مصيدة اوسلو : الانتحار المجيد لمنظمة التحرير والرواية الفلسطينية .

--------------------------------------------------------------------

لم يقتصر اتفاق أوسلو على منح إسرائيل اعترافا من طرف واحد  وتنازلا مسبقا  من  منظمة التحرير الفلسطينية عن اجزاء من أرض  الوطن وحق تقرير المصير واعتبار كفاحها الوطني من اجل التحرير ارهابا فحسب . بل انها ادخلت الفلسطينيين الى مصيدة فشلت فيها  محادثات السلام في تحقيق اية اهداف ، و العودة الى الكفاح المسلح لم تعد مسألة  ممكنة ايضا .

_________________________________________

 

الدكتور رائف زريق : مدرس الفقه القانوني في القرية الاكاديمية اونو وباحث كبير في معهد فان لير .

 

-------------------------------------------------------------------

 

كنت عندما وقعت اتفاقات اوسلو محاميا في بداية حياته المهنية ،  بعد سنوات من الحياة الطلابية، التي تضج بالنشاط السياسي في القدس في أواخر  الثمانينيات من القرن الماضي ، في ظل الانتفاضة الأولى. غادرت القدس عام 1990، متعبا الى حد كبير  من المدينة، من التوتر المستمر والنشاط المكثف ضد الاحتلال. لذلك لا عجب أنه على الرغم من  ان كل ما أكتبه هنا في إدانة اتفاقات أوسلو ، إلا أنها اعطتني  شعورا بالراحة مصحوبا بالقليل من  الأمل في أنه ربما ولد شيء جديد هنا بعد كل ما حدث . كنت أريده أن ينجح، لكن  عقلي كان يصر على أنه لم ينجح.

 

كان هناك جميع أنواع المعارضين لأوسلو في الجمهور الفلسطيني. بعضهم لم يكن يريد  اساسا حل الدولتين، واعتبره هزيمة. لم أكن انا من  هؤلاء. لم تنبع  معارضتي لأوسلو من منطلق رفض  حل الدولتين، بل من قناعة داخلية بأن أوسلو لا يمكن أن يؤدي إلى مثل هذا الحل. لم يؤثر علي كل ما قيل في   المقابلات التلفزيونية أو التحليلات والتعليقات العامة   ، لكنني ذهبت وقرأت الاتفاقات بأعين  محام شاب. بعد كل شيء ، فإن الاتفاق السياسي هو أيضا اتفاق له منطق تعاقدي ، يتضمن شروطا متبادلة  ، وله جدول زمني وقواعد في حالة خرق العقد ، وما إلى ذلك  . يبدو  لي   أن القليل من المشورة القانونية لن تضر بالفلسطينيين في هذا الصدد.

 

وهناك ثلاث قضايا تشير إلى مشاكل سياسية عميقة. كانت هذه المشاكل مرتبطة ببعضها البعض ، وكلها تتجمع لتخلق  صورة إشكالية. وقد عبرت هذه المشاكل  جميعا عن نفسها   في  الرسائل المتبادلة  بين رئيس الوزراء اسحق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.

 

ممثل لا يمثل في الواقع

 

------------------------------------------

 

المشكلة الأولى تتعلق بعدم  وجود اعتراف متبادل  بين الطرفين. لقد اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل وحقها في الوجود واعترفت بقراري مجلس الأمن رقم 242 و338، لكن اسرائيل  في المقابل لم تعترف  بحق الشعب الفلسطيني في دولة أو حقه في تقرير المصير، بل كل ما في الامر انها اعترفت  بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني . وهذا لا يشبه ذاك : لان منظمة التحرير الفلسطينية مجرد وسيلة ليس أكثر، وهناك فرق بين الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وبين الاعتراف بمطالبها وادعاءاتها . ومن الناحية المنطقية البحتة، كان لإسرائيل - في تلك اللحظة - مصلحة في أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية تمثل الشعب الفلسطيني برمته، لماذا؟ لأن منظمة التحرير الفلسطينية في تلك اللحظة اعترفت بحق إسرائيل في الوجود، ومن الأفضل أن يأتي هذا الاعتراف بإسرائيل من كيان يمثل كل الفلسطينيين . ولأن الاعتراف باسرائيل من جانب منظمة التحرير لا معنى له ان لم تكن ممثلا حقيقيا واصيلا للشعب الفلسطيني .

 

في هذا السياق، تم التعبير عن الطبيعة المفيدة  للممثل: يمكن للممثل أن يعمل  لصالح الاشخاص الذي يمثلهم ، ويمكن ايضا ان يعمل ضد مصلحتهم . يستطيع أن يضع شروطه  ومطالبه امام الطرف الاخر، لكنه يمكنه  أيضاً أن يقدم التنازلات نيابة عن الشعب الذي يمثله. وعندما قدمت منظمة التحرير الفلسطينية مطالب واضحة، تنكرت إسرائيل لأمر  التمثيل، ولكن عندما تظاهرت بالاعتراف بإسرائيل وتقديم التنازلات بأسم  الفلسطينيين، نظرت اليها اسرائيل  كممثل. فعليا استخدمت  منظمة التحرير الفلسطينية  رأسمالها الرمزي كممثل  الشعب الفلسطيني لتظهر على مسرح التاريخ وتعلن عن  تغييب الشعب وتصفية  روايته. وهي ممثل ما دامت أنها لا تمثل فعلا . من الناحية العملية  كان هذا هو الظهور الاخير  لمنظمة التحرير الفلسطينية على الساحة السياسية، وهدف الاعتراف بها الى دفعها الى الاعلان عن انتحارها، ومنذ ذلك الحين  منظمة التحرير الفلسطينية لم تعد موجودة ، ولم تعد ، لاعباً مهماً، وكل ما هو موجود هو السلطةالفلسطينية .

 

وفي  هذا السياق  جاء أيضاً التعهد  بإلغاء بنود الميثاق الوطني  الفلسطيني التي لا تعترف بإسرائيل، وهو ما تم بالفعل بعد عامين، في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية وبحضور الرئيس كلينتون. بلهجة مخففة  ، بدا لي أن هذه لحظة غير حكيمة وخطوة غير مدروسة. في ذلك اليوم كتبت في "هآرتس" مقالاً رافضاً لهذه الخطوة، بعنوان "لا تسوية دون اعتراف". وقد تم إلغاء تلك البنود   مجانا من دون اي مقابل  من إسرائيل.  وفي الوقت نفسه، لم تتعهد إسرائيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967، ولم تعترف حتى بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وبحقوقه الوطنية في فلسطين.

 

وهذا خلق وضعاً  اصبحت فيه   إسرائيل   حقيقة واقعة فيما النزاع يقتصر فقط على  المناطق. واذا كان النزاع هو على المناطق، حينئذ هناك منطق في المطالب الاسرائيلية بتقسيم المناطق بين المستوطنين والفلسطينيين . إن  مجرد تعريف المشكلة في حد ذاته يشير إلى أفق الحل: إذا كان النزاع على فلسطين كلها ، فإن تقسيم كامل الأرض من البحر إلى النهر إلى كيانين هو الحل الأمثل، ولكن إذا كانت المشكلة برمتها تتلخص في الأراضي المحتلة عام 1967، فإن الحل المعقول لابد أن يؤدي إلى تقسيم الأراضي المتنازع عليها بين المستوطنين والفلسطينيين. إذا أصر الفلسطينيون على الحصول على جميع الأراضي المحتلة، فسوف يُنظر إليهم على أنهم رافضون ومتطرفون، لأنهم يطالبون بكل شيء لأنفسهم. وحقيقة أن الفلسطينيين قد تنازلوا بالفعل عن أكثر من ثلثي وطنهم لا تعتبر ولا تحسب. لقد تم التنازل حتى قبل أن يجلس الطرفان على طاولة المفاوضات، لذلك  فلن يؤخذ في عين  الاعتبار. كما انه لن  يعتبر تنازلاً على الإطلاق. وكان هذا فخاً حقيقياً للفلسطينيين، الذين لم يتمكنوا من التحرر منه حتى يومنا هذا، وهو ليس الوحيد.

 

في مصيدة الاعتراف

_____________________________

 

لقد تعالت في الآونة الأخيرة ألاصوات  التي تطالب منظمة التحرير الفلسطينية بسحب اعترافها بإسرائيل، لأن إسرائيل لم تفي  بتعهداتها في  اتفاقات أوسلو. ولكن يبدو أن هذا مطلبا ساذجا ، غير ممكن ، ولا معنى له. والأكثر من ذلك: أنه خطير. الاعتراف، بطبيعته، هو لمرة واحدة ولا يمكن التراجع عنه .لكي يكون الاعتراف وازنا واعتباره خطوة ذات معنى، يجب أن يمثل نوعًا من القناعة والوعي الداخليين، والذي يتم التوصل إليه بعد الحد الأدنى من التفكير وجهود الاقناع الداخلية   .أهمية الاعتراف يكمن في انه لا يمكن  تكراره ، فالقول عن الاعتراف انه  ليس قيمة مادية وان أهميته  تقتصر على  الجانب الرمزي، فأنه في غياب مثل هذا رأس المال الرمزي، ليس له أي معنى.

 

إذا أراد الفلسطينيون العودة عن الاعتراف الآن، فإنهم يقطعون الغصن الذي يجلسون عليه، أو الذي يريدون الجلوس عليه: في المستقبل لن يتمكنوا أبداً من استخدام عملة الاعتراف مقابل الانسحاب الإسرائيلي، لأن  التجربة ستعلمهم ، أنهم يمكنهم التراجع   دائماً. لا يوجد رأس مال رمزي في الاعتراف إلا إذا تم ذلك مرة واحدة وبطريقة لا رجعة فيها. من الأفضل عدم الاعتراف بدلاً من الاعتراف او العودة عن  الاعتراف. ولهذا السبب بالتحديد عارضت الاعتراف، طالما أنه ليس متبادلا، وطالما أنه ليس من الواضح ما الذي سيحصل عليه الفلسطينيون في المقابل وما هي طبيعة الحل النهائي.

 

ويضاف إلى هذا بعد  آخر للرسائل المتبادلة: منظمة التحرير الفلسطينية تنبذ الإرهاب كوسيلة للتوصل إلى تسوية. ويتعين علينا أن نقرأ هذا الأمر بعناية: إن منظمة التحرير الفلسطينية لا تدين الإرهاب فحسب، بل وتنبذه أيضاً. أي أن منظمة التحرير وافقت بنفسها  على ان تطلق على  نضالها حتى تلك اللحظة ارهاب . وهنا برزت عدة مشاكل، ولكنني أريد التركيز على واحدة. وليس لدي أي نية لإجراء جدال  حول تعريف الإرهاب، أو إجراء نقاش تاريخي ،  في هذا الشأن . المشكلة تتعلق بالمستقبل وليس بالماضي: ماذا سيحدث إذا لم توافق إسرائيل في  المفاوضات على الانسحاب من الأراضي المحتلة ولم توافق على حل الدولتين؟ ماذا سيحدث بعد ذلك وما هي الوسائل المتاحة للفلسطينيين في نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي؟

 

في الواقع، هذا بالضبط ما حدث بعد ذلك. أوقفت إسرائيل العملية وواصلت مشروع الاستيطان. ولم يكن من الواضح على الإطلاق إلى أين ستؤدي هذه العملية وما هي المحطة الأخيرة والحل الدائم في النهاية. سيطرت إسرائيل على الأرض والجو والحدود والمياه وكل الموارد النادرة، وسلمت إدارة السكان إلى السلطة الفلسطينية. لقد ابقت  إسرائيل النفوذ  والصلاحيات في يدها، لكنها القت بالمسؤولية على عاتق  السلطة الفلسطينية. اصبح لدى إسرائيل الصلاحيات من دون مسؤوليات  ، فيما إلسلطة الفلسطينية تتحمل المسؤولية  من دون  اية صلاحيات  .

 

ليس هذا فحسب، بل إن الاتفاق لم يتضمن نصا صريحا يمنع استمرار البناء الاستيطاني  في المناطق. دخل الفلسطينيون إلى نفق ليس من الواضح إلى أين يؤدي. إنهم لا يستطيعون التقدم نحو الدولة المنشودة، لكن الإشكالية الأكبر هي أنهم لا يستطيعون العودة إلى المنطق الثوري والكفاح المسلح. فهم ليسوا فقط غير قادرين على بناء القوة  والتنظيم، بل إنهم محاصرون من الناحية المفاهيمية ومن حيث الخطاب. لقد اعترف بهم العالم،  -إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة - على أساس أنهم ينبذون الإرهاب وعلى أساس القبول بقواعد معينة للعبة، وبالتالي فإن العودة إلى الكفاح المسلح هو عودة إلى الإرهاب. صحيح أن إسرائيل والولايات المتحدة أطلقتا عليه اسم الإرهاب منذ وقت طويل ، لذلك يمكننا التساؤل - ما الجديد؟ الحقيقة هي أن هناك شيئا جديدا: هذه المرة، أعطى الفلسطينيون أنفسهم اسما لنضالهم، وأطلقوا عليه هم أنفسهم الإرهاب. والآن اصبح مسموحا  لبقية العالم أن يطلق على هذا  اسم الإرهاب، لأنهم هم  بأنفسهم وقعوا على  هذا المصطلح.

 

وهذا هو جوهر  الفرق  بين الانتفاضة الأولى والثانية. الأولى  جاءت على خلفية الاحتلال ولذلك نظر إليها العالم وإلى نضال الفلسطينيين على أنه نضال ضد الاحتلال. فيما  الانتفاضة الثانية، التي فُرضت حرفياً على الفلسطينيين بعد الاستخدام المكثف للقوة  من قبل الإسرائيليين ، جاءت على خلفية محادثات السلام وبعد أن أخضع الفلسطينيون أنفسهم لقواعد سياسية وقواعد خطاب من نوع مختلف. كل حجر ألقي في الانتفاضة الأولى كان يُنظر إليه على أنه حجر ضد الاحتلال ومن أجل التحرر الوطني، لكن إلقاء الحجارة بعد أوسلو كان يُنظر إليه على أنه حجر ضد السلام وعمل إرهابي. لقد تغير السياق وتغير معه معنى العمل المقاوم الفلسطيني. والوضع الذي تخلق هو  أن محادثات السلام مع إسرائيل لا تحقق أي هدف، لكن العودة إلى الكفاح المسلح يشكل أيضاً إشكالية. لذلك الفلسطينيون الان في المصيدة .

 

 

ليس لدي أي نية لطرح اي اقتراح  للمستقبل، لكن أعتقد أن أي تفكير في العودة إلى الخلف وإعادة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية والعودة إلى المبادئ التي تأسست عليها المنظمة قبل 60 عاما، لم يعد يتوافق مع الوضع اليوم. ومن هنا لا خيار امامنا سوى المضي قدما، لقد قامت منظمة التحرير الفلسطينية بواجبها وأنقذت اسم فلسطين من النسيان وأثبتت أن هناك شعبا اسمه الشعب الفلسطيني. هذا الجيل له دور مختلف في واقع مختلف، لصياغة تصور جديد يرافقه الادراك  بأن هناك بين البحر والنهر 7 ملايين يهودي و7 ملايين فلسطيني، وبينما اليهود يسيطرون على الفلسطينيين ويحافظون على نظام التفوق اليهودي ويحرمونهم من حقوقهم   وأرضهم  في كل يوم.  اذن من هنا سنبدأ.