وهم المناعة الإسرائيلية.. من الغطرسة إلى الانهيار
1 ديسمبر 2025
أعاد الهجمات الإسرائيلية على غزة والضفة إلى سوريا وجنوب لبنان، صورة المنطقة المتشققة تحت ثقل القوة والغطرسة إلى الواجهة. فصور المباني المحترقة، والصرخات الخارجة من بين الركام، ليست جديدة على سوريا ولينان، وبدا الدمار نسخة أخرى من المشاهد التي اعتاد العالم رؤيتها في غزة، هياكل إسمنتية سوداء، غبار كثيف، أحياء تُدفن تحت الأنقاض، وألعاب أطفال تنتشلها فرق الإنقاذ.
على مدى عقود، رسّخت إسرائيل قناعة داخل جمهورها بأن القوة وحدها قادرة على ضمان البقاء، وبأن الجوار العربي والإقليمي لا يُفهم إلا عبر التهديد والعنف. وهكذا بُنيَت سردية "النصر الكامل" التي وُعد بها الإسرائيليون منذ أكثر من 80 عاما: القضاء على الفلسطينيين، تحطيم حماس، سحق لبنان، تدمير قدرات إيران، ثم ينفتح الطريق إلى الفردوس الموعود. غير أن كل "نصر" من هذه الانتصارات لم يخلُ من ثمن باهظ، بل تحوّل إلى فخّ جديد يعمّق عزلة إسرائيل ويزيد منسوب العداء ضدها.
فالنكبة عام 1948، خلقت أزمة اللاجئين التي لا تزال عصية على الحلّ، ومهّدت لنظام فصل عنصري. وحرب عام 1967، أطلقت شرارة احتلال طويل ما زال يواجه بالمقاومة الفلسطينية حتى اليوم. أما حرب أكتوبر 2023، فقد انحدرت إلى مجزرة وحصار وحرب إبادة جعلت إسرائيل موضع إدانة عالمية. وكل هذه المسارات تغذي منظومة عسكرية تحوّلت إلى أداة عمياء للدمار، تستعرض قوتها في عمليات استعراضية وتنفّذ سياسات حكومة مهووسة بالانتقام، دون امتلاك رؤية للخروج من دوامة الحرب.
حتى جاء السابع من أكتوبر ليحطّم وهم المناعة الكاملة. غير أنّ المجتمع لم يتعامل مع الحدث بوصفه جرس إنذار، بل انزلق فورا إلى رغبة انتقام تُعيد صياغة "النظام" القديم: إسرائيل تقتل، الفلسطينيون يموتون.
لقد أقنعت المؤسسة العسكرية المجتمع الإسرائيلي بأنه فوق المحاسبة وفوق الألم. عبادة الجيش من جهة، واحتقار الجوار من جهة أخرى، ولّدا شعورا زائفا بأن إسرائيل لا تدفع ثمنا مهما بلغت جرائمها. حتى جاء السابع من أكتوبر ليحطّم وهم المناعة الكاملة. غير أنّ المجتمع لم يتعامل مع الحدث بوصفه جرس إنذار، بل انزلق فورا إلى رغبة انتقام تُعيد صياغة "النظام" القديم: إسرائيل تقتل، الفلسطينيون يموتون.

غير أن سقوط الصواريخ على مدن إسرائيلية مثل رامات غان، ريشون ليتسيون، بات يام، تل أبيب، وطمرة، أعاد مشهدا لم يتوقعه الإسرائيليون: مدنهم تتشابه - ولو جزئيا - مع المدن التي دمّروها. وهذا التشابه كشف هشاشة الرواية الداخلية القائمة على التفوق المطلق، وأظهر أن فكرة "المناعة الدائمة" ليست سوى وهم. والحرب ليست ملعبا لطرف واحد، وأن الدمار حين يُطلَق يتحرك بلا اتجاه. لقد أحدثت هذه الصور شرخا في الوهم الإسرائيلي القديم بأن الدولة "مُحصّنة" ضد الألم، وأن الخراب قدرٌ لا يطال سوى الآخرين.
إن الخطر الأكبر الذي يهدد إسرائيل اليوم، يكمن في الغرور الأعمى الذي سيطر على المجتمع الإسرائيلي: وهم القوة المطلقة، ووهم الجيش الذي لا يُهزم، ووهم القدرة على البقاء في الشرق الأوسط بلا ثمن.
كان هناك زمن أدرك فيه بعض القادة في إسرائيل أن استمرار وجود الدولة لا يمكن أن يقوم على القوة وحدها. فقد قال إسحاق رابين يوما: "أمة تشدّ عضلاتها لخمسين عاما لا بد أن تتعب عضلاتها". أما اليوم، يحتفي اليسار الصهيوني بضرب سوريا ولبنان وإيران، ويعيد إنتاج الوهم القديم بأن الجيش قادر على حماية الدولة مهما كانت سياساتها تدميرية. بل إنه على نحو مفارق، أكثر تمسكا بنظرية "المناعة العسكرية" من اليمين الذي يتعامل مع الجيش كأداة تنفيذ للتطهير والتهجير.
إن الخطر الأكبر الذي يهدد إسرائيل اليوم، يكمن في الغرور الأعمى الذي سيطر على المجتمع الإسرائيلي: وهم القوة المطلقة، ووهم الجيش الذي لا يُهزم، ووهم القدرة على البقاء في الشرق الأوسط بلا ثمن. شعب يبني وجوده كله على السلاح، يسير بخطى ثابتة نحو العتمة والهزيمة.