غريبة في أرضي: فلسطينية ورحلتها الحلوة المرة الى "وطنها"

 

في مذكراتها الحية، فداء جريس و التي ولدت خلال فترة وجود عائلتها في المنفى في لبنان تجد إنتماءً هشًا، وروابط إنسانية يمكن أن تساعد في علاج صدمات القمع.

 إنّ الأثر الكارثي للهزيمة والطرد على يد الإسرائيليين في عام ١٩٤٨ يضفي صفة فريدة على التاريخ الفلسطيني، تمزّقَ المجتمع الفلسطيني الى ألف شظية، كان مسار كل واحدة منها بعد ذلك مختلفاً.

 

القصة التي تمثلها فداء جريس و عائلتها مميزة جداً، فهي قصة الأقلية التي لم تُطرد في عام ١٩٤٨، و كانوا أيضاً مِن القلة القليلة التي لم تُهجّر داخلياً، حيث بقيت العائلة في منزلهم في قرية فسوطة المسيحية الجميلة، على بعد أميال قليلة من الحدود اللبنانية، لكن مع كل ذلك تبقى تجربتهم مؤلمة.

بمهارة فائقة تنسج الكاتبة الجانب الشخصي والسياسي من حياتها ليَقسِم الكتاب الى قسمين: الأول قصة والدَي الكاتبة، والقسم الثاني قصة الكاتبة نفسها.

 ** التمييز و الطرد:

 ترسم فداء جريس صورة واضحة لحياة الفلسطينيين في إسرائيل خلال فترة الخمسينيات والستينيات.

الكثير من الإسرائيليين يعتبرون هذه الفترة من أيام العز الماضية، بينما كان للفلسطينيين عصر الحكم العسكري و التمييز و السلب، حيث كانت مجتمعاتهم المتبقية محاصرة بإحكام شديد من قبل مستوطنات يهودية. وفي مفارقة حزينة، وجد آلاف الفلسطينيين أنفسهم مضطرين لإيجاد عمل في مواقع البناء موفرين القوة التي بنت الدولة الوليدة.

 من أجل التنقل، كان مطلوبا من العمال السير في نظام معقد من التصاريح كان مشابهاً بشكل لافت لما يسمى ب"قوانين المرور" السائدة في جنوب أفريقيا في الفترة نفسها.

تجربة والد الكاتبة صبري جريس توازي في نواحٍ عديدة تجربة نيلسون مانديلا. ولد صبري في عائلة مزارعة، وأصبح محامياً في عام ١٩٥٩، وكان عضواً في مجموعة صغيرة شكَّلَت "الأرض"، وهي منظمة سعت للدفاع عن حقوق الفلسطينيين داخل هياكل دولة الاحتلال الإسرائيلي.

 

 كتب صبري لاحقاً: "من الأخطاء الواضحة لمنظمة الأرض ثقتها بعدالة وديمقراطية الإسرائيليين، والخطأ الآخر تقليلها من شأن المفهوم الصهيوني لفكرة "الأمن"، والذي بالإمكان تأويله على أوسع نطاق عندما يكون الوقت ملائماً.

أثبتت المقاومة السلمية عدم جدواها، وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام ١٩٦٧، انجذبَ صبري نحو منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد تعرضه للحبس المنزلي و الاعتقال المتكرر، هرب من إسرائيل في عام 1970 مع زوجته حنّا، واستقرَّ الزوجان في بيروت المكان الذي ولدت فيه الكاتبة عام 1973

هناك ترقّى صبري ليصبح لاحقاً مديراً لمركز الأبحاث الفلسطيني الساعي للحفاظ على السجلات والثقافة الفلسطينية في الشتات.

 

** أَلَم لا يُطاق تقريبا:

 تبرز في هذه الصفحات القوة الهائلة للعلاقات الإنسانية لتكون بلسماً وشفاءً جزئيًا للصدمات العاطفية الناجمة عن القمع السياسي الوحشي.

لكن حتى هذا له ثمن، كما قالت الملكة في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر: "الحزن هو الثمن الذي ندفعه مقابل الحب"، مراراً وتكراراً تواجهنا معاناة الأقارب الذين ينفصلون في أوقات الولادة والمرض والموت.

 بالرغم من أنهم كانوا يعيشون على بعد ساعات فقط بالسيارة عن قريتهم، إلا أنّ والدَي الكاتبة لم يكن لديهم أي اتصال بريدي أو هاتفي مع عائلتهم في قرية فسوطة. تم استعادة الاتصال فقط عندما وافق أحد الرهبان على تهريب الرسائل عبر الحدود.

 

 يكمن في صميم الحكاية مقتل والدة الكاتبة الى جانب سبعة وعشرين شخصًا آخر في هجوم سيارة مفخخة على مركز الأبحاث الفلسطيني من قِبَل الكتائب المسيحية المدعومة من إسرائيل أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، ووالد الكاتبة نجا فقط بالصدفة.

من الواضح أنه حتى بعد أربعين عاماً، يبقى الألم تقريباً لا يُطاق أو يحتمل. بعد ذلك انتقلت العائلة إلى قبرص ليتم اقتلاعها مجدداً عندما بدأت محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوائل التسعينات.

بحلول هذا الوقت، كان والد الكاتبة مستشارًا مقربًا لياسر عرفات. ترسم الكاتبة صورة رائعة للقائد الفلسطيني-” وطني، رجل عصابات، حالم، عبقري، محتال، مقاتل، رجل سلام، جميعها في شخصه". "

 صبري جريس كان من أوائل الذين دعوا الى حل الدولتين، سوف يكون أيضاً من منتقدي تسويات ياسر عرفات العقيمة مع الإسرائيليين أوائل التسعينيات، ومع ذلك، كانت أسرة جريس مِن الأسر القليلة التي مُـنحت حق العودة إلى بلادهم كجزءٍ مِن اتفاقية السلام.

 

 في عام ١٩٩٥، وضعت فداء جريس قدمها في إسرائيل لأول مرة في عمر ٢٢ سنة، بدا الأمر "معجزة" كما قالت، و قد قضّت أيامًا تقريباً في حالة من النشوة تلتقي بعائلتها الممتدة في فسوطة وتقابل الكثير من أقاربها لأول مرة.

 ** "لا كلاب...لا عرب"

 لكن سَرعان ما أطلّ الواقع القاسي في عنوان كتابها، كان الاندماج في مجتمع صغير محافظ صعبًا للغاية، والتحدي الأكبر كان في العنصرية والتمييز في المجتمع الإسرائيلي الأوسع، خلال بحثها عن شقة للإيجار في مدينة نهاريا الساحلية صادفت لافتة تقول "لا كلاب...لا عرب". "

وأخبرها عامل في محل ملابس بسرور " أنت جميلة جداً، لن يفكر أحدهم أنكِ عربية".

 قيود الخمسينيات المشددة اختفت (انتقلت إلى الضفة الغربية وقطاع غزة)، إذا كانت إسرائيل في ذلك الوقت تشبه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، من الممكن اليوم مقارنتها بنظام جيم كرو العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية قبل حركة الحقوق المدنية.

 

 تعلمت فداء العبرية، وتمكنت من العثور على عمل في قطاع البرمجيات، لكن كانت في معظم الأوقات الفلسطينية الوحيدة في المكتب، وواجهت التجاهل والعداء الصريح في كثير من الأحيان، وخصوصاً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في عام٢٠٠٠

عندما هاجمت دولة الاحتلال جنين في عام ٢٠٠٢، كان عليها تحمل زميلين امريكيين يرتديان قبعة بيسبول ينكتان ويضحكان مع بعضهم ويقولان: " نحن نسحقهم يا رجل، ليس لديهم أية فرصة".

كتبت فداء: "خلال ثماني سنوات في إسرائيل، لم أشعر ابداً بالسعادة أو الحرية".

 

 ** فعلاً منبوذ: 

 هاجرت الكاتبة لفترة وجيزة الى كندا، لكنها وجدت نفسها بشكل لا يقاوم تحِن الى عائلتها وشعبها، وعادت في النهاية للعيش في مدينة رام الله حيث تبقى الآن.

 هنا و على الرغم من وحشية الاحتلال، هي على الأقل تجد مظاهر الحياة الفلسطينية المُرضية عاطفياً وثقافياً والتي تتوق اليها.

 تُعد "غريبة في وطني" والتي كتبت ببساطة مجردة مساهمة عظيمة للسجل الفلسطيني الثري مِن السِيَر والمذكرات.

تُختتم السيرة بالتحدي مع كلمات الشاعر ابي القاسم الشابي: "ولا بُد لليل أن ينجلي.... ولا بُدَّ للقيد أَن ينكسر".

 كما هو الحال دائماً، يُصاب المرء بالدهشة من صمود الشعب الفلسطيني، لكن من الصعب تجنب الشعور بالتشاؤم القاتم في النهاية.

بشكل فريد، تم التخلي عن الفلسطينيين فعلياً من قِبَل أولئك الذين عادةً هم الحلفاء الرئيسيون للشعوب التي تقاتل في نضالات ضد العنصرية ومن أجل الحرية وتقرير المصير، واقصد هنا: الليبراليون الغربيون.

 

 بغض النظر عن الابتذال، يبدو أن الليبراليون الغربيون مستعدون للانخراط في الروايات التي تشيطن وتضعف النضال الفلسطيني مانحين تصريحاً مطلقاً للقمع الإسرائيلي تاركين الفلسطينيين من دون مسار واضح للمضي قُدماً.

 تتحدث فداء عن تجربة موسى عاصي، صديق والدها والذي اعتُقِل مِن قبل الإسرائيليين لمدة ثماني سنوات في السبعينيات.

كتبت فداء: "استخدمت المخابرات الإسرائيلية اساليب تحقيق شديدة القسوة، كانت واحدة منها هز الشخص بصورة شديدة الى أن يصاب دماغه بضرر مؤقت يقوده إلى الهلوسة".

 تم الإفراج عن عاصي عام ١٩٧٨، وعاش الى عام ٢٠١٢، لكنه فقد اي وعي بنفسه أو من حوله، ومات دون معرفة من هو وأين كان. وهذا يبدو تشبيه مناسب لمعاملة الشعب الفلسطيني ككل.

 : middle east eye ترجم عن الكاتب في صحفية

 ريتشارد ساندرز