نظرات في معركة جنين الثانية..

انجلى غبار المعركة، وحان موعد لملمة الجراح، وتقييم الحدث. فمعركة بهذا الحجم ولا شك ذات دلالات، وستلقي بظلال، ولها نتائج واسقاطات. فهي ليست حدثا عابرا مبتورا من سياق، بل للمعركة ما بعدها، وستترك خلفها تفاعلات يستذكرها المحللون والكتاب.

 

 استعدادات المقاومة

من الواضح البين أن المقاومة الفلسطينية في الضفة تطورت في الأشهر الأخيرة بشكل لافت، كما ونوعا، دفاعا وهجوما، أداءا وعتادا. وجنين إحدى المناطق التي ظهر التطور فيها، فقد كانت قوات الاحتلال منذ شهور قليلة تدخلها وتغتال مقاوميها ثم تخرج بأما، حتى احصينا عدة أشهر متواصلة لم تراق خلالها قطر دم لجندي احتلالي في دخوله للمخيم بينما استشهد خلالها عدد كبير من المقاومين. إلى أن كانت المواجهة التي تم تفجير مركبة الفهد، والتي أظهرت التطور واختلاف المعادلة. والآن جاءت هذه المعركة أكدت على ذاك التطور بل تجلت بصورة غير مسبوقة، وأكدت على أننا نعيش عهدا جديدا من المقاومة في الضفة الغربية.

التطور شمل اليقظة والتنبؤ بحركة العدو، وشمل التكتيكات الميدانية التي ظهرت خلال المعركة والتي اعترف الاحتلال ببعضها مثل تفخيخ النوافذ والأبواب والكمائن وغيرها، بالإضافة إلى الطور في صناعة العبوات وتوزيعها.

 

 الحاضنة الشعبية

أظهر الشارع الفلسطيني تفاعلا ايجابيا مع الحدث، بدءا من أهالي مخيم ومدينة جنين الذين لم يتأففوا ولم نشاهد أو نسمع من يندد بالمقاومة أو يدعو إلى الاستسلام أو ينادي برمي السلاح، بل أظهروا جميع أشكال الالتفاف والدعم والاسناد. أما على صعيد الشارع الفلسطيني فقد جابت مسيرات التضامن شوارع مدن وقرى ومخيمات فلسطين من الضفة إلى غزة إلى الداخل المحتل. وعمت المواجهات والاشتباكات ارجاء واسعة من الضفة رغم أن البعض يرى أنها كانت دون المطلوب. وقد نظمت العديد من الحملات لجمع التبرعات والتبرع بالدم من معظم محافظات الوطن، لاقت اقبالا وتفاعلا.

 

 فصائلياً

وقفت الفصائل الفلسطينية خلف المقاتلين في المخيم، وأمدتهم بالمال والعتاد، وساندتهم في وسائل الاعلام. واجرت الاتصالات العربية والدولية سعيا لوقف الاعتداء على المخيم، وساندت التحركات الشعبية على الارض، وحرضت على وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. وفوق ذلك هددت غزة بالانضمام إلى المعركة وحددت لذلك سقفا يجعلها تدخل المعركة. وعلى الارض عملت الفصائل بشكل موحد حينا، ونسقت  فيما بينها أحيانا.

 

 الاحتلال

هاجم الاحتلال بقضه وقضيضه جنين ومخيمها، وقبل ذلك بعام بدأت الاستعداد والتدريب على تنفيذ الحملة، لكنه _ ودون مبالغة _  فشل فشلا ذريعا. ففي الضربة الأولى التي اعتاد أن ينفذها ليفاجئ عدوه فيصيبه في مقتل، نفذها هذه المرة بشكل ضعيف ولم تؤد الدور الذي اراده. وفي تخريبه للبنية التحتية المتمثلة بالشوراع التي حرثها تحت بصر العالم، زاد من حجم تضامن المشاهد مع جنين، سواء كان المشاهد في فلسطين ام خارج فلسطين كلها. وفي محاولته اجتياح المخيم الصغير فشل وما تقدم فيه إلا في الأطراف. وفي الوصول إلى المطلوبين ومن ضمنهم منفذي عملية حرميش _ كما أعلن هو بنفسه _ فشل ولم يصل إليهم ولا إلى غيرهم. وفي تحقيق الردع فشل اكثر من كل ما ذكرنا، حتى أصبح المخيم اليوم محجا لاستقبال المهنئين بالنصر، ومنارة يقتدى به في الصمود والمقاومة، وعنوانا يتغنى به الشعراء والمغنون.

 

 خارجياً

دخل الاحتلال معركته وهو مرتاح من ناحية الخارج، ولم يتعرض لضغوط حقيقية لعدم الدخول فيها، أو لوقفها بعد أن دخلها. أما أمريكا ومعها بريطانيا فباركتها وأعطت الضوء الأخضر، وأما غيرهم فبقي متفرجا مراقبا، وأما العرب فالادانات الخجولة سقف فعلهم. ولعل حجم التضامن الشعبي الخارجي لم يظهر لأن المعركة كانت قصيرة بالقدر الذي لم يتح مجالات لتنظيم انشطة تضامنية.

 

 الخلاصة...

١/ ستكون معركة جنين نقطة إلهام للشباب الفلسطيني بشكل عام،  وللمقومين على وجه الخصوص. بل لعلها تكون بداية طموح لمن يفكر منهم " بتحرير " جزء من الضفة كما هو الحال في غزة.

٢/ لا يبدو أن الاحتلال سيكرر السيناريو في المدى المنظور، رغم انه يدعي غير ذلك. وستكون اقتحاماته أضيق وأقل عددا وعتادا وأهدافا.

٣/ لا زالت السلطة الفلسطينية تنسلخ من الواقع شيئآ فشيئا، وغياب دورها يزيد من الفجوة بينها وبين شعبها، وما حصل خلال التأبين دليل على ذلك.

٤/ أكدت المعركة على ما تأكد في معارك غزة السابقة، بأن الاحتلال لا يملك على الأرض قوة، حتى وان كان يملك جيشا ذا قوة. وبنا على جملة حروبه الأخيرة سيعمد إلى تغيرات في عقيدته العسكرية، وتكتيكاته العملياتية، ولا يستبعد أن نرى أساليب جديدة في حربه للمقاومة.