ربما تفسر أيضا إلى حد كبير عمليات الهندسة الاجتماعية والاقتصادية الحداثوية التي قامت بها اسرائيل ( خدمة لأهداف سياسية استراتيجية ) ما حصل للمجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية تحديدا ولكن أيضا قطاع غزة . لم تكن المهمة كما ظن البعض بعد 2007 تجريد المنظمات المسلحة من السلاح - هذا كان هدفا ثانويا جدا - وانما اضعاف المجتمع برمته وتفكيكه ووضعه في حالة ما فوق الفوضى دون النظام وإعادته إلى عصر ما قبل الحركات السياسية المنظمة بحيث تحل الجهوية والعائلية والمال مكانها ، حتى لا يقوى المجتمع على استعادة طاقته وقوته وإمكانية توحده ، بمعنى تعزيز أسباب الفرقة ، اسرائيل لم تكن في يوم من الايام تجز العشب الضار بقدر ما كانت تعمل طوال الوقت على جز العشب النافع .
--------------------------------------------
الجريمة المنظمة في المجتمع العربي وعلاقتها بمافيا رأس المال في اسرائيل .
-----------------------------------------------------------------
دكتور ايلات ماعوز هي مختصة في علم الانتروبلوجي ( عام الانسان ) المختصة بالاقتصاد السياسي للجريمة والعنف المنظمين .
عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي وحداش .
----------------------------
لشرح ظاهرة تنامي الجريمة المنظمة في الوسط العربي يجب فهم العلاقة بين القمع السياسي والتطور الاقتصادي وفق المسار النيوليبرالي . الرد الوحيد على المنظمات الاجرامية هو بناء قوة سياسية تربط بين النضال من اجل التحرر الوطني والنضال ضد الرأسمالية الاسرائيلية .
--------------------------------------------------------------------------
إن الانخفاض المتوقع في معدل تصويت المواطنين العرب الفلسطينيين هو نتاج أزمة ثقة حادة ، ليس فقط في الدولة ومؤسساتها ، ولكن أيضًا في القيادة السياسية الداخلية. ومن بين الأسباب العديدة لهذه الأزمة الشعور باليأس والعجز في مواجهة التنظيمات الإجرامية والزيادة المخيفة في معدلات العنف والقتل. حالة الخوف والرعب تقضي على الحياة اليومية ، وهي مروعة ، وتدفع للشعور باليأس في حد ذاتها ، و تشهد على حالة تفكك اجتماعي عميق وتولده ايضا . إنها تدفع الناس نحو الانغلاق والانكفاء على انفسهم ، حتى لا يدخلوا انفسهم في المتاعب ، وتخلق حالة من الغضب تجاه قيادة ضعيفة لا تقدم - ربما لأنها لا تملك - أي حلول للأزمة.
الحل ، بطبيعة الحال ، مشتق من الطريقة التي نفهم بها المشكلة ومصادرها . اليوم ، تهيمن عدة أطروحات مركزية في إسرائيل ، التي تشرح ظاهرة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي - المتنافسة والمتكاملة ، حسب السياق والمتحدث.
الأولى ، البعد الثقافي التربوي ، وهو التعبير الصريح عن العنصرية المؤسسية. حسب هذا المقاربة العرب عنيفون بطبيعتهم والأفضل أن يقتلوا بعضهم البعض. هذه المقاربة رائجة في اوساط واسعة من المجتمع اليهودي ، وتشير بشكل أساسي إلى التدهور الأخلاقي الذي يسببه الاحتلال للإسرائيليين. بالتأكيد هذا ليس تفسيرا لانتشار الجريمة ، ذلك لأن ظاهرة العنف جديدة جدا وهي نتيجة للتحولات التي حدثت في المجتمع في العقدين أو الثلاثة عقود الماضية وليس أكثر.
بعد آخر ، هو البعد الاقتصادي ، يقول أن الجريمة هي شكل من أشكال النشاط في الأعمال التجارية. بعبارة أخرى ، هذه الجريمة المنظمة هي نتاج "فشل السوق" - فجوة في الحصول على رأس المال والسلع والخدمات. هذه المقاربة ، التي حكمت إلى حد ما عمليات وزارة الأمن الداخلي في الفترة الأخيرة ، تقوم على مفهوم اكتسب زخمًا في منظمات إنفاذ القانون حول العالم يسمى تتبع الأموال ، follow the money. وهي لا تنشأ فقط من النمو الهائل للشركات الإجرامية متعددة الجنسيات ، ولكن أيضًا في التأثير الحاسم للأيديولوجية الاقتصادية .
2- إلى جانب محاولة الإضرار بمصادر تمويل المنظمات الإجرامية ، كمهمة تكتيكية ومستمرة ، تقترح هذه المقاربة ، في نهاية الامر ، أن الحل لانتشار الجريمة سيأتي من إزالة الحواجز والخصخصة الكاملة. وهذا يعني ، كما هو الحال في أي مجال آخر ، أن الحل المتخيل هو أن يربح الجميع المال. هذه المقاربة تتجاهل تمامًا الأساس البنيوي لعدم وجود العدالة الاجتماعية وتتنكر للتداعيات الاقتصادية للقوة في تحديد ما هو قانوني وما هو غير قانوني.
مقاربة آخر واسعة الانتشار ، خاصة بين الجمهور العربي الفلسطيني ، تزعم بقوة أن مصدر الجريمة هو الاضطهاد القومي: دولة إسرائيل ، التي قامت منذ اليوم الأول لتأسيسها بتهميش وإضعاف واستغلال واضطهاد الفلسطينيين داخل حدودها ، خلقت تربة خصبة للجريمة خدمة لاغراضها .
من وجهة النظر هذه ، يجب فهم الادعاءات المعروفة بأن المنظمات الإجرامية هم مجموعة من المتعاونين ليس فقط على اساس أنه ادعاء مجرب بناء على معرفة
هوية المجرمين ، ولكن أيضًا باعتبارها ادعاءات مبدئية حول الدور السياسي القمعي للجريمة باعتباره استمرارا للاحتلال بوسائل أخرى. هناك ما يؤكد هذه المقاربة ، لكنها أيضًا مقاربة مصابة بالعمى ، لأن تنامي المنظمات الإجرامية هو تعبير عن حركة أكثر تعقيدًا: أنه ليس فقط الإقصاء والسيطرة السياسية ، ولكن أيضًا الدور الرائد ( للتغيرات ) الاقتصادية ، التي عبرت عن نفسها في نمو الطبقة الوسطى العربية والتوسع الكبير فيها ، وكذلك وإن لم يكن بالتأكيد كافياً ، في موازنات الحكومة للمجتمع العربي.
التناقض بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية من جانب والإقصاء السياسي الذي يزداد حدة وتطرفا ليس نتاجًا تاريخيًا ظرفيًا. أنه مشروع سياسي مهيمن نما في إسرائيل منذ عام 2000 بتوجيه من كبار مسؤولي الشاباك والاقتصاد الإسرائيلي. في قلبه ، تحرك واسع النطاق للتنمية الاقتصادية وفق الأسس النيوليبرالية ، والهدف منه تنمية "رأس المال البشري العربي". أي خلق مجتمع منتج يغذي مصادر النمو الاقتصادي.
واكتسبت هذه الخطوة طابعها الخاص في عام 2006 ، عندما نُشرت "وثائق الرؤية المستقبلية". يدور الحديث عن أربع وثائق لمنظمات فلسطينية كبرى تطالب بتصحيح الظلم التاريخي والمساواة في المواطنة. الاشهر فيها والاكثر تفصيلا كانت وثيقة صاغها خبراء وشخصيات عامة فلسطينية لاجل لجنة المتابعة العربية ورؤساء السلطات المحلية العربية . تتضمن هذه الوثيقة تحليلاً مفصلاً للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأقلية العربية الفلسطينية وتقترح على الجمهور اليهودي إطارًا واضحًا واسبابا مقنعة لاحداث تغيير اجتماعي واسع .
لم يتمكن معظم الجمهور الإسرائيلي من قراءة هذه الوثيقة ولم يسمعوا عنها. لماذا ؟ لأنه تم تهميشها واخفاءها بسرعة وفعالية من قبل الشاباك.كما ذكر رجل الشاباك السابق الدكتور دورون ماتسا في كتابه من عام 2019 ، فقد نظرت الأجهزة الأمنية إلى وثائق الرؤيا على أنها تهديد يجب تحييده .
ليس بسبب وجود أي دعوة للعنف فيها - يدور الحديث عن وثائق محبة للسلام تمامًا - ولكن لأنها تقوض "الطابع اليهودي" لدولة إسرائيل. في واقع الامر حرم الشاباك ، مواطني إسرائيل ، اليهود والعرب ، من الحق السياسي الأساسي في إجراء نقاش عام مفتوح ومستنير حول قضية هويتهم ومستقبلهم الجماعي. وكأن ذلك لم يكن كافيا ، فقد استل مكتب رئيس الوزراء الفصل الاقتصادي من وثائق الرؤية واخرجه من سياقه السياسي العام وأصبح أساس خطط "الاندماج الاقتصادي" للمواطنين العرب في إسرائيل. أي بالنسبة لخطط الحكومة الخمسية ، وهي (وليس منصور عباس!) كانت مصدر الموازنات الجديدة .
ما هي اهمية هذا السياق ؟ لأن هذا القرار السياسي الأمني وضع سياسات واضحة: تحويل الموازنات الحكومية إلى السلطات المحلية ، من خلال مناقصات تنافسية فيما بينها. كانت الميزة هنا ذات شقين - الاولى فرض المعايير النيوليبرالية لـ "الكفاءة الاقتصادية" ، والثاني تجاوز وتحييد الأحزاب السياسية والهيئات التمثيلية القطرية للجمهور العربي. المعنى العملي هو أن الدولة بدأت في تحويل مبالغ كبيرة للسلطات المحلية ، والكيانات الضعيفة ، التي تخضع لمنظومة ضغوط محلية هائلة ، والتي هي نفسها نتاج هياكل السيطرة الإسرائيلية السابقة: تنمية القيادة المحافظة والمؤسسة العشائرية تحت الحكم العسكري.ثم ادخلوا اليهم القليل من السلاح التي يتدفق إلى البلدات العربية كانه امر روتيني ،وستحصلون على حربا وحشية على المناقصات والانتخابات ومراكز النفوذ .
3- وهذا بالطبع ليس السبب الوحيد لصعود المنظمات الإجرامية. من نواحٍ مختلفة ، عملت أنماط التنمية الاقتصادية على تعميق الفوارق الاجتماعية ، لا سيما على خلفية عدم المساواة البنيوية والمؤسسية بين اليهود والعرب. على سبيل المثال ، أدت الزيادة الهائلة في القيمة المادية للأراضي التي تتناقص يوما بعد في الجيوب (الجيتوات ) العربية في المثلث والجليل إلى ظهور طبقة جديدة من الاثرياء. هذه الفئة ليس لديها شرطة لحماية ممتلكاتها من المنافسين. هنا تدخل المنظمات الإجرامية ، مثل شركات الحماية الخاصة والبلطجية المأجورين ، الذين يديرون أيضًا شركات الحماية الخاصة-جباية الخاوة - والقروض الربوية . علاوة على ذلك ، وتحت سمع ونظر المؤسسة ، نشأت شبكات تجارية واسعة النطاق في العقود الأخيرة بين إسرائيل واقتصاد الاحتلال في المناطق ، في البشر ("المتسللين" أو "المقيمين من دون تصاريح ") ، والأسلحة والمخدرات. وهذه تشكل أرضًا خصبة لنقل المعلومات الاستخباراتية وتجنيد المتعاونين.
ضمن هذه المفاهيم ، ومفاهيم أخرى كثيرة ، فإن المنظمات الإجرامية في المجتمع العربي هي جزءًا من رأسمالية المافيا الإسرائيلية. استندت هذه الرأسمالية منذ البداية على توزيع الامتيازات على الجهويات والعائلات والعشائر على أساس مفتاح عنصري ، وتعتمد بشكل كبير حتى الآن على صفقات فاسدة بين مجموعات من الرجال. أولاً وقبل كل شيء في نظام الامتيازات الإسرائيلي: الحق في حمل السلاح واستخدام العنف "الخاص" ضد الآخرين ذكورا واناثا . وبهذا المعنى ، فإن التنظيمات الإجرامية في المجتمع العربي والمستوطنين هم التعبير عن نفس ديناميكيات النظام العسكري والأبوي والمحافظ .
إن نظرة مقارنة على وضعنا المحلي ، وهو مشروع شاركت فيه بشكل مكثف لعدة سنوات ، يظهر أن هذه الظاهرة الاقتصادية والسياسية ، "الجريمة المنظمة" ، تتطلب منا تبني أدوات تحليلية وعملية جديدة تمامًا. أولاً وقبل كل شيء ، يتطلب الأمر منا أن نفكر بشكل مختلف تمامًا عن الدولة - ليس ككيان واضح موجود في مكان ما في القمة ، ولكن ككيان منتشر يحكم من خلال أجهزة غير رسمية ،الذي يعتبر الفساد والجريمة جزءًا لا يتجزأ منها. إن ذلك يُلزمنا بفهم أن النيوليبرالية الاقتصادية والجريمة المنظمة هما ، حرفياً ، وجهان لعملة واحدة: من جهة المحافظة الاجتماعية ومن الجهة الأخرى نخبة المال . كما أنه يلزمنا بفهم أن التنظيم السياسي الواسع والديمقراطي والواعي والمنهجي هو الوسيلة الوحيدة لكبح المنظمات الإجرامية بجميع أنواعها واستبدالها بنظام مقبول اجتماعيًا للوساطة والتمثيل وحل النزاعات.
يجب فهم نمو التنظيمات الإجرامية في المجتمع العربي في إسرائيل على أنه حصيلة عن المشروع السياسي المهيمن ، العابر لمعسكري فقط بيبي وفقط لا لبيبي ، وهو الأساس المشترك لكليهما: يسعى هذا المشروع إلى الاستمرار في رعاية نمو اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي ويزيد ثروة تل أبيب وا؟؟؟ وتجار السلاح. يريد هذا المشروع تحويل العرب الفلسطينيين في إسرائيل إلى شركاء صامتين في إدارة الاحتلال مقابل حراك اجتماعي واقتصادي. لتجنيدهم في جيش التكنولوجيا الفائقة لكن منعهم من تحديد سياسات الجيش الحقيقي. يقترح هذا المشروع على الفلسطينيين ، وبالتالي علينا جميعًا ، أن يقبلوا بمواطنة غير متكافئة وغير ديمقراطية توفر الدعم الكامل لليمين المحافظ. هذا المشروع خطير علينا جميعا ، وخاصة بالنسبة للأقليات والنساء.
الجريمة المنظمة ليست ظاهرة "عربية" ، بل هي ظاهرة اقتصادية سياسية واسعة ، وحلها في اتباع سياسات مثابرة وواضحة وحازمة: النضال ضد الاحتلال والمطالبة بالمواطنة المتساوية والنضال من أجل العدالة الاجتماعية هو واحد . إذا أردنا حقاً التصدي لهذه المشكلة ، فعلينا التصويت للحزب الذي يمثله هذا النضال الموحد.