ارث اوسلو سيبقى حتى سقوط الجدار 

 

-------------------------------------------

من يظنون  أن اتفاق أوسلو قد اختفى، عليهم  أن ينظروا  إلى الحواجز والجدار  الفاصل ونظام التصاريح الذي أعطى إسرائيل سلاحا بيروقراطيا قويا  جدا ضد الفلسطينيين. هذه الوسائل لم توفر  لإسرائيل الأمن، بل مكنتها من تعزير  سيطرتها  .

---------------------------------------------

 

البروفيسور ياعيل باردة - سيحاه مكوميت

------------------------------------------------

 الكثيرون في اسرائيل يحبون تأبين اتفاق أوسلو والقول إنه لم يبق له أي أثر. لكن لا شيء يمكنه  أن يكون أبعد عن الحقيقة من ذلك : اتفاق أوسلو أدى إلى  خلق نظام قيود اسرائيلي واسع النطاق  ، بعد أن  حول التقسيم الجغرافي  الذي ورد في الاتفاق  إلى مناطق أ، ب، ج، إلى سلاح بيروقراطي قوي جدا  للسيطرة على الفلسطينيين من خلال  تحكمه بنظام الحركة  والتنقل . إنه نظام   للسيطرة على السكان المدنيين، وهو احد الأنظمة الأكثر تطوراً في العالم، والذي نجح في بلورة  سياسات  الفصل القائمة على ان : هناك حدود لا يستطيع الفلسطينيون عبورها، بينما  هذه الحدود شفافة بالنسبة للإسرائيليين.

 

إن الفصل الجسدي - الذي تم تكريسه  من خلال الحواجز، والجدار الفاصل ، ووجود تقنيات المراقبة، حرس الحدود، والقوانين المنفصلة وتطبيق القانون  على أساس عنصري  - جعل منطق الفصل مشروعًا ومقبولًا من وجهة  نظر قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي .

 

وبهذا الشكل، ساهمت أوسلو في تغيير وجه المجتمع، ليس في فلسطين فحسب، بل في إسرائيل أيضاً، لانها منحت الشرعية  للانتهاكات اليومية  القاتلة  لأهم حق، بعد الحق في الحياة، وهو الحق في حرية التنقل. إن المزاعم  بأن انتهاك حرية التنقل  هو ضرورة أمنية تحول الى نوع من اللاهوت الأمني. كما أن منطق الانفصال جعل التفوق اليهودي شرعياً في الممارسة العملية. كل بلدة  يهودية جديدة يتم إنشاؤها، ليس فقط في المستوطنات، ولكن أيضًا كجزء من مشاريع تهويد النقب والجليل، تحولت الى نقطة أخرى في نظام الفصل، مع سياج وحاجز عند المدخل ومئات من ألامتار  التي يمنع عليك التنقل فيها دون ان تعرض حياتك للخطر .

 

من الذي دعم إنشاء نظام التصاريح المتشعب والمعقد  ، وباستثمارات مادية وفيزيائية  ، تكنولوجية ،  واقتصادية  في إنشائه وتشغيله؟ من الذي أراد الجدار  فعلاً؟

 

دفع  الممثلين  الرسميين  لـ "معسكر السلام" بشكل نشط  خطط الانفصال قدما الى الامام . ويتفق الفلسطينيون واليمين الاستيطاني على أن الجدار الفاصل هو في الواقع مشروع يهدف إلى إقامة حدود سياسية وليس له  ضرورة أمنية.على مدى 25 عاما من اصل 30 عاما هي عمر الاتفاق هناك من ربط بين   المزاعم  بأن الجدار  ضرورة  أمنية، وحل الدولتين ونظام التنقل  الوحشي للفلسطينيين.

 

تحولت الضرورات الامنية مع مرور الوقت الى نوع من العبادة التي لا اساس لها في الواقع الا اذا كانوا يعتقدون ان مجرد وجود الفلسطينين الذين يتنقلون في المنطقة هو تهديد بحد ذاته ، وان كل فلسطيني يخفي في داخله (ارهابي) محتمل . مع مرور الوقت تحولت الضرورات الامنية الى مسالة سائلة اكثر واكثر  . الثغرات في الجدار او المناطق التي  لم  يتم بناء الجدار فيها مطلقا كانت معروفة لكل اذرع الامن . كذلك تم التعامل مع الفساد وتزوير التصاريح باستهتار  ولم يتم توجيه اي اتهامات ضد مزوري التصاريح حتى عندما حققوا ارباحا بالملايين من عدة الاف من التصاريح التي ربما الحقت ضررا بامن الدولة .

 

 حصلنا الآن على مثال آخر على أن نظام التصاريح ليس له أي أهمية أمنية حقيقية ، عندما وافقت إسرائيل على السماح لسكان غزة الذين يحملون الجنسية الأمريكية بالدخول إلى إسرائيل. اعترض الشاباك، ولكن بمجرد أن رأت الحكومة أمام أعينها جائزة الإعفاء من التأشيرة للولايات المتحدة، وافقت على السماح للفلسطينيين من غزة، الذين يحملون الجنسية الأمريكية، بالبقاء في الأراضي الإسرائيلية لمدة 90 يومًا وحتى المغادرة جوا من مطار بن غوريون  .

 

  ساعدت الدول المانحة في توفير الاستثمارات المالية الضخمة في  خدمة نظام الفصل ، وهي التي  مولت بالكامل ثمن اجهزة الفحص الدقيق والمتطور  وبناء الحواجز. لكن بيروقراطية الاحتلال هي نظام  دقيق ومتطلب دائما ، لم يخطط له أحد مسبقا. أصبح عدم القدرة على فهم البيروقراطية وحالة عدم اليقين الذي خلقته وسيلة  قوية لإبطاء وتعطيل  حركة الفلسطينيين، واساسا  وقبل كل شئ فصل  الفلسطينيين عن بعضهم البعض .

 

إن سحق   القدس كمدينة تربط بين بيت لحم ورام الله، والعزلة المفروضة على السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية، هما مثال على الكيفية  التي عمل بها  نظام الفصل للاضرار  بقدرة الفلسطينيين على إدارة الدولة . كذلك حوّل قانون المواطنة وأنظمته الصارمة نظام التصاريح إلى وسيلة للمساس  بالمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وعزلهم عن المجتمع الفلسطيني في المناطق.

 

لكن نظام التصاريح، الوحشي بطريقته المملة، والذي أصدر في أوقات معينة أكثر من 120  نوعا من التصاريح المختلفة ، أتاح للشاباك والشرطة فرصة للتدخل المباشر والسيطرة على حياة الفلسطينيين. تجديد تصاريح  العمل كل ثلاثة أشهر أتاح الفرصة للمراقبة والتدخل والتنكيل بالفلسطينيين   سواء عن قصد أو عن طريق الخطأ، لأن بيروقراطية الاحتلال مخطئة في أغلب الأحيان.

 

 عرضت على الفلسطينيين الذين اضطروا إلى التنقل، إما للضرورات  الطبية أو بحثا عن رزق أسرهم ،  صفقة لا يمكن تخيلها : العمل كمخبرين لجهاز الامن العام  والحصول على تصريح أو أن يفرض عليه  "منع أمني" وتعريض نفسه لخطر الاعتقال أو السجن بشكل يومي، والاختيار بين الحاجة الشخصية الملحة  اوخيانة الجماعة الوطنية. لا نعرف عدد المخبرين الذين تم تجنيدهم باستخدام هذه الطريقة، لكن هذه الصفقة عُرضت على عشرات الآلاف من الأشخاص.

 

وكان لهذه الصفقة – التصريح مقابل التعاون – تأثير عميق على المجتمع الفلسطيني. وقد خلق ذلك حالة من عدم الثقة ، حتى داخل العائلات والمجتمعات الصغيرة عن، بين من حصل على  التصاريح ومن منع من ذلك . تصريح الحركة الأساسي كان مصحوبا بثمن شخصي باهظ – الشك المستمر في أن من حصل عليه يعمل مع إسرائيل. وكانت أخطر الشكوك موجهة إلى رجال السلطة الفلسطينية، ورؤوس الاموال ، وأعضاء منظمات المجتمع المدني، مما ترتب على ذلك ضررا شديدا في مجال   القدرة على تعزيز التضامن الاجتماعي ووجود ثقة متبادلة .

 

نظام التصاريح، الذي أنشأ فعلياً حدوداً صلبة في وجه  الفلسطينيين، والتي لم تكن مشاهدة من قبل اليهود، أنشأ حدوداً دون إقامة دولتين. لقد خلق واقع الدولة الواحدة، حيث تسيطر إسرائيل على كامل ألارض ، لكنها لا توفر الأمن والهدوء  لمن يعيشون هناك.

 

نظام التصاريح الإسرائيلي هو جزء من أدوات السيطرة الاستعمارية. إنه إرث الانتداب البريطاني وهوسه بمنع حركة "السكان الأصليين" من خلال قوانين الطوارئ، وهو أيضاً إرث الاستعمار الاستيطاني، الذي يهدف إلى إنشاء مناطق "نظيفة" من الفلسطينيين حتى يمكن استيطانها.

 

ومن أجل الاستمرار في منح الشرعية  لهذا النظام البيروقراطي - الذي يزداد وحشية،يجري ادارته خاصة  بمشاركة  بين جهات  اقتصادية وأمنية وبين المستوطنين المدنيين وليس من قبل الحكومة أو الجيش، ولا  احد يتحمل المسؤولية عن ذلك ، بما في ذلك المحكمة العليا – باتت  الحجج القومية تستخدم أكثر فأكثر، المجتمع اليهودي ككل تبنى في الواقع مبررات نظام الفصل التي قدمتها أحزاب مثل القوة اليهودية  والصهيونية الدينية، الذين يهدفون الى الضم والطرد .

 

وقد نشأ تصور مفاده أن حركة جميع الفلسطينيين أمر خطير، وأن كل فلسطيني يمكن  أن يكون ( إرهابيا )، وأن وجود الفلسطينيين في حد ذاته يشكل تهديدا ديموغرافيا. وهكذا أصبح الجدار  ونظام التصاريح سلاحاً للضم والسيطرة في يد القيادة الاستيطانية، وجزءاً من العبادة الامنية من وجهة نظر  الكتلة الليبرالية.

 

إن الجدار  ونظام التصاريح لم يجلبا الأمن ، لكنهما استجابا لخوف ورعب غالبية الجمهور اليهودي. لقد ساهموا في حقيقة أنه حتى بين معسكر السلام والذين يؤيدون حل  الدولتين، كان الحل المفضل لسنوات هو حل الانفصال.

 

لكن للخوف والرعب هناك رد اخر . وكما ترون في بعض الأحيان بعد تقاعد بعض الاشخاص  من الأجهزة الأمنية، فقد حان الوقت لكي يصحوا اليهود ويقروا  بأن نظام التصاريح والاستثمار في منع حركة الفلسطينيين في المنطقة هو الذي يخلق التصعيد وهم الذين يبعدون إسرائيل عن إمكانية الوجود كدولة ديمقراطية وآمنة في الشرق الأوسط. كما أن منطق  الانفصال الاستعماري عن  الفلسطينيين هو الذي انتج  منطق وشرعية الانقلاب القضائي الذي يهدف فيما يهدف الى  الضم والتهجير وخلق دولة الشريعة وإقامة نظام استبدادي دائم في المنطقة بأكملها.

 

إن النضج او الاستيقاظ هي عملية ادراكية ( في الوعي ) ، لأن الجدار يجب  أن يسقط في عقول وقلوب اليهود في إسرائيل الذين كانوا حتى اليوم يعتقدون أن الفصل والجدران  فقط هي التي ستجلب السلام. إنها خطوة تتطلب شجاعة، وأيضا حلولا حقيقية للخوف والرعب الحقيقيين، ليس فقط بالنسبة لليهود، ولكن أيضا، وربما  بشكل أكثر من ذلك، بالنسبة للفلسطينيين.

 

ومن يريد الديمقراطية والأمن عليه هدم الجدار وإلغاء نظام التصاريح، لأن حرية التنقل والمساواة في حرية التنقل عنصر أساسي في بناء علاقات الشراكة وإعادة تأهيل المجتمع الفلسطيني والإسرائيلي. ولا تقع المسؤولية عن ذلك على عاتق القيادة الإسرائيلية فحسب، بل تقع أيضًا على عاتق النظام الدبلوماسي والاقتصادي الواسع النطاق الذي أنشأ وموّل وحافظ على ودعم نظام التصاريح والفصل في أوسلو.

 

ومع ذلك، فإن واجب الاستيقاظ  يبدأ أولاً  بالمجتمع الاسرائيلي . في الانقلاب على  النظام هناك مخاطر كبيرة ، ولكنها أيضًا فرصة كبيرة لرؤية الحماقة التي ينطوي عليها نظام منع الحركة، والطريقة التي يعزز بها قوة القوى الاستبدادية التي تروج للسياسات  الكاهانية ، والعمل على إلغائها.

 

انتهى

 

 

الدكتور ياعيل  باردا هي  في  هيئة التدريس في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة العبرية في القدس وزميل باحث في مبادرة الشرق الأوسط في كلية كينيدي للحكم في جامعة هارفارد، ومؤلفة كتاب  Living emergency: Israel’s permit regime in the occupied West Bank" عضو في حركة البلاد للجميع