أزمة عدم كفاية الراتب... هاجس الموظفين المتكرر
الراتب الذي يتلاشى قبل نهاية الشهر دون دفع كل التزامات الأسرة هو موضوع قديم حديث يتكرر في كل شهر، ورغم اتخاذ الحكومة الفلسطينية قرار رفع الحد الأدنى للأجور في بداية هذا العام من 1450 شيقلا إلى 1880 شيقلا، إلا أن القرار لم يحل أزمة عدم كفاية الراتب، فما سبب تدني الرواتب في الأراضي الفلسطينية عموما؟ ولماذا ترتفع أسعار السلع الأساسية في فلسطين بشكل كبير عن الدول العربية المجاورة؟ وكيف تعتبر الخطة المالية لميزانية الأسرة حلا أو تخفيفا للأزمة؟ هل يلمس صناع القرار هذه الفجوة الكبيرة بين مستوى سلم الرواتب وبين احتياجات الأسرة الفلسطينية؟ هل يعتبر الاقتراض حل؟ وهل انتشار سياسة الاقتراض الاستهلاكي موجه ومسيس؟
الراتب في أرقام
يتباين معدل الأجر الشهري في عام 2021 حسب قطاع العمل، ففي القطاع الحكومي يبلغ معدل الأجر الشهري 3048 شيقل، وفي القطاع الخاص يبلغ 2607 شيقل، ومتوسط الأجر الشهري للعاملين في دولة الاحتلال والمستعمرات 6762 شيقل.
أما حسب المحافظات فتتصدر محافظة القدس أعلى معدل للأجر اليومي حيث يبلغ 164.5 شيقل، تليها محافظة رام الله والبيرة التي يبلغ معدل الأجر اليومي بها 123.6 شيقل، وتعد محافظة أريحا والأغوار أقل محافظة بالأجور في الضفة بمعدل أجر يومي 94 شيقل، ويتقارب معدل الأجر اليومي بين محافظات الضفة ليبقى ضمن معدل 121.9 شيقل، إلا أنه ينخفض بشكل ملحوظ في محافظات قطاع غزة ليبلغ معدلها 61.6 شيقل فقط.
جذور الأزمة
يقول د.ثابت أبو الروس عضو الاتحاد العام للاقتصاديين، أن متوسط الراتب المدفوع للموظف في معظم القطاعات بالكاد يكفي، خصوصا في ظل هذه الارتفاعات في الأسعار، أما بالنسبة للحد الأدنى من الرواتب حتى بعد زيادته إلى 1880 شيقل فهو لا يقي من الفقر، وفقط يمكن أن يغطي من احتياجات الأسرة الأساسية من مأكل ومشرب، أي فقط حد الكفاف" .
من جهته يؤكد الخبير اقتصادي د. هيثم دراغمة أن سلم الرواتب لموظفي السلطة الفلسطينية لم يكن بناء على دراسة مسبقة فيما يخص كفايتها لاحتياجات الموظف والمتغيرات المحيطة بالموظف الفلسطيني، ولم يأخذ صانع القرار بعين الاعتبار بأن تكون الرواتب قريبة من سلم الرواتب داخل الخط الأخضر بالرغم من التوقيع على اتفاقيات تلزم المواطن الفلسطيني بدفع أسعار بضائعهم مماثلة لأسعار دولة الاحتلال، وبالتالي من أقر سلم الرواتب في فلسطين بهذه الكيفية والكمية ضرب بعرض الحائط كل المتغيرات، كما أن من قام بتحديد سلم الرواتب في بداية نشوء السلطة الفلسطينية هم فلسطينيي الهوية لكن معظمهم عائدين من الخارج لا يحيطون بماهية الظروف المعاشة في فلسطين حينها.
كما يؤكد دراغمة أن الجذور الحقيقية للمشكلة تكمن في اتفاقيات ألزمت الشعب الفلسطيني بفجوة كبيرة ومستدامة في سلم الرواتب بين الأراضي الفلسطينية ودولة الاحتلال، فمثلا الحد الأدنى للأجور حديثا زاد إلى 1880 شيقل وبالرغم من عدم كفايته لالتزامات الأسرة إلا أنه لم يطبق حتى الآن بشكل جدي، بينما في دولة الاحتلال الحد الأدنى للأجول يبلغ 5400 شيقل ويطبق على جميع القطاعات، وسيرتفع تدريجيا ليصل 6000 شيقل.
وبالرغم من هذه الفجوة الكبيرة إلا أن الفلسطيني ملزم بشراء احتياجاته الأساسية بنفس السعر في دولة الاحتلال، من الوقود إلى المواد الغذائية وجميع السلع الأساسية بنفس السعر أو أعلى في بعضها، لذا يجب أن يتوافق كامل سلم الرواتب وليس فقط الحد الأدنى للأجور مع دولة الاحتلال، إذا استمر الحكومة الفلسطينية رهن الالتزام للاتفاقيات من طرف واحد ، دون محاولة ايجاد خطط بديلة"
ويوضح دراغمة هذا بمثال حول مهنة التعليم " فالمعلم في دولة الاحتلال راتبه 10-15 ألف شيقل ومنهم من يصل 25 ألف شيقل، أما المعلم الفلسطيني فالحد الأعلى لراتبة 4000 شيقل، مع أن الالتزامات على كلا الشخصين هي نفسها ومستوى الأسعار نفسها بسبب بروتوكول باريس، وبالتالي هناك خلل أساسه توجه الحكومة الفلسطيني لاتفاقات تلزمها بمظلة أسعار موحدة في كافة البضائع مع دولة الاحتلال مع إدراكهم بعدم قدرتهم على دفع نفس الأجور، وبالتالي أصبح الموظف الذي يعمل هو وأسرته غير قادرين على التطور في حياتهم دون اللجوء للاقتراض"
إدارة ميزانية الأسرة
يؤكد أبو الروس أنه "من الضروري في ظل الظروف المعاشة أن تنتشر الثقافة المالية بين الموظفين من ذوي الدخل المحدود حيث ان اعتماد خطة مالية للأسرة يحقق قدر من التوازن بين الدخل والمصروفات، ومع الأخذ بعين الاعتبار متوسط حجم الأسرة الفلسطينية عام 2020 المقدر ب 5.1 فردا فإن أدنى مستوى لدخل الأسرة الفلسطينية يجب ألا يقل عن 4000 شيقل، وذلك بهدف تغطية الاحتياجات الأساسية فقط، حيث يقسم هذا المبلغ إلى مأكل ومشرب وفواتير خدمات المياه والكهرباء وانترنت ونقل ومواصلات وإيجار أو دفعة قرض".
وتعد أهم نقطة في نجاح الخطة المالية للأسرة "تسجيل كل مصروف على سجل يتم إعادة النظر في أولوياته بشكل شهري" بحسب أبو الروس، بحيث يتم "اتخاذ قرار بالصرف أو ترحيل المصروف للشهر القادم أو الإلغاء حسب سلم أولويات الأسرة، والتي تختلف من أسرة إلى أخرى، وأفضل الخطط المالية تلك التي تضعها الأسرة بشكل تشاركي جماعي حسب مقدار دخلها والتزاماتها وأهدافها بحيث تحميها من الاقتراض وتحقق لها وفر مالي مستقبلي".
وينصح دراغمة " الأسر الفلسطينية بالتخطيط للموسم قبل أن يبدأ، حيث يجب التسوق قبل حلوله لأن نفس السلع خلال الموسم تكون أعلى، كما يجب التأكد من الاحتياج الحقيقي لكل سلعة يقدم المتسوق على شرائها بحيث لا يتخذ قرار الشراء بناء على دعاية جاذبة أو للمباهاة، والتخطيط قبل الذهاب للتسوق بحيث لا يتخذ قرار بشراء شيء داخل السوق، مما يؤدي إلى استنزاف موارد الأسرة التي كما قلنا حسب سلم الرواتب في فلسطين هي بالحد الأدنى"
ويؤكد على أهمية "اختيار أماكن الشراء بذكاء بحيث لا يتوجه ذوي الدخل المحدود للشراء من المحال مرتفعة الأسعار، والاستفادة من العروض لصالحهم، والتركيز على الاكتفاء بالشراء ضمن الامكانيات المتاحة فقط، كما ينصح بالتخلص من التبذير الغير مبرر والمنتشر بين الأسر رغم تدني الدخل" ويستدرك قائلا "أن كل هذه النصائح لن تكون كافية لتطور الأسرة من اقتناء بيت مناسب أو سيارة أو تأمين تعلم جامعي جيد للأبناء وستبقى ضمن سلم الرواتب الحالي بعض التخصصات مثل الطب حكرا على الأغنياء"
ويصف دراغمة مهمة إدارة ميزانية في ظل غلاء الأسعار بالمعجزة ويؤكد أن " من يضبط أسعار السوق وينظمه لا يتلمس الاحتياجات الأساسية للناس، وبالتالي لا يتخذ المسؤولون قرارات نابعة من احتياجات الشارع، وأكبر مثال عندما يتخذ قرار بزيادة سعر الوقود من مسؤول يصرف له وقود مركبته من ضرائب المواطنين، كيف سيكون قراره نابع من احتياج الشارع؟"
الدخل الواحد فقط يقي من الفقر
ومع ارتفاع متطلبات الأسرة في العصر الحالي والتي أصبحت تفوق دخل الرجل، وبفضل النقلة النوعية للثقافة في المجتمع الفلسطيني أصبح دخل المرأة جزء لا يتجزأ من دخل البيت وهناك "ارتكاز أساسي على المرأة العاملة في توفير احتياجات البيت" بحسب أبو الروس، "لتحقيق اكتفاء للأسرة أصبحت المشاركة بين الرجل والمرأة في البيت أساس لتوفير حياة كريمة لهما ولأطفالهما".
ويحذر أبو الروس من اعتماد المواطن على دخل من وظيفة واحدة، حيث "ان الدخل الواحد لا يكفي، وفقط يقي من الفقر" ويشجع على استغلال "الحيز الثقافي والابداعي في الاسرة لجلب دخل إضافي خصوصا في ظل هذا الغلاء في الأسعار بحيث تبنى ميزانية الأسرة على تشاركية أفراد الأسرة ما بين الرجل والمرأة والأبناء".
ويتفق دراغمة مع أبو الروس ويضيف أن " سياسات العمالة المتبعة في الأراضي الفلسطينية، تجعل تفكير معظم المواطنين في ظل تدني مستوى الأجور وارتفاع الأسعار والضرائب في الهجرة والعمل في الخارج، ويجب على الحكومة الفلسطينية تغيير سياستها بحيث لا يحدث ما لا يحمد عقباه"
كما ينصح بتوجه العائلات الفلسطينية إلى "المشاريع المنزلية وإلى الاعتماد على ال “حاكورة المنزلية" التي تقلل من ثقل الالتزامات ومتطلبات الأسرة، وتوفر قدرا من الدخل يسد الاحتياجات الأساسية والطارئة"
مقتَرض أم مدَّخر
وفي حين ترى بعض الأسر أن تنظيم ميزانية الأسرة بدون اقتراض ضربا من الخيال، حيث اعتادوا بالرغم من مستويات دخلهم المتدنية وغلاء المعيشة على الاقتراض أو الاستدانة من الأقارب أو استخدام بطاقات الدفع الآجل، يحذر أبو الروس من الاقتراض الذي يهدف للاستهلاك بقوله " الاقتراض بهدف الاستهلاك عبارة عن ترحيل المشكلة للمستقبل، والمستقبل مجهول، لأن الاقتراض هو بذاته التزام مالي مستقبلي سيرهق الأسرة، ويكون الحل الأمثل باللجوء للخطة المالية للأسرة"
وأكد أبو الروس أن هناك العديد من " الطرق لتقسيم الدخل"، حيث يؤكد على أهمية "تجميع كل الدخل الذي يرد للأسرة، وتحديد النفقات الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، ومن الأكثر أولوية حتى الأقل" وأردف أنه بهذه الطريقة وعن تجربة تحولت العديد من العائلات التي اعتادت على الاقتراض إلى عائلات تستطيع أن تدخر وبالتالي تضع مبلغا في “صندوق احتياطي للأمور الطارئة"، كما يمكن أن تصل العائلة بعد التزامها في الخطة المالية، وتسجيل المصاريف وتحديد أولويتها إلى مرحلة "الادخار" والذي يمهد الطريق للاستقرار المالي.
من جانبه يؤكد دراغمة أن "سياسات البنك الدولي في القطاعات المختلفة عملت على تعميم ثقافة الاقتراض بين الشعب الفلسطيني لأسباب سياسية، وفعلا نجح في ذلك، وخصوصا بعد الحكومة الثانية عشر التي كان على أجندتها وأولوياتها تعميم ثقافة الاقتراض تطبيقا لمقترحات البنك الدولي، وبالتالي إغراق المجتمع الفلسطيني بقروض استهلاكية، والمواطن الفلسطيني أصبح يتعامل مع الاقتراض مكرها بسبب تدني الدخل، أو بسبب التغرير بتحقق الازدهار المنشود في الأراضي الفلسطينية وبسهولة الاقتراض وفوائده"
ويختم بأن " المواطن الفلسطيني يعيش حالة من التخبط، وليس هو المسؤول عن انتشار الثقافة الاستهلاكية في المجتمع، حتى وصلت العائلات الفلسطينية إلى أخذ قرض من أجل السفر في رحلة سياحية، أو الاقتراض من أجل شراء ملابس، وغيرها من السلوكيات التي لم تكن موجودة لدى المواطن الفلسطيني الذي عايش أزمات متتالية، وبطبعه مدبر ومتحوط للأزمات المستقبلية"