مفقودو غزة: وجع الغياب وأمل العودة
3 ديسمبر 2025
في غزة، ما زالت صور المفقودين معلقة في قلوب محبيهم قبل الجدران، تهمس بالحياة كلما مر طيف الأمل من بعيد، آلاف العائلات ترقب خبرا أكيدا يبدد الغموض الثقيل الذي يرافقهم منذ لحظة الغياب، أمنية بخبر واحد يكشف مصير من فقدوا، ليكفوا عن السهر على بوابات الانتظار المنهكة للروح.
يرددون أسئلة موجعة لا إجابة لها: هل من خبر؟ هل من جثة نتعرف إليها؟ هل من قبر نضع عليه ورودا ودعاء؟ شهور طويلة مرت وهم يبحثون عن أثر، يفتشون بين الوجوه، وبين روايات الناجين.. ولكن دون جدوى. عائلات أنهكها الوجع المغلف بانتظار مرير، ومع ذلك لا يزال في قلوبهم بقية من أمل، أمل يرفض أن يترك أسماء أحبتهم معلقة بين الحياة والموت، وإن كان فلتكن الحياة مصيرهم.
بلغة الأرقام، فإن عدد المفقودين في غزة سواء تحت الأنقاض أو اختفوا في ظروف غامضة، وانقطعت أخبارهم، يصل ل11 ألف مفقود، وفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
مؤخرا، تسلمت وزارة الصحة في غزة 315 جثمانا، لم يُتعرف منها سوى على 35 فقط عبر علامات جسدية بقيت صامدة رغم كل تعرضت له، أما البقية فظلت أجسادا مجهولة تنتظر اسمًا تعريفيا.
تتوافد العائلات المكلومة إلى المكان، تحمل صور أبنائها بقلوبها وتسأل بعيون أرهقها الانتظار: هل من أثر؟ لكن معظم الجثث كانت قد عُذبت حتى اختفت ملامحها، وتحول البحث عن مفقود إلى رحلة موجعة بين عشرات الوجوه التي لم تعد تشبه أصحابها.

نور محمد (اسم مستعار)، واحدة ممن أرهقتها نيران الأسئلة، عامين من الحيرة، هل هو شهيد؟ هل هو أسير؟ أين رفيق روحي وشقيقي؟ فقدت شقيقها في السابع من أكتوبر، لتصادق الحزن رفقة كل العائلة كظلها، من شخص لشخص بدأت عمليات البحث تعددت الإجابات، وفي اليوم التالي وصلهم خبر استشهاده، فتساْلوا عن جثمانه؟ لينفى الخبر لاحقا من رفاق درب كانوا معه.
قبل سنوات، التحق الأخ بصفوف المقاومة رغم رفض والديه، لكنه أصرّ على المضي في طريق آمن أنه قدره. تقول شقيقته نور بصوت متهدّج: "كان مؤمنا بالمقاومة حتى آخر نفس. يعمل بلا كلل، حتى شغلته الجبهات عنّا، فلم نلتق منذ شهرين قبل الحرب. تحدثت معه قبلها بيوم واحد، واتفقنا أن نلتقي عصر الثامن من أكتوبر. تلك كانت آخر مكالمة بيننا، وظلّ الوعد معلّقا في الهواء".
منذ غيابه، تعيش عائلته على انتظار خبر يقيني عنه؛ فإن كانت الشهادة فليكن، لكنهم يريدون أن يعرفوا مصيره.
منذ غيابه، تعيش عائلته على انتظار خبر يقيني عنه؛ فإن كانت الشهادة فليكن، لكنهم يريدون أن يعرفوا مصيره. كان شبّان ملثمون يأتون بين حين وآخر إلى شقيقه، يهمسون: "أخوك حيّ يُرزق"، ثم يختفون سريعا، فيورق الأمل في قلوبهم من جديد. تعددت الروايات حوله؛ قيل إنه في الأنفاق، وقيل إنهم رأوه مصابا في السجون، وازدادت النار اشتعالا في قلب والديه كلما تضاربت الأقاويل. إلى أن بدأت جثامين الفلسطينيين التي كان يحتجزها الاحتلال تتوافد تباعا، فارتجف قلب العائلة بين رجاء لا ينطفئ وخوف لا يهدأ.
تضيف نور وهي تنظر لصورتهما معا مرتجفة: "لم أجرؤ على الذهاب أنا وعائلتي لمشفى ناصر للبحث عنه بين الجثامين المعذبة، كنا خائفين جدا، إلى أن قيل لنا من أحد أصدقائه هذه جثته انظروا للصورة، ارتعشت هل هذه النهاية حقا؟ لا شق الروح لن يتركنا".
أجبرت نور نفسها على النظر للصورة، صرخت للوهلة الأولى من المنظر الماثل أمامها، كان المشتبه به جثة متفحمة، لونها أزرق غامق، مصاب في ظهره بطلق ناري فبدا الجرح دائريا كبيرا، وأصبع مقطوع، ووجه منتفخ، وأنف معوج من التعذيب.
تردف بصوت متحشرج: "أخرجت عدة صور قديمة له، وبقيت لساعات أقارنها بالصورة المعذبة الماثلة أمامي على شاشة الهاتف، شكل الأذن، الرأس، الأكتاف، فأيقنت أنه هو شقيقي، فكانت الخطوة التالية التوجه لمشفى ناصر مع عائلتي لرؤية الجثة على أرض الواقع للتيقن أكثر".
أجبرت نور نفسها على النظر للصورة، صرخت للوهلة الأولى من المنظر الماثل أمامها، كان المشتبه به جثة متفحمة، لونها أزرق غامق، مصاب في ظهره بطلق ناري فبدا الجرح دائريا كبيرا، وأصبع مقطوع، ووجه منتفخ، وأنف معوج من التعذيب.
كانت تنوي نور بالاتفاق مع أشقائها إخفاء الخبر عن والدتها، وعدم إدخالها في دوامة التعرف على الجثمان، فرفض والدهم ذلك، وحين أخبروها دخلت في نوبة انهيار شديدة، لتتوجه رفقة والدها إلى المشفى للتأكد، فوجودهم قد دفنوا كل الجثث لكن أخبروهم بوجود صور مفصلة أكثر عن التي شاهدوها، فقالت: "مش ابني.. أنا ابني عايش". كانت قواطع الأسنان فوق بعضهما أما ابنها كانت أسنانه صفا واحدا.
تكمل نور وهي تمسح دمعة متمردة بيديها المرتجفة: "أكدت لعائلتي أنها جثة شقيقي لكن والدي رفضا التصديق، حاولت إقناعهما أن الأسنان ربما تكون تغيرت مع الانتفاخ الحاصل للجسد، ولكنهما مصران على أن هذه الصور لا تعود لشقيقي".
عرضت العائلة الصور على رجل يعمل في القضاء، وأكد أنه ليس هو والأسنان فيصل في التأكيد، لكن نور ما تزال مصرة على أنه هو، تقول: "يعز عليّ أن أؤكد أن الجثة المعذبة تعود لشقيقي الذي كان بمثابة توأمي والحارس لي، لكني موقنة بذلك، ورؤى أختى في المنام تؤكد ذلك، إذ يأتيها في المنام ويقول: احكي لأمي بكفي عياط.. خلص ما تدوروا عليا".

على نحو مشابه، تقف إسراء العرعير في باحة مشفى ناصر جنوبي قطاع غزة، لتفقد جثامين الشهداء التي سلمها الاحتلال للصليب الأحمر، يدق قلبها بطريقة مروعة، تحاول السيطرة على تنفسها لكن لم يحدث، تهز قدميها بعنف وهي تتناوب بين الجلوس على الكرسي الحديدي البارد والسير للأمام قليلا، إلى أن بدأت الشاشة بعرض صور الجثامين.
تقول بينما تضع يديها على قلبها النابض بقوة: "كان مطلوبا مني التركيز للبحث عن جثمان زوجي ياسر وشقيقي ضياء، أبحث عن علامات معينة في كل الأجساد لكنني لم أجد أي علامة تدلل عليهما، كانت الجثث معذبة بشدة، كثير منها حُشيت أفواهها بالحجارة والرمل والمسامير، وجزء كان معصوب العينين، ومكبل اليدين، وآخرون بترت أطرافهم، كان المشهد مروعا".
تقف إسراء العرعير في باحة مشفى ناصر جنوبي قطاع غزة، لتفقد جثامين الشهداء التي سلمها الاحتلال للصليب الأحمر، يدق قلبها بطريقة مروعة، تحاول السيطرة على تنفسها لكن لم يحدث، تهز قدميها بعنف وهي تتناوب بين الجلوس على الكرسي الحديدي البارد والسير للأمام قليلا، إلى أن بدأت الشاشة بعرض صور الجثامين.
فقدت إسراء الاتصال بزوجها وشقيقها منذ اليوم الأول للحرب، ومنذ ذلك اليوم تعددت الروايات، لكن لا شيء مؤكد، كل الأخبار تعتريها الغموض، تضيف بصوت باك: "حتى لو كانوا شهداء، أريد جثامينهم، أود أن يكون لهم قبرا نزوره كلما مسنا الشوق والحزن، سنبقى عالقين لآخر العمر في الانتظار على أمل العودة، وهذا أقسى شيء".
تعود بذاكرتها للقاء الأخير مساء الجمعة 6 أكتوبر 2023، كان لقاءا عاديا طبيعيا، ثم غادر ولم تعلم الوجهة، هاتفته في تمام الواحدة فجرا لتخبره أن عبير ابنتهما مصابة بالحمى، فقال: "سآتي في الصباح الباكر". لتستيقظ على أصوات الصواريخ، ركضت لمنزل جارتها لتعرف ما الأخبار، حاولت الوصول له لكن الاتصال ظل عالقا منذ تلك اللحظة ليمتد لعامين ونيف، لا تعلم إسراء كيف مرا عليها وهي تحتمل ألم فقد الزوج والشقيق.
وبينما تنفي صلتها بالجثمان أمامها، شاهدت ثلاث عائلات تتشاجر على جثة واحدة، لتبكي على حالها وحالهم.
منذ توافد الجثث لمشفى ناصر، تذهب إسراء كل مرة، في إحدى المرات تأكدت من الصور أن الجثة لزوجها، لكن عند استلام الجثمان قالت: "ليس هو". وبينما تنفي صلتها بالجثمان أمامها، شاهدت ثلاث عائلات تتشاجر على جثة واحدة، لتبكي على حالها وحالهم.
تردف بألم: "قالوا لي توقفي عن رؤية الجثث المعذبة، لأجل صحتك وطفلتك، لكني رفضت مناقشة الأمر، فماذا لو كان ياسر وضياء بين الجثث ولم يتعرف عليهما أحد هل سيدفنا ضمن الجثث مجهولة الهوية، لا والله لا أرضاها، سأظل أبحث حتى أجدهما وأكرمهما بالدفن، سأجعل لابنتي قبر لوالدها كلما أردات ذهبت لزيارته".

أما حنان أبو دوانين زوجة المفقود عبدالله، والذي فقدت آثاره في أكتوبر 2023، تناديه منذ يوم الفراق، بأن يأتي، فإن أتى يا مرحبا، وإن كان شهيدا، فهنيئا له ما طلب، على مدار عامين وصلتها أخبار عديدة منها ما قال إنه حي وآخرون قالوا شهيدًا بإذن الله.
تقول بصوت متهدج: "عامين وأنا أواسي نفسي ب "لعل"، علها تخفف حرقة الغياب، أقول لعله أسير هناك يصمد بصمته كما كان صامدا بصوته، لعله جريح ما زال يقاتل لأجل الحياة، ولعله نال ما تمنى فارتقى شهيدا واحتضنته السماء".
مؤخرا، وعند تسليم الجثامين، لم تقوَ حنان للذهاب لمشفى ناصر، ففضلت البحث عن وجه زوجها عبر الرابط الذي أطلقته وزارة الصحة ووضعت عليه صور الجثامين بأرقام محددة، لتولج لرؤية الصور، لترتاح لو وجدت جثمانه، لتكرمه بقبر معروف.
أثناء عملية البحث الموجعة، وقع قلبها بين قديمها وهي قدميها وهي ترى صورة لشخص بلحية تشبه لحية زوجها، تمعنت لدقائق، وسألت نفسها: "هل هو؟" فدققت في الملابس والهيئة فلم يكن هو.
تضيف وهي ترتجف: "كنت أفتش بعيون شاخصة وأصابع باردة مرتجفة بين كم من الصور لبقايا جثث شهداء، وجوه بالكاد تظهر ملامحها، أسنان، أيادي، ملابس، أقدام لحمها مفصول عن عظمها، أبحث عن أي شئ يخصني من بين مقبرة الصور والجثث، دققت النظر وتأملت الأيدي والملابس وكل شيء، لكنه لم أجده".
أثناء عملية البحث الموجعة، وقع قلبها بين قديمها وهي قدميها وهي ترى صورة لشخص بلحية تشبه لحية زوجها، تمعنت لدقائق، وسألت نفسها: "هل هو؟" فدققت في الملابس والهيئة فلم يكن هو.
تربي حنان طفلتين لوحدها الأكبر نسرين، والصغرى نسرين التي ولدت في غياب والدها فلم تعرفه إلا من الصور، تردف: "لا تمل نسرين عن سؤالها عن والدها وموعد عودته، حتى أنني يأست وأخبرتها أنه ينتظرنا في الجنة، لكنها رفضت تماما فكرة رحيله وقالت: "إن شاء الله يرجعلنا بالسلامة"، بينما أنا ما زال صوته يتردد في أذني: "طول ما أنا معك لا تشيلي هم".
في غزة، يبقى المفقودون أكثر من أسماء على قوائم، كل اسم مفقود ليس مجرد رقم، بل قصة حياة توقفت فجأة، وأمل تعلق في السماء ينتظر أن يتحقق بالعودة، تنتظر العائلات اللقاء، وأن يزول لفظ مفقود للأبد، أن يقال عنهم "عائلة العائد الناجي بعد الغياب القسري"، أو أن تطفيء نارهم بمعرفة المصير إما شهادة أو إصابة أو اعتقال، أي خبر يزيل الغموض وحرقة القلب الممتدة.