مأزق اسرائيل الاستراتيجي 

في الوقت الذي تتعرض فيه اسرائيل لما تعتبره جهات سياسية ، أمنية وبحثية لسلسة من التحديات على المستوى الاستراتيجي (غير الوجودي ) إلا أن جزءا مهما من سياسييها وامنييها يرون أن المشكلة التي تشكل تهديدا وجوديا عليها هي بالذات تلك المتعلقة بخطورة الانزلاق إلى وضع الدولة الواحدة ، بشكل زاحف ، تحت تأثير  سياسات الوضع الراهن التي تبنتها حكومات اسرائيل المتعاقبة والتي أدت إلى اللامبالاة تجاه الموضوع الفلسطيني بعد أن نجح الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن الإسرائيلية الأخرى بخلق واقع استراتيجي جديد في الضفة بعد الحاقهم الهزيمة العسكرية بالانتفاضة الثانية وبشكل أكثر تسارعا بعد انهيار النظام العربي الرسمي عقب الربيع العربي والذي وصل ذروته بتوقيع الاتفاقيات الإبراهيمية ( صك استسلام النظام العربي الرسمي أو جزءا منه دون قيد أو شرط ) .

منذ عدة سنوات بدأ مركز ابحاث الامن القومي الإسرائيلي (الأكثر تأثيرا في صناع القرار على هذا المستوى  ) يحذر من خطورة الانزلاق إلى خيار الدولة الواحدة بأعين مغمضة وتحت ستار عجز الفلسطينيين التام عن التحرك . يحذر المركز مما يسميه خطرا وجوديا على إسرائيل ويطالب الدولة بالاسراع في تنفيذ خطوات ملموسة للانفصال عن الفلسطينيين قبل فوات الاوان لا بل يقدم تصورات لذلك ويقول إن ذلك يحتاج وجود طرفا فلسطينية فعالا نشطا وقادرا على القيام بواجباته للقيام بعملية الانفصال هذه .لا يرى المركز إمكانية التوصل لحل نهائي للقضية الفلسطينية في مثل هذه الظروف لذلك يقترح التحرك خطوة خطوة في سبيل الوصول إلى الانفصال الجغرافي بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في الضفة الغربية .

يقترح المركز منح الفلسطينيين المزيد من الأراضي الواقعة في مناطق C القريبة من مناطق A أو B بالإضافة إلى تمكينهم من إنشاء استثمارات خاصة بهم في أجزاء من مناطق C ولكن دون نقلها لسيطرتهم وأفكار أخرى . فيما يرى التيار الأمني الآخر ( الأمنيين ) وهو تيار امني معتبر يضم في صفوفه عددا كبيرا من ضباط الاحتياط ورجالات الشاباك والشرطة السابقين  الذي يتبنى رؤية أمنية ايديولوجية في التعامل مع الضفة الغربية ، لا تؤمن بالانسحاب من اي شبر اخر ويرون أن الوضع الذي أسس له رابين في الانسحاب من التجمعات السكانية الفلسطينية أنهى الارتباط بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولا داعي للمزيد .

فيما يرى الفريق الأول الذي ينتمي للتيار الأمني السياسي التقليدي الذي سيطر ولا زال الاكثر تأثيرا في القرار في اسرائيل بأن تنفيذ الانفصال يمكن أن يحصل مع شريك فلسطيني أو بدون مع وجود أفضلية كبيرة لوجود شريك فلسطيني يرى الفريق الآخر أن السلطة الفلسطينية لا تقل سوءا عن حماس وأنها تعيش على أجهزة تنفس اسرائيلية يجب فصلها عنها وأنها أنهت دورها التاريخي ولم يعد اي سبب يبرر وجودها  .هناك سباق محموم  على محور الزمن بين هذان  التياران اللذان يفترقان في معظم المحاور في رؤية تسوية القضية الفلسطينية أو هندسة تسوية ما . قوة الجذب المتمثلة بالتيار الأمني اليميني الأيديولوجي المتحالف مع اليمين السياسي تبطئ من محاولات التيار الأمني والسياسي المركزي تسريع الخطى نحو فك الارتباط الإقليمي فيما يحقق تقدما في محاولة فك الارتباط على المستويات الوظيفية المدنية ،وفي سبيل محاولته خلق ظروف افضل لتليين الفلسطينيين يضطر أن يقدم لهم بعض قطع الحلوى هنا او هناك . ان احد اهم محاور القدرة على الانتقال نحو البدء في تنفيذ  الانفصال إلاقليمي من وجهة نظر هذا التيار ، وجود سلطة فلسطينية على قيد الحياة قادرة على أن تكون عنوان سياسي للفلسطينيين ، وتتمتع بقدرات أمنية تمكنها من السيطرة على الفلسطينيين .

 

يرى عاموس جلعاد الذي لعب دورا مهما في الحرب على الفلسطينيين منذ شغل منصب رئيس قسم الابحاث في شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي ، حتى يومنا هذا بحكم ترأسه مركز رايخمن  حاليا أو -هرتسيليا سابقا- أن ابو مازن لا يريد خليفة له ويتعمد ذلك بهدف خلق حالة فراغ تمتص الإسرائيليين إلى داخل المناطق الفلسطينية وتجبرهم على العودة إلى إدارة حياة السكان من جديد . ان حاجة اسرائيل للشريك الفلسطيني أن صحت وجهة نظر جلعاد ام لا هي ملحة للغاية لتنفيذ مشروع الفصل العنصري الذي يؤمن بقاء اسرائيل دولة يهودية ، ديمقراطية وأخلاقية من وجهة نظر رواده . لذلك  قد يكون من المطلوب أن تكون هناك قيادة فلسطينية تتمتع بقدر من الشرعية تنخرط في وقت لاحق في هذه الرؤيا وليس كحل نهائي  . قد تفسر هذه التوجهات تسارع الأحداث في الساحة الفلسطينية في هذه المرحلة بهدف خلق تلك القيادة المهندسة ، كما قد يكون التسريع أيضا يهدف إلى عكس ذلك وهو التسريع في اندلاع حرب أهلية داخلية تخرج ما تبقى من منظمة التحرير وفتح من المشهد وتأتي بقيادة جديدة من تيار ثالث سينحي الموضوع السياسي جانبا ويعلن انشغاله بإصلاح ما دمرته الحرب الأهلية على صعيد إعادة تطبيق النظام والقانون والحكم الرشيد وعلى قاعدة الانفصال السياسي الإقليمي الوظيفي والمدني مع استمرار  الجيش الإسرائيلي في السيطرة الامنية والعسكرية في كل أرجاء الضفة الغربية . وبذلك تستطيع إسرائيل أن تحرر نفسها من سيطرتها على الفلسطينيين وتقول إن العلاقة الان بين كيانين وليس بين دولة احتلال وحركة تحرر وطني .