يسلط منهاج الدراسات التاريخية الذي يُدَرَس لطلاب الثانوية العامة الضوء على الفكر القومي بشكل عام والقومية العربية بشكل خاص خلال دروس الوحدة الأخيرة، ويؤكد المنهاج الدراسي على جملة من العناصر التي يرتكز عليها الفكر القومي العربي، وهي اللغة والتاريخ والثقافة والآمال والطموحات والتضحيات ووحدة الجغرافية.

ويربط الفكر القومي بمراحل تاريخية مرت على الأمة العربية، بدءاً من تاريخ العرب قبل الاسلام ومروراً بالدعوة الاسلامية والدول الاسلامية التي حكمت هذه الجغرافية ويختمها بالتضحيات الجسام التي تكبدها الانسان العربي على يد الاستعمار الأوروبي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

يعتبر الفكر القومي أن الدعوة الاسلامية منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست سوى تاريخ وأحداث أبدع فيها الجنس العربي، وتم تجيرها لصالح الايديولوجيا القومية ونزعت من صبغتها وجوهرها الروحاني الايماني والشمولي.

لا يعترف الفكر القومي بالدولة التي تقوم على تعاليم ومبادئ الدين الاسلامي، ولا يؤمن مفكريه أن الاسلام دين ودولة وتتخاصم نخبه ومفكريه مع الاطروحات التي تقول أن السياسة هي من جوهر العمل الاسلامي، وتؤكد أن الدين اذا دخل إلى السياسة حتماً سيفسدها، لم يتطرق المنهاج الدراسي إلى هذه الجزئية التي أوردتها في هذه الفقرة، ولكنها حاضرة في وجدان النخب وكتاب القومية ومنظريها.

تطرق المنهاج الدراسي إلى جملة من مفكري نهاية القرن التاسع عشر وجلهم من أهل المشايخ وأهل العلم الشرعي ممن أبدعوا في مجالات الفكر والسياسة وعلم الاجتماع، وعلى رأسهم الامام محمد عبدة والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ عبد الرحمن الكواكبي، واعتبرهم المنهاج الدراسي بمثابة رموز الفكر القومي، بينما تجاهل الحقيقة التي تقول أن هذه الكوكبة من أهل الفكر والعلم هم نواة حركة الاصلاح والتجديد في اطار الفكر الاسلامي، ولم يخرجوا عن مفاهيمه الايمانية والروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل قدموا أطروحات متقدمة فاقت زمانهم، وأن مفهوم العروبة الذي ورد في مؤلفاتهم ومقالاتهم ليس سوى جانب من جوانب العلاج الذي قدموه للأمة في اطار بعيد عن المفهوم الغربي للقومية.

لم يؤسس محمد عبدة وتلاميذه تيار او حركة قومية ولم يتعصبوا للعرب كجنس، بل قدموا حلاً لمشكلة في ظرف تاريخي ضاغط، بل أن استاذهم هو جمال الدين الأفغاني، ذلك المفكر الكبير والشيخ الجليل ليس عربي في أصله بل هو من بلاد خارسان (أفغانستان)، ولم يتمرد على الدولة العثمانية، وطالب بإصلاحها، وعاش فترة من عمره في اسطنبول والقاهرة ودرس في مسجدها الأزهر الشريف.

تتلمذ على يديه عدة تلاميذ فمنهم من دار في فلك الاسلام وفهم أفكار شيخه في هذا السياق، ومنهم من أخذ عن شيخه في اطار يخدم النسق الفكري الذي تأثر فيه نتيجة بيئات التغريب التي عايشتها مصر منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

لم يتحدث المنهاج الدراسي عن أعلام الفكر القومي العربي ورموزه وقادته في مجالات الفكر والسياسة ممن وضعوا واسسوا معالم هذا التيار وقادوا محافله واحزابه، لم يذكر قسطنطين زريق وساطع الحصري وجورجي زيدان وفيليب حتي وميشيل عفلق ولا جمال عبد الناصر وجورج حبش ونايف حواتمة.

تجاهل واضعي المنهاج الدراسي أن الواقع والتجربة تؤكد أن الايمان والدين الاسلامي هما أساس وحدة العرب، وأن أول تجربة حقيقية وناجحة استمرت لقرون طويلة على صعيد وحدة العرب قد نسج الاسلام معالمها وتفاصيلها ولوائحها، بل أتاح الاسلام للعرب حكم اجناس وشعوب عدة جردها من الأنا القومية لصالح الوحدة الايمانية، وأكد الاسلام أن مفاهيمه ونظمه وقوانينه وروحانيته تتسع للعرب والعجم والاتراك والروم والزنج والبربر من تَبِو وأمازيغ وطوارق وغيرهم من الأجناس.

عاشت الكثير من هذه الاجناس بين العرب في تداخل جغرافي فرضه الواقع، فعاش البربر الى جانب العرب في جبال المغرب العربي وكذلك الزنج في السودان والقرن الافريقي وأيضاً الاكراد والاتراك والعجم في شمال وشرق العراق وشمال سوريا، ان هذه الاعراق والشعوب التي عاشت داخل الجغرافية التي يمثل فيها العرب أغلبية يلتقون مع العرب في دائرة الاسلام ولا يمكن ان نتجاهل تعدادهم الكبير ويفوق بأضعاف عديدة نسبة اصحاب الاديان الأخرى سيما أهل الذمة ممن يتواجدون بين العرب المسلمين في اقاليم الشام ومصر وغيرهما.

لا يجوز أن اطالب بعلمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة لأجل كسب ود أهل الأديان الأخرى، ان هذه الدعوة لا تنسجم الا مع تلك الديناميات التي فرضها

الاستعمار والامتيازات الاوروبية في بلاد المشرق بهدف تعزيز التجزئة والفرقة بين اتباع الوحدة الايمانية لصالح أقليات دينية حفظ الاسلام حقوقها في اطار نظمه وقوانينه لكنه لم يمنحها الدولة ومؤسساتها كما منحها دعاة القومية.

اتحدت افكار ومصالح وتوجهات عدة طوال القرن الماضي لصالح خدمة الاستعمار او الاعتماد عليه او بذريعة الحريات وحقوق الاقليات، لقد اتحدت عدة تناقضات تحت ذرائع ومسميات واستغلت الفكر القومي لتواجه به الفكرة الايمانية التي ترمز الى شمولية الاسلام.

ذهب المنهاج الدراسي بعيداً وكأن مؤلفيه قد عجزوا عن مصارحة طلابنا، وأصبح حالهم مشابه لواقع التعتيم والخداع الذي مارسه ويمارسه القادة ومن يملكون زمام الأمر والنهي في الضفة الغربية المحتلة.

يحاول واضعي السياسات التربوية الايحاء بأن مرجعيتهم تتناغم مع القومية العربية، ويحاولون خداع الجماهير في ترقيع واقع قد تجاوز القومية وتجاوز الدولة الوطنية ويؤسس لمرحلة جديدة، يحاولون أن يستمروا بكي الوعي وحرف المفاهيم، بينما تقول الحقيقة وتوحي بأن هذه النخب والقيادات لم تؤمن في يوم ما بالقومية وحتى الوطنية قد ألبستها لبوس غير لائق منذ عقود وتجردت من أبسط القيم الوطنية والأخلاقية في سبيل المال والمنصب والجاه، لقد تجردت من جملة المفاهيم ذات المصلحة الجمعية أو الفكر الجمعي، وانكفأت تبحث عن الشلة والمنطقة والزعامة والقوة المحلية."دراسة حول مفهوم القومية في المنهاج الدراسي الفلسطيني"