العصبيات والحزبية المقيتة
من لم يفهم الحياة ،لن يفهم السياسة،فهذه من تلك،وسيمارس السياسة بناب ومخلب ومنطق الغاب،غايته أن يذوذ عن ملكيته كحارس عتي زنيم .
إبن خلدون، إستنتج أن الدول التي تبنى على الحزبية والعصبية ،تنتهي بظهور أحزاب و عصبيات آخرى أقوى منها ،تشاطرها أمر الحكم ،بنفس منطق الحديد والنار. نفهم لما لا تنتهي الدول الحزب الحاكم والعصبية إلا بأحزاب و بعصبيات أقوى منها في نظر إبن خلدون؛ فهو، أولا ،قام بتحليل حالات سابقة لنظم حكم تأسست ثم إنهارت، وثانيا لم يخرج بفكره عن الحالة العربية والإسلامية،وثالثا لم تظهر في وقته حالات مخالفة لما قام بتحليله. والوقت الراهن يقول لنا؛ لإسقاط الدول العصبية لا نحتاج إلى عصبية آخرى تسومنا نفس العذاب ، بل نحتاج إلى الشعب بتوجهاته وبعصبياته المتعددة وإختلافاته الكثيرة،كي يعبد الطرق الى شط الديمقراطية .
هؤلاء رحلوا ، أو أبعدوا قصرا عن كراسيهم ، أو حوكموا ، لأنهم فكروا بمنطق حزبي وعصبي ضيق ، رهن الوطن في حزب أو فئة ، أو قبيلة ، أو طبقة اقتصادية ؛العقيد معمرالقذافى عنى قبيلة القذاذفة، فرحل دون أن تذوذ عنه حين احتد الوطيس ،وبشار الأسد يعني قبيلة حزب البعث، والطائفة العلوية ، ولولا تدخل روسيا كدولة عظمى لانهار هو الآخر وبن علي عنى الإتحاد الدستوري الحاكم ،وحسني مبارك عنى الحزب الوطني الحاكم … لهذا سقطوا ،وسيسقطون ،لأن لا أحد فيهم يعني الشعب بإختلافاته ،وهذا الأمر لن يتحقق إلا إن كان النفس الديمقراطي هو الحاكم نفسه .
الفرق بين ممثل الشعب، وممثل الحزبية ولعصبية*الفئة ، الطبقة ، الطائفة ، اللوبي ، وغيرها *،أن الأول إذا لم يصلح أمره إختار الشعب أحدا غيره،أما الثاني فهو دائما يصلح أمر الحزب و العصبية ،والقبيلة، ويصلح أمر من يخدمهم كي يخدموه ،ويقوم بإفساد أمر الشعب،فيتشبث الحزب والقبيلة به رغم أنف الشعب،وإذا ظل الشعب نائما إستيقظت مطامع الحزب و القبيلة .
كل من كان يمارس السياسة بمنطق الأخوية، والتعاضد ،والتآزر الحزبي و القبلي العصبي ،حين يشتد الحصار ،ويضيق عليه ،يفكر في سلاح الحزب والقبيلة،فينجح في تأجيج تلة من القبليين،المستفيدين من حاكم غير ديمقراطي .
ومن يحاول أن يلعب على تأجيج المصطلحات القديمة،ويمارسها في بيئة حديثة ، لن ينجح ،وسيخطئ فهم الحياة، فالتغيير سنة الله في خلقه ،وما ساد بالأمس ليس حتما أن يسود اليوم،فاللعب بمنطق القبيلة لن يصمد أمام فكر الوطن، والشعب المختلف ،والإتحادات العريضة
المنطق ذاته تحتمي به الدول المستندة على الحزب والقبيلة في تواجدها ،والدول المستندة على الحزب الواحد؛ فهما معا يدافعان عن وجودهما بالإقصاء للمختلف والمتعدد .
والدول العصبية تعني غياب المؤسسة ،و غياب فصل السلط … أي أنها تعني ممارسة سياسة التهريج على السطح ،والعمق له أرباب مالكيه، فرئيس يعرف أنه الدولة والتاريخ والشعب معا ،هو وحده القادر على إعطاء أوامر في منتصف الليل ،لأنه قتل المؤسسات وتوزيع السلط وفصلها .
حين قبض على صدام حسين البعثي كان هناك من يتحدث أن إبداء الرأي في حضرته المقدسة كان فعل حرام … وهذا لا يكون إلا في أنظمة الزعيم والجنرال،ولا يكون في أنظمة المنتخب والمتوافق عليه .
لقد بدأنا المقال بفهم الحياة لفهم السياسة،والحياة لا تؤمن بالإستحواذ على كل زوايا الرؤية لصالح زاوية واحدة،الحياة سيل بلا توقف متراكم بإستمرار، الحياة ليس فيها فرض يفرض مطلقا، فكيف لما لم يقبله الله على نفسه من فرض طريق واحد على العباد أن يفرضه عبد على عبد آخر … القوة والحمية يؤكدان هذا الفرض لكنهما دائما ما يسقطان بقوة وحمية آخرى.
تحدث إبن خلدون في مقدمته الشهيرة عن المراحل الخمس التي يقطعها نظام سياسي ثم ينهار ،ومآله إلى قوم آخرين ،ونظام آخر، وساسة آخرين … وما يهمنا في هذه المراحل أنها إما نقصت واحدة أو إثنتين، أو أن مددها الزمنية تقلصت، فمهما يقال عن طول حكم الأنظمة العربية الفاسدة إلا أنها في رأيي مدد زمنية لا تناسب كل الترسانات الإعلامية، والعسكرية ،وتجييش الأتباع التي تم إستعمالها للبقاء إلى أبد الآبدين، فما كانت تفعله الأنظمة الفاسدة هو ترميم شروخها للبقاء أطول ما يمكنها البقاء، لكن مهما يطول هذا البقاء فهو ساعة الحسم معهم يبدو كأنه لم يكن .
*كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَٰلِكَ
ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ* ..والطبيعة تمشي وفق حركية لكل أعضائها لتخلق التوازن المحافظ على
الحياة،فلا يظل ظالم من نسل ظالم ولو حكم بأسوأ من الحديد والنار، ويأخذها قوم
آخرون سنرى ما سيفعلون فيها !