القضية الفلسطينية...في ضوء المتغيرات الدولية
دراسة في توصيف الواقع وافاق المستقبل
"لا يمكنك إزالة حبة رمل واحدة من مكانها دون تغيير شيء ما في جميع أجزائها التي لا تُقاس"(فيشته، 1800م).
من أبجديات دراسة الظاهرة السياسية, أننا ننطلق في دراسة الظاهرة من الواقع المرتبط ارتباطا جذريا بالتاريخ، هذا بالمطلق. وبطريقة موضوعية علمية بعيدة عن الوهم والخيال. وهذا يتدرج عبر سلسلة من الأفكار المترابطة بعضها ببعض، ترابطا منطقيا، يصل إلى تصور فكري واضح لحقيقة الظاهرة موضوع البحث، وإلى استخراج القوانين التي تحكمها؛ إن نشوء علم السياسة ارتبط بالتطور التاريخي لدراسة الظاهرة السياسية، وقد اقترن هذا التطور بالتحول، على الصعيد المنهجي، من المنهج القياسي إلى المنهج الاستقرائي فالمنهج العلمي التجريبي، وبالتحول من الفكر المثالي إلى الفكر الواقعي والموضوعي.
اولا: مسحة ضوئية للجذر المؤسس للقضية الفلسطينية.
لقد اخترنا كتاب اميل توما الذي يتناول جذور القضية الفلسطينية بشكل عميق وعلمي رصين مبتعدا عن الركاكة والسطحية والتكرارية. في البداية تناول كتاب(جذور القضية الفلسطينية) أو تاريخ المسألة الفلسطينية، أو (العقدة الفلسطينية) كما يسميها مؤلف الكتاب(أميل توما). تناول فيه الجذور المركزية لنشوء القضية الفلسطينية، مركزا بشكل كبير على جذور وعد بلفور. ولقد جعل المؤلف كتابه ضمن نطاق زمني مبتدأه نهاية القرن التاسع عشر، ومنتهاه النكبة؛ في ستة عشر فصلًا.
في الفصل الأول المعنون (نشوء العقدة الفلسطينية) يتناول توما كيف نشأت المشكلة الفلسطينية، مرجعًا سبب نشأتها إلى الأطماع الأوروبية، خاصة الإنجليزية والفرنسية في السيطرة على المنطقة، وكيف أن إنشاء وطن قومي لليهود كفكرة ظهر في أروقة وزارات المستعمرات الإنجليزية والفرنسية، راصدًا المبادرات الأوروبية التي عملت لتحقيق هذه الفكرة قبل ظهر الحركة الصهيونية.
في الفصل الثاني المعنون (ملاحظات على نشوء الحركة الصهيونية) يبحث المؤلف في الجذور الفكرية والتاريخية للحركة الصهيونية، فمن جانب يراجع تلك النصوص التوراتية والتلمودية والأفكار والحركات الدينية التي استندت عليها الصهيونية، ومن جانب آخر يستكشف كيف أسهمت مفاهيم القومية التي نشأت في أوروبا في منح خطاب حديث للصهيونية، وما هو يمكن أن يستشف القارئ منه علة نشوء الصهيونية في أوروبا وعدم نشأتها في العالم الإسلامي.
في الفصل الثالث المعنون (نشوء الصهيونية وأيدولوجيتها)، يلخص المؤلف تاريخ الحركة الصهيونية والأفكار التي اعتنقتها وأنشطتها في القرن التاسع عشر؛ ويعتبر هذا الفصل بمثابة مقدمة للفصل اللاحق، الفصل الرابع، المعنون (الصهيونية حتى وعد بلفور)، والذي يستمر فيه المؤلف في رصد تاريخ الصهيونية في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وعلاقتها بالدوائر الاستعمارية الغربية.
الفصل الخامس المعنون (وعد بلفور) يبين فيه كيف أن صدور (وعد بلفور) كان لازمًا تاريخيًا بسبب النزاع الاستعماري على المنطقة والذي تحول إلى الحرب العالمية الأولى، وأن هذا الوعد كان بمثابة خطوة تكتيكية بين المتحاربين إذا لم يتبانها الإنجليز سوف يتبناها طرف آخر.
استنادا إلى ما اقتبسناه أو اختزلتاه مع بعض التحويرات والازاحات.. فإننا نخلص إلى أن انشاء الكيان الصهيوني كان فعلا واعيا ومخططا له من قبل القوى الاستعمارية الكبرى ضمن مشروع مشترك يهدف في الأساس إلى تأمين الخط التجاري الذاهب شرقا تجاه الهند وبحر العرب ،ثم التخلص من المسألة اليهودية.
إن التاريخ على ارتباط وثيق بالواقع وحيثياته؛ وعليه، فان أي تغيير في الظروف والاسباب الموضوعية وغير الموضوعية التي ساهمت في تشكيل القضية الفلسطينية سوف ينبني عليها تأثيرات وتغييرات تلتحم في القضية الفلسطينية وتؤثر عليها بطريقة أو بأخرى, واذا ما استرسلنا في التوصيف والربط نلاحظ تغيير جذري في الخطاب الايراني المساند للخطاب الفلسطيني، الأمر الذي قاد ويقود تغييرا في آلية ادارة الصراع ورسم المشهد السياسي ضمن القواعد والمرتكزات الصادرة عن مخاض فرض المستجدات بالقوة. وفي عملية تحليلية لخطاب المقاومة, نلاحظ نبرة أكثر قوة وجرأة تحمل في مضمونها قدرة على التحدي والمجابهة, وحالات فرز بطريقة تكتيكية لكل ما هو جديد ومفاجئ.
الحرب الروسية الاوكرانية.. من أبرز المتغيرات الدولية.
وزير خارجية روسيا قالها بكل وضوح خلال احد اللقاءات الاعلامية. عندما سألته المذيعة ان هناك اناس لا ينامون من هول ما يجري في اوكرانيا! قال لها : الامر بسيط. فليتخيل هولاء بان اوكرانيا هي فلسطين وبان الذي يشن الحرب عليها هي الولايات المتحدة! فماذا ستكون النتيجة؟
ان روسيا وما يرتبط بها من سلسلة القوى لهي الاكثر ادراكا بان العالم عالم منافق, وبان سياسة الكيل بمكيالين هي السياسة الثابتة. وهي المطلعة على صلافة ووقاحة ما يسمى بالمجتمع الدولي. هذه السلسلة تعمل بشكل تكتلي تراتبي. ودولة مثل كوريا اوايران تنتظر امرا روسيا واحدا لتجعل الامور تنقلب رأسا على عقب.
قالتها ايران : كل عدوان صهيوني سوف يتم الرد عليه بكل قوة وشراسة. هذا يعني بان ايران تستفيد بشكل لحظي وسريع من حرب دائرة لم تحسم بعد, فكيف اذا ما حسمت لصالح الدب الروسي! سوف تدك الدولة الصهيونية المارقة دكا.. ولسوف يمتد التغيير بشكل أكبر وأهم الى الاراضي الفلسطينية في الضفة وغزة, والى حزب الله.
المتغير القادم :
التهديد الامريكي للصين في حال شن الأخيرة هجوما ضد تايوان.
يضاف هذا المتغير الى جملة المتغيرات الدولية, وهو متغير خطير جدا وأكثر تأثيرا في حالة تحوله لفعل حقيقي. فالرئيس الأمريكي لم يتردد في اطلاق تهديدات جدية ضد الصين في حال شنها حربا على تايوان. يبدو أننا بالفعل نعيش ضمن حرب عالمية ثالثة وكبرى, لكنها سوف تكون الأعنف والأطول والأقوى.
الأزمة الاقتصادية والغذائية آخذة بالتمدد والازدياد.. والكثير من المحللين يتوقعون امتدادها لعام 2045. وها هي الأزمة الاقتصادية والغذائية بدأت تعصف بهذا العالم الذي نعتقد بانه بحاجة حقيقية لتدافع عنيف حتى يزول هذا الحجم من الطغيان والظلم والاستكبار والتمييز العنصري على أساس اللون او العرق أو الجغرافيا أو بناء على الشكل السياسي. انه عالم وصل لقمة النهاية, وبدأت بالفعل عملية التدحرج السريعة نحو الهاوية, وهذه سنة الهية ثابتة نظر لها وموضعها (ابن خلدون)بشكل فلسفي ذات أبعاد نسقية مترابطة.
الواقع الفلسطيني.... محاولة للتوصيف... محاولة المتخيل
كانت الانظار تتجه بشكل كبير هذا العام الى شهر رمضان, مرتكزة تلك الانظار بوعي الزوال المستند الى رؤية الشيخ بسام جرار. وبالفعل تم الافتتاح التفاؤلي بجولة من العمليات الفدائية والتي جاء معظم منفذيها من جنين القسام. عمليات في معظمها فردية لا ترتبط بالتنظيمات بشكل مادي. وهنا لا بد من الإشارة الى أن عدم ارتباط العمليات بالتنظيمات الفلسطينية لا يحتسب عامل ضعف أو تراجع وإنما عامل ايجابي ونوعي يستحق أن يسلط الضوء عليه وأن يدرس وأن يشكل رافعة حقيقية تؤسس لثورة شعبية مسلحه تقودها نخب شعبوية مرتبطة بهذه الارض, منتمية الى هموم الناس. تعيش اوجاعهم وتعاني كما يعانون.
وبالطبع لا نقصد هنا بأن التنظيمات بعيدة عن هموم الناس ومشاكلهم. لكن طبيعة العمل والنشاط التنظيمي تختلف كليا عن الثورة الشعبية الصادرة عن ذات الوعي الجمعي الواحد.والتي يشارك فيها كل الفئات بلا استثناء.
إن الفرز الاعلامي الذي واكب القضية الفسطينية خلق نوعا من قتل المشاركة والابداع, الى حد يشبه الدراما العربية التي تعتمد قصة البطل, حيث تدور أحداث المسلسل حول البطل وكل من هم حول البطل لا قيمة لهم الا بالقدر الذي يمارس كل واحد منهم دوره ثم يغييب. يغيب من المشهد ويغيب من وعي المتلقي.
أجل ما قام به الاعلام هو عملية تقديم فلان حتى ولو كان مجهوده العملي يساوي صفرا, كل من يحاول أن يعيش فوق الأرض الفلسطينية بطل.. كل طالب وطالبة يذهبون صباحا الى مدارسهم هم في الحقيقة أبطال. وكذلك التاجر والفلاح والحارس والشرطي والطبيب والمعلم وإمام المسجد...... الخ كل الشعب الفلسطيني أبطال الا من أبى.
هكذا يجب أن يتناول الاعلام الثورة الفلسطينية التي سوف تتنامى مع مرور الوقت. احترام الجميع. وتقديم الجميع. وتناول الجميع. دون أدنى تمييز.
ولنا في اغتيال الصحفية الرائعة الراحلة(شيرين ابو عاقلة) المثل الجوهري في متن التوصيف أعلاه. هي علامة فارقة أسست لورطة صهيونية كبيرة سوف تدفع ثمنها بالتقادم. هذا من جانب الأصل في التناول. أما فرع التغطية الاعلامية الذي استطردناه, فان الجمهور الفلسطيني خلق ملحمة اعلامية قل نظيرها, وحمل المسلمون شيرين ذات الديانة المسيحية على اكتافهم بعد ان ألقوا كل النزعات والمسميات التي لا تقدم ولا تؤخر وراء ظهورهم ونشدوا... منتصب القامة أمشي. وهنا كان الاعلام كجناحي طائر الفينيق ..حمل الشهيدة والحاملين لنعشها نحو افاق المجد والضياء والسطوع تحت شمس الحقيقة.
إن الواقع الفلسطيني اليوم أقرب ما يكون لتحقيق الانتصار الأكبر, حيث الانخراط العام في الوعي المضاد للاحتلال وللظلم وللعربدة الصهيونية. واتصال وثيق بين الحبيبتين: غزة والضفة رغم كل محاولات التفرقة والانفصال. فما لم توحده السياسة وحدته الرصاصة ... ونمضي توصيفيا لنرى مركزية القدس وكيف أنها خلقت العامل الحقيقي في بناء الجملة الوطنية. فهبت الجماهير من مختلف المستويات والمسميات هبة رجل واحد للدفاع عن هذا الرمز الوطني المقدس.
نقاط ترتسم في أفاق المستقبل
اولا: لن تكون اسرائيل بعد اليوم فوق القانون.. وهذا الامر بدأ بالفعل وسوف يزداد مع الوقت.
ثانيا: تتخذ العمليات الفردية دلالة على بداية بلورة لثورة شعبية مسلحة. وهذا يتحقق في كل يوم.
ثالثا: تطور نوعي في ميادين المقاومة سواء في غزة او جنوب لبنان. ونرى بان المضادات الجوية ضد الطائرات اهم المتغيرات المستقبلية في حالة نشوب حرب.
خامسا: في كل مرة اسرائيل هي من يشن الحرب.. ولكن هذه المرة الشعب الفلسطيني هو الذي يشن ويخترع الحرب.. والذي يبدأ بالحرب هو الاقوى.
سادسا: لقد ثبت وبمليون دليل بان الحل السياسي حل ساقط وقد سقط بالفعل .
سابعا: احتمالية عالية لشن ايران اكثر من هجوم ضد الكيان الصهيوني.
ثامنا: النظام المصري نظام هش متداعي .. احتمالية اشتعال النار من تحت الرماد احتمالية عالية جدا. وفي الغالب ستكون النار من صالح المقاومة في غزة نظرا للواقع الجغرافي.
لا يوجد في علم الحروب ما يسمى بالغالب والمهزوم. يوجد طرف خسائره أقل من الطرف الآخر.. لكن الحاسم الجوهري في الصراع هو المبدأ القيمي الأخلاقي. العدالة تقتضي أن ينتصر صاحب الحق المظلوم عن من ظلمه وأن الحقوق لا تسقط بالتقادم. والقادم يجول في آفاق هذه الصورة.