سيف "القرارات الرئاسية بقانون" المسلول على القانون الفلسطيني
منذ عام 2007، وتحت ذريعة استيلاء حركة المقاومة الإسلامية حماس على قطاع غزة، بدأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بإصدار قرارات لها قوة القانون بموجب المادة 43 من القانون الأساسي الفلسطيني التي نصت على التالي: "لرئيس السلطة الوطنية، في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير، في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار قرارات لها قوة القانون، ويجب عرضها على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها بعد صدور هذه القرارات، وإلا زال ما كان لها من قوة القانون، أما إذا عرضت على المجلس التشريعي على النحو السابق ولم يقرها زال ما يكون لها من قوة القانون".
بموجب هذه المادة القانونية، قام رئيس السلطة الفلسطينية، وعلى مدار أكثر من خمسة عشر عاماً، بالاستيلاء على سلطة التشريع بشكل كامل، وألغى السلطة التشريعية فعلياً، وحلّ المجلس التشريعي الذي كان مجمداً لا يعمل، وأخيراً ألغى الانتخابات التشريعية التي كان يعوّل عليها الشعب الفلسطيني للخروج من حالة التفرد التشريعي التي يديرها مكتب الرئاسة بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى المُعين بشكل غير قانوني بموجب أحد هذه القرارات بقانون، والصادر عام 2020، والذي عدّل قانون السلطة القضائية، وهو قانون ينظم سلطة منفصلة تماماً بموجب القانون الأساسي الفلسطيني عن السلطة التنفيذية، التي قامت بإصدار قانون يعدل قانون سلطة أخرى في اعتداء واضح على مبدأ الفصل بين السلطات.
بتاريخ 30 تشرين الثاني 2020 أصدر رئيس السلطة ثلاثة قرارات بقانون نشرت في الجريدة الرسمية الفلسطينية "الوقائع" والمتمثلة بقرار بقانون رقم (40) لسنة 2020 بشأن تعديل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002، والقرار بقانون رقم (39) لسنة 2020 بشأن تشكيل المحاكم النظامية، والقرار بقانون رقم (41) لسنة 2020 بشأن المحاكم الإدارية، ومن ثم إصدار مرسوم رئاسي بتعيين مجلس قضاء أعلى دائم مساء يوم الثلاثاء الموافق 12 كانون الثاني 2021 وذلك بناء على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى الانتقالي المشكل بموجب القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019، خلافاً لأحكام القانون الأساسي وتأثيرهم على مبدأ استقلال القضاء وسيادة القانون والفصل بين السلطات.
هذا وقد حذرت مؤسسة الحق في ذلك الحين من الاعتداء على قانون السلطة القضائية من خلال إصدار رئيس السلطة قرارين بقانون بشأن تعديل قانون السلطة القضائية وتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي ومن تداعياتهما وتأثيرهما السلبي على مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وما أدل على ذلك سلوك المجلس الانتقالي خلال فترة توليه عمله، فقد غلب عليه حالة التخبط، وفقدان الرؤية، وعدم وجود خطة واضحة المعالم للنهوض بالقضاء. حينما انصبت جهوده على تعزيز روح الانتقام في صفوف القضاة، وأصبحت صلاحيات الندب والعزل والإعارة، والاحالة على التقاعد سيفاً مسلطاً على رقاب القضاة، مما أدخل في نفوسهم الخوف، والترهيب من احالتهم للتفتيش القضائي دون مسوغ قانوني، وما تبع ذلك من سياسة الانتقام التي انتهجها المجلس الانتقالي ضد القضاة بتنسيب لندب عشرات القضاة للمؤسسات الرسمية الأخرى خلافاً للقانون والأصول الواجب اتباعها.
تلكم القرارات بقانون الصادرة عام 2020 كانت الأساس الذي بنيت عليه القرارات بقانون الصادرة مؤخراً بشأن تعديل القوانين الإجرائية وقانون البينات والتنفيذ، خصوصاً أن الاحتجاج الذي جرى على تلك القوانين انتهى بالفشل، وإحالة الأمر للجنة لدراستها، وهذا ما لم يحصل وسرت هذه التعديلات بدون أية مشاكل تذكر. لماذا هي الأساس الذي بنيت عليه القرارات بقانون الأخيرة؟ لعدة أسباب منها:
أولاً: شعرت السلطة التنفيذية أنه يمكنها تعديل وإصدار القوانين بدون حسيب أو رقيب عليها، وذلك بعد فشل نقابة المحامين في إلغاء القرارات بقانون السابقة.
ثانياً: ضمان عدم معارضة القضاة لهذه التعديلات المخالفة للقانون الأساسي، وذلك بعد التعديلات التي ذكرتها سابقاً والتي طالت قانون السلطة القضائية، والذي سلب القضاة استقلاليتهم، وعدم خضوعهم إلا لضمائرهم في أحكامهم.
ثالثاً: رغبة مجلس القضاء الأعلى المعين على خلاف الأصول والقانون بزيادة عدد القضايا المفصولة عن عدد القضايا الواردة والمدورة، وذلك عن طريق تسريع إجراءات التقاضي بصورة تمس أسس العدالة وأصول المحكمات العادلة.
هذا مع ملاحظة أن هناك تغييبا واضحاً لنص المادة 43 من القانون الأساسي، كأساس لإصدار التشريع، والذهاب إلى التمسك بالنظام الأساسي لمنظمة التحرير مع الاطلاع على القانون الأساسي الفلسطيني دون الاستناد إلى نص المادة 43، والتي تخول الرئيس سلطة إصدار التشريعات في حالات الضرورة القصوى التي لا تحتمل التأجيل.
وبحسب الزميل داود درعاوي الذي قال: نحن أمام حقبة جديدة عنوانها لا مجلس تشريعي قادم، خاصة وأن القرارات بقانون في العادة تنتهي بعبارة (يعرض هذا القرار بقانون خلال أول دورة انعقاد للمجلس التشريعي) وهو ما غُيّب عن القرار بقانون الخاص بتعديل قانون الإجراءات الجزائية. نحن أمام نهج جديد، ولأول مرة في تاريخ التشريع يكون الرأي القانوني لجهة معينة مصدرا لمصادر التشريع، ونحن على أعتاب مرحلة سوداوية صعبة.
فيما قال القاضي السابق أيمن ظاهر: إن ما ورد في هذه التعديلات هو عبارة عن لغو، والبنود الواردة فيه ليست دستورية، صياغتها ركيكة، وتعارض الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها فلسطين، وأهمها العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية واتفاقيات حقوق الإنسان. وبحسب الزميل ظاهر، فإن التعديل الوارد في المادة 6 على المادة 20 من قانون الإجراءات الجزائية؛ حق أريد به باطل، وأسقطت فيه عبارة "دولة فلسطين". موضحاً أن كلمة الأراضي المجردة هذه فجة لأنها تنازل عن توصيف الأراضي باعتبار أننا لا نملكها ولا نملك عليها سلطة دولة.
إن القرارات بقانون الأخيرة، والتي أعلنت بسببها نقابة المحامين الفلسطينيين تعليقاً شاملاً عن العمل بدون أية استثناءات، في سابقة خطيرة تؤثر على حقوق المتقاضين والموقوفين وأصحاب القضايا المستعجلة، كانت رصاصة الرحمة التي أطلقتها السلطة التنفيذية على القانون الأساسي وعلى ضمانات المحاكمة العادلة للمتهمين، وإلغاءً بشكل غير مباشر لحبس المدين في الأوراق التجارية، وإلزام المدين بعرض تسوية لا تقل عن 15% من قيمة الدين، وتكليف الدائن بإقامة دعوى لإثبات صحة توقيع مدينه، وغير ذلك من الاعتداءات على مبادئ القانون المنطقية العادلة والتي لا يتسع المجال لذكرها في هذه المقالة.
أخيراً، أصدر رئيس السلطة منذ العام 2007 ما يقارب من 500 قرار بقانون تحت ذريعة الاستعجال، مع أن المتتبع لطبيعة هذه القرارات يجد أن 90% على الأقل من هذه القوانين، لم تكن هناك حالة طارئة تدعو الرئاسة لإصدارها، بل هي الرغبة السياسية الجامحة للسلطة التنفيذية للاستيلاء على باقي السلطات التشريعية والقضائية، وهذا ما تمّ فعلاً باستخدام مادة واحدة في القانون الأساسي الفلسطيني، لا تعطي الرئيس كل هذه الصلاحيات التي استدعاها من المادة المذكورة. تأويل لمادة واحدة من القانون الأساسي الفلسطيني استخدم لهدم مبادئ النظام السياسي الفلسطيني والاعتداء على القانون الأساسي نفسه، في ممارسة لا دستورية تقوم بها عادة الأنظمة الشمولية والاستبدادية، وهذا ما يبدو عليه النظام الفلسطيني الحاكم في الضفة الغربية حالياً.
المحامي مصطفى شتات
16/3/2022