التهجير في مخيمات الضفة: قصص يرويها النازحون
في منطقة ضاحية اكتابا في مدينة طولكرم التي تقع قبالة مخيم نور شمس، يجلس أبو حمزة على صخرة متكومًا على ذاته يشدّ ركبتيه تجاه صدره، ويشير بيده إلى بيته الواقع على أطراف مخيم نور شمس قائلًا: "شايفة هناك تحت حاووز المي، هاد بيتي"، يصف أبو حمزة بيته قائلًا: "بيتي طابقين، أنا ساكن بالأرضي، وابني بالطابق الثاني، وعندي حوش واسع وساحة، واحنا ساكنين على أطراف المخيم، وما تخيلنا إنه يجي يوم ونطلع من بيوتنا".
أُجبر أبو حمزة على الخروج في الأسبوع الرابع من الاقتحام، فمنذ 21 يناير/كانون الثاني الماضي، وسّع جيش الاحتلال عملياته العسكرية -التي أطلق عليها اسم "السور الحديدي"- في مدن ومخيمات الفلسطينيين شمال الضفة، وخاصة في جنين وطولكرم وطوباس.
أصرّ أبو حمزة هو وعائلته البقاء في بيتهم، رغم التهديدات المستمرة والوجود الكثيف لقوات الاحتلال، والاشتباكات وإطلاق النار الذي استمر لعدة أسابيع بالقرب منهم، ما أجبر أغلب سكان المنطقة على النزوح.
وكانت وكالة "الأونروا" قد حذرت في تقرير لها من أن المخيمات الفلسطينية في شمال الضفة الغربية تقترب من أن تكون شبه غير صالحة للسكن بعد أسابيع من الدمار المستمر، الذي أجبر عشرات الآلاف من سكانها على النزوح منها. وأوضحت الوكالة أن العملية العسكرية الإسرائيلية في مخيم جنين منذ 21 يناير/كانون الثاني 2025 تُعد الأطول منذ الانتفاضة الثانية، ما أدى إلى تشريد ما يقارب 50 ألف فلسطيني من سكان المخيمات، خاصة في جنين ونور شمس وطولكرم والفارعة.
3 دقائق… وإخلي البيت
انتشر جنود الاحتلال في مخيم نور شمس والمناطق المحيطة به، وبدأوا بإخلاء المنازل واحدًا تلو الآخر، "لعند ما وصلوا شارعنا" يقول أبو النور الذي اختار أيضًا البقاء في بيته الواقع في جبل النصر، في محيط مخيم نور شمس، ويصف كيف دخل جنود الاحتلال عليهم «فاتوا يمكن 12 جندي، وهم بيصرخوا بطريقة همجية، كسروا كل إشي؛ المطبخ والأثاث، الأجهزة الكهربائية، كل إشي، وإنت واقف بتتحسر ومش قادر تعمل أي إشي، وبعدها قالوا معك 3 دقايق وبدك تخلي البيت"!
«فاتوا يمكن 12 جندي، وهم بيصرخوا بطريقة همجية، كسروا كل إشي؛ المطبخ والأثاث، الأجهزة الكهربائية، كل إشي، وإنت واقف بتتحسر ومش قادر تعمل أي إشي، وبعدها قالوا معك 3 دقايق وبدك تخلي البيت"!
يصف أبو النور ما جرى معها بكل حسرة، ماذا سنفعل في الثلاث دقائق؟ ما الذي سنستطيع أخذه معنا بعدما عاثوا في البيت فسادًا، نظرت الى زوجتي التي كادت أن تفقد عقلها، وأخذنا معنا القليل من الملابس، وتوجهنا إلى بيت ابنتي التي تقطن في منطقة قريبة. "طلبت من الجنود إني أفتح خم الجاجات، الله أعلم متى أرجع! خليهن يوكلن من العشب اللي في الحوش"، هكذا وصف آخر دقيقة له في بيته، وأغلقه وخرج وهو لا يعلم هل سيعود قريبًا أم لا؟!
البيت مش بس حجار
على ذات التلة التي تطل على مخيم نور شمس، يقف أمجد يراقب جرافات الاحتلال وهي تهدم بيته في آذار/ مارس المنصرم، وبيوت إخوته الواقعة في منتصف المخيم، بعدما أصدر الاحتلال أوامر بهدم 14 منزلًا في محاولة لطمس معالم المخيم وإعادة هندسته جغرافيًا، وشق طرقًا واسعة لآلياته. تعمد الاحتلال تدمير المخيم وتخريبه، وهو المدمّر والمنكوب أصلًا من الاجتياحات السابقة، فقد دمر الاحتلال البنى التحتية وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات وأغلب مرافق المخيم ومراكزه ومؤسساته.
يعني حتى إذا رجعنا فش مخيم لنرجع عليه، زي ما إنتو شايفين المخيم بطل صالح للعيش والسكن، البيوت مش بس حجار، حتى ذكرياتنا صارت تحت الردم".
يضيف أمجد: "إحنا مدركين إنه اللي بصير حرب ع المخيمات، وقاعدين بهجرونا من مخيماتنا مرة ثانية، حتى يصفّوا حق العودة وينهوا وضعنا كلاجئين". استدرك بالقول وهو يسترق النظر إلى جرافات الاحتلال وهي تسوي آخر عمود ببيته بالأرض: "يعني حتى إذا رجعنا فش مخيم لنرجع عليه، زي ما إنتو شايفين المخيم بطل صالح للعيش والسكن، البيوت مش بس حجار، حتى ذكرياتنا صارت تحت الردم".
الاحتلال هدم بيته ومحله، فأمجد يملك محلًا لتأجير معدات تجهيز الحفلات في المخيم، وبهذا يكون قد فقد أيضًا مصدر رزقه، يعلق على ذلك: "الظرف اللي بنعيشوا جدًا صعب، وفش إشي ممكن يوصفوا، صفينا لا بيت ولا شغل، ونازحين بعنبتا، ومتلنا متل باقي هالناس عايشين ع المساعدات ووجبات الأكل اللي بجيبوها أهل الخير".
نزح الآلاف من سكان مخيمات طولكرم إلى القرى والبلدات المحيطة بالمدينة مثل عنبتا واكتابا ودير الغصون وعتيل، ما استدعى تشكيل لجان طوارئ وفتح مراكز لإيواء النازحين، ووضع خطط لتأمين أماكن إقامتهم بالفرشات والأغطية والطعام".
يعلق أمجد على ذلك: "فقدنا استقرارنا، وتشتت عائلتنا، عايشين بأقسى ظرف ممكن يعيشوا الإنسان، ولا إشي بالدنيا بعوض، الناس بتحكي العيشة بالمخيم صعبة، بس المخيم بالنسبة إلنا إشي ما بنقدر نوصفوا، الآمان اللي كان معطينا إياه المخيم، محدش بقدر يعوضه، المخيم رغم قسوة ظروف العيشة فيه، كان حنون علينا".
نزوح الليل
تفترش أم بكر الأرض في النادي الثقافي في طولكرم، تصف هذه الحاجة أوضاعهم الصعبة "الوضع مأساوي، انا عمري 78 سنة ومريضة"، أجبرت أم بكر التي تمشي بظهر مقوس، على النزوح ليلًا وتحت المطر هي وابنها وزوجته وأحفادها الخمسة، وقطعت ما يزيد عن ثلاثة كيلومترات مشيًا على الأقدام وفوهات بنادق قناصة الاحتلال موجه نحوهم، حتى وصلوا مكانًا آمنا بالقرب من المدينة، واستقروا في النادي الثقافي، "بدو يصير النا شهر هون، والوضع ما بسمح نستأجر بيت، ابني من سنة ونص وهو قاعد عن الشغل"، تضيف أم بكر.
"طلعنا من دون ما ناخد قطعة أواعي وحدة، وهدول اولاد شو بدي ألبسهم والدنيا برد، الناس ما بتقصر، بس ع شو ولا عشو بدهم يلحقوا!".
في الغرفة المجاورة روان، وهي نازحة من مخيم طولكرم، وأم لثلاثة أطفال تصف معاناتها: "طلعنا من دون ما ناخد قطعة أواعي وحدة، وهدول اولاد شو بدي ألبسهم والدنيا برد، الناس ما بتقصر، بس ع شو ولا عشو بدهم يلحقوا!".
هذا ولا تعرف هذه السيدة مصير بيتها، هل ما زال على حاله؟ هل هدموه أم أحرقوه وبأفضل الأحوال من الممكن أنهم دمروه جزئيًا وأتلفوا محتوياته، الاحتمالات هنا كثيرة، ولكن كلها تؤدي الى ذات المصير وهو الخراب!
الحياة برا المخيم ما إلها طعم
يقول معاذ (27) عامًا الذي وكان يملك "بسطة فلافل "في وسط مخيم نورشمس: "محدش من برا المخيم كان بقدر يلمس سعادتنا، أجواء المخيم ما في مثلها، والحياة برا المخيم ما الها طعمة"، ويضيف "اسألي كل المخيم، بقلك إنو فش أزكى من فلافل معاذ، كان الطابور يوصل ل باب المخيم، مكنتش الحق شغل"، معاذ الآن نازح مع عائلته في بيت أحد أقاربه خارج المخيم، ويحاول أن يقف على قدميه مجددًا ويعيد فتح "بسطة الفلافل" لعله يستطيع إعالة أسرته في هذا الظرف العصيب، ولكن يوضح: "الناس هون لسا ما بتعرفني، ولسا فش إلي زباين"، ويشير إلى أن ظروفهم قاسية، وأن النزوح قد كسرهم، وخروجهم مكرهين من بيوتهم شيء لا يحتمله عقل إنسان.
معاذ حاله حال الكثيرين، فمنذ عام ونصف فقد أغلب قاطني المخيم مصدر دخلهم، فجلهم كان يعمل داخل الخط الأخضر في البناء والزراعة والمصانع، وأصبحوا بلا أي مصدر دخل، فأسواق العمل في الضفة الغربية، المنهكة أصلًا، لا تستطيع استيعاب هذا الكم الهائل من العاطلين عن العمل، وإن استطاع جزء منهم توفير عمل آخر، فهو لا يكفي لإعالة أسرهم. فجاء هذا التهجير على أسر معدمة اقتصاديًا ينهشها الفقر والعوز، والآن مع التهجير أصبحت الأوضاع كارثية.