قراءة في كتاب:

قصة الدولة العثمانيه من النشأه الى السقوط

بقلم الاستاذ خالد سليمان

جنين

انتهيت لتوي من  قراءة كتاب ( قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط) للدكتور راغب السرجاني. جاء الكتاب في جزأين، و١٣٢٢ صفحة.

يتحدث المؤلف عن الدولة العثمانية التي قامت عام ١٣٠٠م واستمرت حتى عام ١٩٢٤م؛ أي ستة قرون متتالية. تكمن أهمية الكتاب في أنه أضاف مراجع أجنبية كثيرة إلى جانب المراجع العربية، وناقش صعود وانحدار الدولة العثمانية في سياق التشابك الدولي قديما وحديثا، وهو أمر بالغ الأهمية. جاهد المؤلف في أن يكون موضوعيا، رغم أن المؤرخ الموضوعي لم يولد بعد كما يقال، لكنه التسديد والمقاربة كما جاء في الحديث النبوي الشريف( سددوا وقاربوا).

استعرض المؤلف تاريخ ما قبل قيام الدولة العثمانية،  لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة تأسيس الدولة، والتي تستغرق ١٥٠ عاما؛ أي منذ ١٣٠٠م وحتى ١٤٥١م. تأتي بعد ذلك مرحلة التحول الامبراطوري على يد محمد الفاتح، أو تأسيس الامبراطورية. تتحول الامبراطورية بعد ذلك إلى القوة المفرطة على يد سليم الأول وسليمان القانوني، وبعد ذلك تأتي مرحلة القصور الذاتي للقوة المفرطة، وقرن الثبات، ثم الثبات النسبي، فعهود الانهيار الخفي والجلي. مثلت الدولة العثمانية ما يقرب من نصف التاريخ الإسلامي، وكما قيل فإن كل هكتار في هذه الدولة فتح بالسيف والمدفعية. امتدت الدولة العثمانية على ثلاث قارات ؛ آسيا وأوروبا وأفريقيا، وفي أوج قوتها  بلغت مساحتها ٢٣ مليون كم، وبلغ عدد سكانها ١٠٠ مليون نسمة من كل الملل. ترجع اسباب الصعود إلى العقيدة والأخلاق والعبادة والشريعة وتحقيق العدل بين الناس على اختلاف مللهم وأجناسهم، وقد مثل ذلك ناظما للعلاقة الداخلية والخارجية، وهو ما يمكن تسميته بالجانب المعنوي للحضارة، مضافا إليه قيادة مخلصة، وتخطيط محترف، وقتال مستمر بلا هوادة، وتحديث مستمر للقوة ووسائلها. وقد استخدم العثمانيون القوة الخشنة، واستخدموا القوة الناعمة من خلال الدبلوماسية والتحالفات والتجارة ورعاية الفنون والعلوم. صنعوا المدافع وحدثوا الجيوش التي انساحت شرقا وغربا وجنوبا وشمالا. ولانه (لكل اجل كتاب) (ولكل امة اجل)، فان المحافظة على هذه المعاني المادية والمعنوية تراجع في ظل ضعف السلاطين، وتدخل النساء في السلطة، وتعاظم الفساد في الدولة، وتراجع التحديث، وجمود الفكر، في مقابل صعود القوى الدولية الاخرى التي تقاتلت مع الدولة العثمانية، وتحديدا الاروبية منها، وهزمت امامها مرارا وتكرارا، حتى ان العثمانيين دقوا ابواب فيينا(عاصمة النمسا) اكثر من مرة، وكانت المرأة الاوروبية تخوف ابنها بالتركي.

كما ان هذه القوى تصارعت فيما بينها في حروب متصلة ومتواصلة، كحرب المائة عام، وحرب الثلاثين عاما، وقد نجم عن هذه الحروب الاوروبية نهضة علمية، ونظام دولي جديد وضعت قواعده في وستفاليا عام ١٦٤٨م، وقد شكلت النهضة العلمية في اوروبا والنظام الدولي الجديد خطرا على الدولة العثمانية،  واحدث فجوة علمية مقدارها ثلاثمائة عام بين هذه للدول والدولة العثمانية، ومكن هذه الدول من التغول على العثمانيين على محور الزمن، ودفعهم الى الانكفاء بعد هذا التمدد الكبير، وصولا الى احتلال اسطنبول في الحرب العالمية الاولى، وذلك حين وقف المواطنون المساكين مشدوهين بلا حيلة وهم يشاهدون القوات العسكرية للاعداء تنساب بهدوء داخل المدينة التليدة التي لم تطأها رجل مستعمر منذ فتحها محمد الفاتح، والتي كان يسعد سفراء الدول الاجنبية بدخولها يوما ما من اجل لقاء سلاطين الدولة العظماء. لكن الايام دول(وتلك الايام نداولها بين الناس)، والدهر ذو دولٍ، والموت ذو عللٍ، والمرء ذو امل ،  والناس اشباه، ولم تزل عبر، فيهن معتبر،يجري بها قدر، والله اجراه. انتهت الدولة العثمانية حسب مؤرخ فرنسي الى الزوال غير انها اخذت مكانها في العالم القديم حسب تعبيره الذي كانت القوة الاولى فيه على مدار قرون، وهو ما يفسر اشكال الغيرة والحقد وحركات الانتقام وزعزعة الاستقرار، ثم التدمير الذي كانت هدفا له. وفي السياق تعلمنا الكثير الكثير عن العلاقات الدولية، والسياسة الدولية، والنظام الدولي، وخطورة هذا النظام على نشأة الدول وتطورها واستقلالها، ويتضح ذلك جليا في اتفاقيات الاذعان التي فرضت على الدولة العثمانية، او الدولة المصرية بقيادة محمد علي باشا.

وتعلمنا ايضا انه لا عداء مستمر في السياسة، ولا صداقة مستمرة كذلك، فعدو اليوم صديق الغد، وصديق اليوم عدو الغد، وان السياسة التي نشأت وتبلورت لا تعرف الا المصالح، وان ما لا تستطيعه اليوم تاخذه غدا. ورغم الانهيار والسقوط المدوي لهذه الامبراطورية الا انها تركت خلفها وداخل حدودها دولة قوية، وهي اليوم قوة اقليمية كبرى، ومن القوى العالمية المهمة، والمؤثرة في السياسة الدولية، ويبلغ تعداد سكانها ٨٥ مليونا، وغالبية سكانها الساحقة مسلمون (٩٧-٩٩%)، وغالبيتهم متمسكة بالاسلام رغم العلمنة الشديدة التي فرضها مصطفى كمال اتاتورك مؤسس تركيا الحديثة.

 

يقود تركيا الحديثة اليوم زعيم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهو رجب طيب أردوغان، وهو يقودها منذ اكثر من ٢٠ عاما، وقد استطاع ان يحدث انزياحا في مسارها التغريبي والتبعي لصالح تاريخها المجيد واستقلالها العنيد، ولصالح التحديث والتصنيع، ووضعها على خارطة العالم بقوة لا بضعف، الى درجة جعلت الاعداء والخصوم على حد سواء ينطقون بكلمة واحدة ويحذرون من العثمانية الجدد وعلى رأسهم أردوغان، ولكن (والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون).