العمل التطوعي ووعي الشعوب بدورها

 

 لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، ركز على أهمية العمل الجماعي في خلق وعي وثقافة تشمل كافة أشكال الشعب، من خلال الكتاب ركز الكاتب الضوء على حقيقة مهمة وهي أن القوة والسطوة تقع في أيدي الشعب، فَهُم استثمار وزخم عظيم إذا تم توجيههم حول مصلحة الدولة كما حصل في مثل التجربة الصينية والتي حقق الشعب فيها نهضة اقتصادية عظيمة قامت أساساً على التعداد البشري الهائل للشعب الصيني، وفي الوقت نفسه هُم وهنا الشعب بشكلٍ عام قنبلة موقوتة قابلة للاستغلال لتحقيق مصالح النظام الفئوية.

 

 للأسف نجحت الأنظمة في معظم الأحيان في هذه المعركة ونجحت في توجيه الجماهير حسب مصالحها في السيطرة على الشعب وتفتتيه حسبما تقتضي الحاجة، وهذا الأمر ينبغي أن يواجَه من خلال حركة شعبية جماهيرية مضادة تعمل من أجل مصلحة الأمة لا النظام.

 

 معظم الشعب يستسهل التنظير والمزايدة الفارغة، لكن الشجاعة تَكمُن في ترجمة ما يدور في قرارة نفسك على أرض الواقع، مَن يعيش على عبارات مثل كنتُ أود وكنتُ أرغب ولولا هذا وليتَ ذاك، لن يعيش ليحقق أي شيء على الأرض، فالبلدان في نهضتها لا تسير وفق منهجية التمني والوقوف على أطلال الماضي، إنما سواعد الحاضر هي مَن تستطيع حَمل البلاد في أحلك أوقاتها.

 

 بعد الحرب العالمية الثانية، كانت المانيا عبارة عن ركام فوق ركام، لم تكن هناك دولة أو مؤسسات لتقود عملية تنظيف البلاد، مِن خلال إدراكه بالأزمة وضرورة التدخل، خرج الشعب الألماني من منازلهم بالمكانس لتنظيف الشوارع، لم تُقاد الحملة بتدخل السلطة والاعلام آنذاك، إنما الشعب والذي كان خارجاً وقتها من أعظم حرب شهدها القرن العشرين عَلِمَ وعَمِلَ الشعب على قاعدة أن النهضات تبدأ بالشعوب ولا عيب أن تبدأ بمكنسة.

 

سألني أحد الأشخاص عمّا إذا كنتُ فعلاً مقتنع بمشروع تنظيف الشوارع، قلتُ له يكفيني رؤية مجموعة من الشعب على قلب رجل واحد، اجتمعوا بين كبير وصغير ووزير وغفير للعمل بحرص على خدمة بلادهم والتي هي أساساً بلاد الجميع.

 

 كثير من الأمور تُقاس في جانبها المعنوي وأثرها النفسي وليس في جانبها المادي الذي يحول الإنجاز الى حسبة رياضية مقتصرة على الحواس، لو كان الأمر كذلك لما فعل الإنسان خيراً قَط، ما معنى مفاهيم مثل التكاتف والتعاون والتصدق والتعاطف داخل المنظومة المادية المحبطة. تهافت الناس الى العمل التطوعي نابع من تفاؤل وأمل مشرق أن البلاد بالإمكان لها أن تتغير وتتقدم مثل سائر الأمم الأخرى. المباني أياً كانت يأكلها القِدَم ومرور التاريخ، لكن حركات الشعوب في التغيير تبقى عالقة في أذهان الشعوب أبد الدهر.

 

قال لي شخص أصبحتُ أخجل أن أرمي القمامة على الأرض بعد متابعتي الجهود الجادة في تنظيف الشوارع. اللامبالاة الجماعية على مستوى الشعب تجعل الإنسان لا يكترث بما يحصل في البلاد من حوله ويتحول بها إلى مسخ إضافي يزيد من هالة اللامبالاة التي يعيش عليها المجتمع، لكن الجهد والنشاط الجماعي يخلق تعاطف وشعور بالانتماء بين الناس لمجتمعهم وبلدهم، الناس بطبيعتهم يتفاعلون من خلال مراقبة بعضهم البعض، فإن كان هناك جو عام يسومه التعاون والتنافسية تجد الناس بلا وعي يندفعون نحو هذا النوع من السباق، و إن كان الأمر عكس ذلك في جو مشحون بالفشل و عدم المسؤولية تجدهم يسبحون مرغمين في هذا التيار،  أبسط مثال على ذلك الصف الدراسي السيء، فهو يؤثر على أداء الطلاب المتفوقين بينما الصف الدراسي الجيد يحسّن من أداء الطلاب بالكلية.

 

لا تستحقر أي عمل مهما اعتقدت صِغَرَه وعدم نجاعته، فالجبال ما هي إلا حصى مُتراكِم. إذا لم يكن هناك إنجاز، فيكفي الفكرة، ما تبنت أمة مِن ثقافة عظيمة إلا وسبقها فكرة عظيمة، ودعك من كلام المتخاذلين المثبطين، الفاشل يحكم على الجميع بالفشل بسبب ضيق بصيرته، بينما الحريص الفاعل يجد في كل حدث حتى لو أزمة فرصة للنجاح.  

يكفينا أننا أتباع دين الإسلام الذي يدور في كُل أركانه على الطهارة والنظافة، رسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام قال: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)) رواه مسلم

وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ». رواه مسلم.

 

** العمل التطوعي دواء لداء الفساد:

لكل قاعدة استثناء، هذا ما تعلمناه طوال سنوات حياتنا لكن كثيراً ما ننسى أن القاعدة تكون في بدايتها استثناءاً يطرح نفسه على المحيط حسب فاعلية من يدفعها والظروف المحيطة بها.

الفساد بدأ على شكل استثناء وأصبح قاعدة يلوح في وجهه البائس على المجتمع، تجد من حولك من كل أطياف وأنواع الفساد، والسبب في هذا اعتيادنا على وجوده حقيقة مسلمة وقاعدة متجذرة في المجتمع.

القاعدة القبيحة سوف تختفي إن حلت محلها استثناءات إيجابية ومبشرة تريد أن تؤسس نفسها قاعدة يعيش المجتمع عليها.

إلقاء القمامة على الأرض و تخريب الممتلكات العامة نتيجة قلة الحرص ما هي إلا أنواع أخرى من فساد بات قاعدة في مجتمعنا، اليوم علينا أن نبدأ قصة جديدة لقاعدة بدأت بشكل استثنائي للخروج من مقابض الفساد و الدمار.