أو تنظيم سري على غرار تلك التي انتشرت في أوروبا مثل مصر الفتاة وغيرها.
وكان ضباط الجيوش في سوريا والعراق ومصر والجزائر على دراية كاملة بالثقافات الغربية وأنماط الحكم الغربي، رغم قيام بعضهم بتعديلات حول تعريب الفكرة الاشتراكية، وامتلك بعضهم خبرات تدريبية وقتالية جيدة في اليابسة الأوروبية وقرب قرية العلمين غربي مصر وفي الهند والخليج العربي وجنوب أفريقيا بين أعوام 1918 - 1945م.
ومنذ ذلك التاريخ تتابع على حكم البلاد العربية وحواضرها المؤثرة في الشام والعراق ومصر والجزائر تنظيم العسكر، فكل ما جرى ويجري في هذا الشرق الحزين من نكسات ونكبات وويلات وحروب ومجاعات وانقسامات وصراع على السلطة جزء من تلك العقلية المتفردة.
لم يدرك العساكر العرب أن أوروبا اليوم ومنذ عقود طويلة تحررت من تدخل العسكر في الحكم والحياة العامة، وأن الاشتراكية الفرنسية ترفض الوصاية العسكرية، وكان الجنرال شارل ديغول في فرنسا حالة نادرة حيث حكم فرنسا لفترتين، تكريماً له على دوره في تحرير البلاد من الاحتلال الألماني بعد عام 1944م وتم عزله عن الحكم بعد مظاهرات عام 1968م، كما كان نابليون بونابرت حالة شاذة في تاريخ العسكرية الفرنسية وتحديداً حينما تولى رئاسة مجلس الإدارة الفرنسية بعد الثورة 1798 واستمر في السلطة بشكل متقطع حتى عام 1815م، فمتى يعقل الجنرالات العرب أنه حان الوقت لرحيلهم وتنحيهم عن الحياة السياسية.