هبة القدس..تداعيات وأبعاد استراتيجية
بعد مغادرة دونالد ترمب للقدس معلناً نقل السفارة الامريكية اليها بدلا من تل ابيب، قال رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو معقباً على الزيارة "إننا نشعر في هذا العام وكأننا نحلق بأرواحنا فوق جنان عدن"، يأتي تعليق نتياهو هذا بعد جملة من الضمانات والوعودات الداعمة والمؤيدة لأطماع "اسرائيل" وسياساتها الاستعمارية تجاه الفلسطينيين والعرب من قبل رئيس أعظم دولة في العالم، هذا الى جانب دعم دولي وانفتاح سياسي واقتصادي من معظم دول العالم على دولة الكيان، بما في ذلك العديد من الدول التي كانت تقف على الحياد، أو تصطف الى جانب العرب والفلسطينيين في الصراع العربي الصهيوني.
وإذا ما أضفنا الى ما سبق موجة التطبيع العربية التي أنهت فعلياً حضور القضية الفلسطينية كمحدد للعلاقة مع الاحتلال لدى دول عربية عديدة، والتي تسابقت الى تطبيع علاقاتها مع الاحتلال، إضافة الى حالة من الترهل والانقسام الفلسطيني الداخلي والذي أدى الى وجود حكومة مقاومة محاصرة أيما حصار في قطاع غزة، وحكومة تنسيق أمني في الضفة الغربية تخضع راغبةً أو مجبرة لسياسات الاحتلال الأمنية والاقتصادية، فانه يحق لنتنياهو أن يشعر وكأنه يعيش في الجنة.
ولأن الحال في فلسطين لا يستمر طويلاً على ما هو، فاننا نعيش هذه الايام واقعاً مغايراً تماماً، يجعل نتنياهو وغيره من قادة الحركة الصهيونية يشعرون وكأنهم أقرب الى الاحساس بلهيب جهنم بدلا من جنان عدن.
حيث أنه لم يمضي أكثر من شهران على ما بات يعرف بهبة القدس، التي انطلقت كرد فعل عفوي من الشعب الفلسطين على اعتداءات الاحتلال في المسجد الاقصى، والتي ارتقى خلالها عشرات الفلسطينيين شهداء، وقتل جرائها قرابة عشرين مستوطناً وأصيب العشرات بجراح مختلفة، الى جانب إصابة المئات وربما الالاف بحالات مختلفة من الهلع والفزع والامراض النفسية والعصبية، وهنا سنرصد جملة من أهم وأبرز اثار وتداعيات هذه الهبة سواء على الشعب الفلسطيني وقضيته أو كذلك على الاحتلال الصهيوني وسياساته الاستعمارية:
- بعد سنوات طويلة من الفشل على مسار ما يسمى بالعملية السياسية وتهميش واضح للقضية الفلسطينة ومحاولات الاحتلال استغلال الأوضاع الدولية لصالحه بفرض سياسة الأمر الواقع، تأتي هذه الهبة وتعيد كل الاعتبار للقضية الفلسطينية، حتى على أجندة الأحزاب الصهيونية نفسها، والتي باتت الاصوات تعلو داخلها إن تهميش القضية الفلسطينية والتعامل على أساس وكأن الفلسطينيين رضوا بالواقع، لم يكن سوا أوهام يجب ان لا نركض ورائها.
- لقد بائت كل محاولات هندسة الوعي الفلسطيني بما يخدم الاحتلال وسياساتة على كافة الصعد وبما يخلق وعي جمعي فلسطيني قابل بالتعايش والتنسيق معه، وخلق جيل يركض وراء ملذاته متخلياً عن قضاياه الوطنية الجوهرية، باءت بالفشل. يطل علينا في هذه الهبة جيل جديد من الشباب، في الغالب ليس له انتماءات حزبية، ليقول ان الراية لم تسقط وان القضية ما زالت حية لدى الاجيال القادمة، مربكين بذلك كل حسابات الاحتلال ومن يسير وراءه من انظمة الخيانة والتطبيع في العالم العربي.
- لقد أسهمت هذه الهبة وبصورة واضحة جداً في إذكاء الخلافات الصهيونية الداخلية وأوصلتها الى حد غير مسبوق، كما أنها عززت من تعميق الأزمة السياسية الداخلية لدى الاحتلال والتي قد تصل قريباً الى حل الحكومة والذهاب الى مسلسل الانتخابات، الذي غالبا سيكون طويلاً، ما يعني دخول دولة الكيان في حالة من الركود السياسي والاداري وعدم المقدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية.
- لقد أسقطت هذه الهبة مشروع اليمين الصهيوني المتمثل بما عرف بالسلام الاقتصادي أو كما سماه نفتالي بينت تقليص الصراع، حيث سرعان ما عاد الاحتلال الى طبيعته، وإن حاول تجنب ذلك في بداية الهبة، في فرض العقوبات الجماعية على الفلسطينيين من قبيل فرض الاغلاق على الضفة والقدس وسحب تصاريح من المناطق التي يخرج منها مقاومون، الى غير ذلك من الاجراءات العقابيه.
- أعادت هبة القدس الاعتبار لوحدة ساحات العمل الفلسطيني بعد سنوات طويلة من الانقسام حيث رأينا التناغم ما بين غزة والقدس والضفة الغربية في محور واحد مع إضافة نوعية، هي ساحة عرب فلسطين المحتلة 48، والتي بدأت سابقاً في معركة سيف القدس، مثبتةً في ذلك ان الشعب الفلسطيني لا يفتأ ان يجدد دماءه كل حين، عدا عن الابداع في الأفكار والرسائل بغية الخلاص من الاحتلال.
- أرست هذه الهبة معادلة جديدة في ساحات المقاومة وهي أن الفلسطيني لم يعد هو الأضعف ولم يعد وحده من يدفع ثمن الاشتباك مع الاحتلال، بل الاحتلال بات يحسب ألف حساب قبل التصعيد لأنه يشعر بأن التكلفة باهظة وعلى كافة الصعد، وبات واضحا أن الاحتلال الذي يمتلك قوة تدميرية هائلة يفقد قدرته على الردع بل ان ميزان الردع ينقلب في كثير من الحالات ضده.
- أسهمت هذه الهبة بزيادة فقدان ثقة المستوطن الصهيوني بمؤسسته الأمنية بعد انتشار حالة من انعدام الأمن قادت الى زيادة كبيرة في الطلب على ترخيص السلاح الشخصي والحصول على دورات في الأمن الشخصي، وقد وصل الأمر الى اقتراح تشكيل حرس وطني للمساهمة في الدفاع عن المستوطنين، وقد اعترف رئيس أركان الاحتلال بالفشل على مواجهة هذه الموجة من المقاومين الغير معروفين.
-لقد أعادت الهبة الاعتبار وبصورة فعلية الى خيار مقاومة الاحتلال على حساب خيار اوسلو الموهوم فطوال أكثر من عقدين لم يكن من اتفاق اوسلوا سوى أن قدم للاحتلال الفرصة لمضاعفة استيطانه وتغوله على الحقوق الفلسطينية وأوجد سلطة حكم ذاتي مجبرة على الالتزام بواجباتها من الاتفاق في حين ينتهك الاحتلال بنوده كل يوم غير مكترث باي تبعات لذلك، في المقابل تحقق مقاومة الفلسطينيين تقدما على حساب الاحتلال وتجبره على التراجع الى الوراء بل وتجبر حلفاؤه وخاصة العرب منهم الى التفكير مليا في تاييدهم له ولسياساته.
- لقد فرض الجيل الجديد من الفلسطينيين على الكيان الصهيوني الغاصب نقاشا داخليا يقدم المصالح على حساب الايديولوجيا، فقد علت الأصوات داخل الكيان المطالبة بالتراجع عن اقتحام الاقصى واستفزاز الفلسطينيين وعدم الانجرار وراء المجموعة المتطرفة في اليمين الديني وتقديرنا إذا ما استمرت ضربات المقاومة فان الغلبة حتما للمصالح السياسية والاقتصادية في مجتمع صهيوني راسمالي يعبد الدولار أضعاف ما يعبد الرب وهذا سيقود للتراجع خطوة للوراء في موضوع اقتحامات الاقصى.
خلاصة
يحتاج الفلسطينيون اليوم أكثر من أي وقت مضى الى أمرين هامين وعلى وجه السرعة أولاهما إعادة الوحدة الوطنية الى الجسد الفلسطيني الذي أنهكه الانقسام وثانيهما الى قيادة سياسية تتخلى عن وهم المفاوضات واستغلال هذه التضحيات الجسيمة وتحويلها الى انجازات سياسية يعيشها الناس واقعاً في حياتهم.