الأسير رائد الحوتري.. أرادوا له العمى فبصر الطريق
3 ديسمبر 2025
في زمن تهزم فيه القيود الجسد، وتنتصر فيه الأرواح العالية على السلاسل، ينهض من بين جدران القيد رجل حمل الوطن في قلبه، ومشى في الدرب أعزل إلا من البصيرة. رائد الحوتري، ذلك الذي اقتسم عمره بين الحلم والمطاردة، وبين الزنزانة وصوت ابنته الأولى التي وُلدت في غيابه، صار اسمه مرادفا لصبر لا يشيخ، ولثبات لا تكلّه السنين. أكثر من عشرين عاما مضت، وما زال وجهه المسكون بالنور يُطلّ من وراء القضبان، يكتب سيرة الحرية بحبر الوجع، والحب، والإرادة.
يواجه الحوتري حكما جائرا بالسجن المؤبد لأكثر من عشرين عاما، تحت تهمة التخطيط لواحدة من أعنف العمليات إيلاما للاحتلال والمعروفة بعملية "الدولفيناريوم" عام 2001 في تل أبيب، والتي أسفرت عن مقتل 21 إسرائيليا وإصابة أكثر من 100 آخرين. على إثر ذلك، وضع اسمه على قوائم المطلوبين واعتُبر أحد قادة كتائب القسام الذين يشكلون خطرا كبيرا على الاحتلال. حاولوا اغتياله مرارا، وأرادوا له العمى والموت، لكنه أبصر الطريق بنور بصيرته وإيمانه وظل ثابتا على دربه.

في فجر مثقل بالبارود والخوف، تمددت ظلال البنادق على بيت احتمى فيه رائد الحوتري، فأحاطت به أكثر من 500 بندقية تبحث عن جسد واحد. لم يكن ذلك مجرد اعتقال، بل قرار اغتيال ميداني أُعدّ بدم بارد. دوّى الرصاص، واخترقت رصاصة جبينه، لا لتعتقله بل لتُنهيه. ارتدت الشظايا عن الجدار، فاستقرت في وجهه وعينيه، لتخفت أنوار البصر وتبقى البصيرة مشتعلة كجمرة لا تنطفئ.
كان يمكن لذلك الصباح أن يكون الأخير، لكن الله كتب له الحياة. خرج من بين أنياب الموت بجسد مثخن وجراح مفتوحة، لم تشفع له أمام جنود خلعوا عن وجوههم كل ملامح الرحمة. نُقل وهو ينزف، وعلى جبهته جرح نازف كفجر مكسور، فبدل أن يُداوى، انهال عليه الطبيب العسكري ضربا على موضع الجرح، وكأنهم أرادوا لوجعه أن يتكلم بدلا عنه.

لم تكن رصاصة الغدر سوى فاتحة لكتاب العذاب الذي فُتح على جسد رائد الحوتري، إذ لم ينته الألم عند النزف من الجبين، بل بدأت فصوله الأشد في أقبية التحقيق، حيث تُنزع الكرامة كما تُنتزع الأظافر، وتُجلد الروح قبل الجسد. تسعون يوما من التحقيق، كأنها دهر، قضاها الأسير بين فكيّ التعذيب الجسدي والنفسي، أمام محققين أدركوا أنهم لا يواجهون جسدا منهكا، بل إرادة صلبة لا تلين.
تقول زوجته أسماء حمودة "إن رأس رائد ما زال يحمل آثار خياطة حديثة على جرح غائر، لم تندمل عروقه بعد، فإذا بأصابع المحقق تعبث بالخيط، تنزعه مرارا من اللحم الحيّ كلما رفض رائد الانكسار". أي وحشية تلك التي تتخذ من الجرح سلاحا؟ وأي حقد ينهش جراح رجل مقيّد، نصف أعمى، يتلوى بين الوجع والصمت؟!
بقي رائد واقفا في وجه عاصفة القهر، يتوكأ على عزيمته، ويتّكئ على يقينه. كان يرى وجوه أطفاله في ظلام الزنزانة، ويستحضر ملامح زوجته مع كل موجة ألم، فيستمد من تلك الصور قوة تردّ عنه وجع العذاب.
لم يُراع ضعف بصره ولا الشظايا التي غرسها الرصاص في عينيه، بل كان الضرب موجّها إلى مواضع الضعف نفسها، كأنهم أرادوا أن يطفئوا ما تبقّى من نور في عينيه. ورغم كل ذلك، لم ينكسر. بقي رائد واقفا في وجه عاصفة القهر، يتوكأ على عزيمته، ويتّكئ على يقينه. كان يرى وجوه أطفاله في ظلام الزنزانة، ويستحضر ملامح زوجته مع كل موجة ألم، فيستمد من تلك الصور قوة تردّ عنه وجع العذاب.

على الضفة الأخرى من ظلمة الزنازين، كانت لعائلة رائد حكاية موازية تُروى بالحبر ذاته. في عام 2000، وفي ظلّ اشتعال انتفاضة الأقصى، عقد رائد الحوتري قرانه على أسماء حمودة، فكان زواجهما وعدا صغيرا بالحياة وسط عالم يتآكل تحت سطوة الاحتلال. كوّنا أسرة تلتف على الأمان البسيط، وسرعان ما هلّت بشائر الفرح بميلاد طفلهما الأول، مقداد، في منتصف عام 2001؛ ذاك الصغير الذي أضاء أركان البيت بضحكته الأولى، وكان صراخه الوليد نشيدا جديدا للفرح.
لكنّ الاحتلال، كعادته، لا يترك فرحة فلسطينية تمرّ دون أن يترك بصمته السوداء على أطرافها. ففي اللحظة ذاتها التي تنفّس فيها مقداد أول أنفاسه، وضع الاحتلال اسم والده على قائمة المطلوبين. لم يُمهلهم الوقت ليهنأوا بأبوة جديدة، بل انقضّ على الحلم بوضع رائد على رأس قائمة المطلوبين، فغادر بيته ورضيعه، لا فرارا من الحياة، بل طلبا لحياة أوسع، حياة للوطن بأسره.
كان خبر ميلادها كنسمة هاربة من خلف جدران السجن، مرّت على جرحه وبلّلت قسوته، ومنحته زادا يكفيه للاستمرار في صموده.
هكذا بدأت رحلة المطاردة؛ رائد بين الشعاب والجبال، يبيت في العراء ويحتمي بالغيوم، وأسماء تحمل بين ذراعيها رضيعا وأحلاما مثقلة بالخوف والانتظار. لا لقاء إلا خلسة، لا دفء زوجي إلا في نظرة عابرة، ولا أمان إلا ما تيسّر من صبر.
وذات صباح من آذار/ مارس 2003، أسدل الستار على فصول المطاردة، ليبدأ فصل أشدّ وجعا في حياة رائد الحوتري. اعتُقل جريحا، مثقلا بالشظايا والغياب، وبعد اثني عشر يوما فقط من أسره، ولدت أسماء مولودتهما الثانية حور. وحين تسللت البشرى إلى زنزانة العزل، وحمل موظف الصليب الأحمر الخبر إلى الأسير الجريح: "لقد وُلدت لك ابنة، وسُمّيت حور"، انفرج وجه رائد رغم الألم، واغرورقت عيناه المثخنتان بدمعة دافئة. لم تكن دمعة وهن، بل دمعة انتصار على الجرح، دمعة حياة تولد من رماد الألم.
كان خبر ميلادها كنسمة هاربة من خلف جدران السجن، مرّت على جرحه وبلّلت قسوته، ومنحته زادا يكفيه للاستمرار في صموده.
كانت السنوات الأولى من أسر رائد الحوتري تمضي ثقيلة كأنها الدهر، تُراكم وجع الغياب على قلب زوجته أسماء، وتُربّي طفلين على صدى الحكايات. فقد منعت سلطات الاحتلال الزوجة الصابرة من زيارة زوجها لسنوات طويلة، بذريعة "الرفض الأمني"، فحُرمت هي ومقداد وحور حتى من رؤية وجهه خلف شبك السجن، أو سماع صوته عبر هاتف مشوش يمرّ من بين الحديد.
كبر مقداد وهو لا يعرف من أبيه إلا صورة باهتة مؤطّرة على الحائط، تُحدّثه أمّه عن بطلها الغائب. وكبرت حور وهي تحفظ اسمه قبل أن تحفظ ملامحه، وتنسج له وجها من خيال أمومي مشبع بالحب والفقد.
كبر مقداد وهو لا يعرف من أبيه إلا صورة باهتة مؤطّرة على الحائط، تُحدّثه أمّه عن بطلها الغائب. وكبرت حور وهي تحفظ اسمه قبل أن تحفظ ملامحه، وتنسج له وجها من خيال أمومي مشبع بالحب والفقد.
حين أُتيح لهم أخيرا، بعد 7 سنين من القطيعة، أن يزوروه؛ حملت أسماء طفليها وقد بلغا من العمر ما يقارب الثامنة والسابعة، وقلوبهم تنبض بالرهبة والحنين. دخلوا قاعة الزيارة كمن يقترب من حلم بعيد. وهناك، خلف حاجز زجاجي سميك، وبين سطور صمت تقطّعه أجهزة التشويش، وقف رائد الحوتري شاحب الوجه، تكسوه ملامح الزمن القاسي، ينظر إليهم بعينين تشتاقان العناق. لكن اللقاء لم يكن كما رسمته الصور، فما أن وقعت أعين الصغيرين على ذلك الوجه المنهك المغبرّ بالشيب والثياب الباهتة، حتى ارتبكا، وتراجعا بارتباك ووجل. تسمرت حور في مكانها، ثم تشبثت بثوب أمها، تهمس بخوف: "من هذا الرجل؟". أما مقداد، فقد أطال النظر في ملامحه، عاجزا عن مطابقة ذاك الأب الذي في الصور، مع هذا الذي في القفص الزجاجي.
حاولت أسماء أن تضمّ خيبة اللقاء بحنانها، تهمس لهما: "هذا هو أباكما، الذي صمد لأجلكما". لكنها لم تستطع أن تمحو الحيرة من عيونهما، ولا أن تزرع الطمأنينة في لحظة خذلتهم فيها الذكريات. رأى رائد كل ذلك، رأى الخوف حيث كان يحلم بالشوق، ورأى المسافة التي خلقتها القضبان بينه وبين قلبي طفليه.
مضت ساعة الزيارة بسرعة موجعة، لم تُسعفهم لتجاوز ذهولهم، ولا سمحت لهم بأن يضمّوا أباهم أو يسمعوا صوته بلا تشويش. رجعوا دون يقين، يحملون في أعينهم سؤالا لا إجابة له: "هل كان ذاك حقا أبانا؟"
مضت ساعة الزيارة بسرعة موجعة، لم تُسعفهم لتجاوز ذهولهم، ولا سمحت لهم بأن يضمّوا أباهم أو يسمعوا صوته بلا تشويش. رجعوا دون يقين، يحملون في أعينهم سؤالا لا إجابة له: "هل كان ذاك حقا أبانا؟"
رفض الطفلان بعد ذلك تكرار الزيارة، فقد ارتبطت في ذاكرتهما الصغيرة بالخوف والارتباك، لا بالحب واللقاء. لكن أسماء، التي لبست جلد الصبر، لم تستسلم. عادت تصحب طفليها مرارا، تروي لهما عن صمود أبيهما، عن جراحه التي نزفت لأجل أن يحفظ لهما الكرامة. شيئا فشيئا، بدأت الغيمة تنقشع، وعاد مقداد وحور إلى الزيارة، لا بخوف كما في المرة الأولى، بل بشوق الناضجين الذين عرفوا معنى التضحيات، وفهموا أن الأب ليس فقط من يسكن البيت، بل من يسكن القلب ولو خلف الأسلاك.