الصحفي عليان: من عتمة السجن إلى خيام النزوح
29 نوفمبر 2025
لم يكن استهدافُ الصحفيين في غزة مجرّد رصاصة تطفئ صوتا حرّا، بل كان مطاردة لروح تتنقّل بين الخراب كي تشهد وتكتب وتنقل الحقيقة من بين الركام. فالحرب هناك لا تكتفي بخطف البيوت والأحلام، بل تمتدّ يدها إلى الكلمة نفسها، تُطاردها في الأزقة، وتقتلعها من دفاترها، وتجرّ أصحابها إلى عتمات لا يصلها صدى الكاميرات ولا ضوء الأقلام.
في هذا المشهد المثخن بالنار، يبرز نضال عليان كأحد الذين حملوا أمانة الحرف بإصرار لا يلين، وهو الذي ظلّ يكتب سنوات طويلة دون أن يتعثّر يوما، قبل أن يُختطف صوته فجأة ويُودَع خلف القضبان عاما كاملا. اعتُقل نضال عند حاجز أقامه الجيش الإسرائيلي بين جباليا ومدينة غزة في أكتوبر الماضي، في لحظة تحوّل فيها الطريق من ممرّ إلى مصيدة، ومن معبرٍ للنجاة إلى بوابةٍ للغيب.
ويروي عليان تلك اللحظة قائلا: "توغلت قوات الاحتلال في مخيم جباليا بشكل واسع، ووجدنا أنفسنا محاصرين تحت ضرباتٍ مكثفة. ثم ظهرت طائرة مسيّرة تأمرنا بإخلاء المنطقة، فالتزمنا بالتوجه نحو الحاجز. وما إن وصلت، حتى طلب مني الجنود التوجه نحو دورية خاصة بهم، ومن تلك اللحظة بدأتُ رحلة المعاناة".
ثم يُكمل: "جُرّدت من ملابسي، وعُصبت عيناي، وكُبّلت يدَيّ، وحُرمت من الطعام والشراب. حتى شربة الماء، كنا نُمنع منها أكثر من 24 ساعة".

نقل نضال عليان إلى سجن "سيدي تيمان"، ذاك الاسم الذي تحوّل في شهادات المعتقلين وتحقيقات المنظمات الحقوقية إلى مرادفٍ للفزع والعتمة. هناك، أمضى قرابة شهر كامل، خضع خلاله لتحقيق قاس كُسرت فيه الحدود الأولى للإنسان، خاصة بعد أن اكتشف ضباط المخابرات طبيعة عمله الصحفي.
يقول عليان: "بمجرد أن علم الضابط أنني صحفي، تعامل معي كإرهابي. ووجّه إليّ تهما تتعلق بالإرهاب ودعم منظمات إرهابية. انعكس هذا الاتهام على كل لحظة في التحقيق؛ تهديدات بالقتل، شتائم لا تنتهي، وترهيب يتجدّد كل يوم. كانت قوات القمع تقتحم المكان يوميا للضرب والتنكيل والتفتيش، ويرشّوننا بغاز الفلفل كأننا أجساد بلا قيمة".
بعد شهر من هذا الجحيم، نُقل عليان إلى سجن "نفتالي" بين الناصرة وطبرية، حيث مكث شهرا ونصفا قبل أن يُعاد مجددا إلى "سيدي تيمان". هناك، قضى شهرين وصفهما بأنهما الأقسى في حياته؛ شهران تزامنا مع برد يناير ومارس، حيث لا أغطية، ولا ملابس، ولا ما يُقاوم الليل الطويل سوى بلوزة وبنطال واحد. يقول: "كنّا نرتجف من شدة البرد. لا دفء، لا علاج، لا شيء. أصابتنا الإنفلونزا وأمراض البرد جميعها، ولم يحظَ أحدٌ بجرعة دواء واحدة".
انقطاع الأخبار كان قاتلا… فكيف لأسير صحفي، لم ينقطع يوما عن متابعة الأحداث ونقلها، أن يُحرم من المعرفة لعام كامل؟
ثم نُقل إلى سجن "النقب الصحراوي"، حيث أمضى سبعة أشهر أخرى تحت إدارة "الشاباص". وهناك، فهم عليان أن سياسة السجّان واحدة، تتكرر بوجوه مختلفة: انعدام الرعاية الطبية، انتشار الأمراض الجلدية، الألم الذي يُترك عمدا ليشتعل دون علاج. بل إن طبيب السجن نفسه كان يسخر من أجساد الأسرى المنهكة قائلا: "هل يوجد أحد ميت؟ هل هناك من يريد أن يموت؟!"
ورغم كل أشكال التعذيب التي تعرض لها، إلا أن أقسى الضربات لم تكن على جسده، بل على قلبه. فغيابه القسري عن غزة كان الجرح الذي لا يندمل. يقول عليان: "كنت أكاد أضرب رأسي بالحائط من شدة القلق على عائلتي. كانت الأخبار تصل متضاربة، وكان الضباط يتعمدون ذلك لنبقى في دوامة خوف مستمرة. انقطاع الأخبار كان قاتلا فكيف لأسير صحفي، لم ينقطع يوما عن متابعة الأحداث ونقلها، أن يُحرم من المعرفة لعام كامل؟!"

يستعيد نضال عليان أكثر اللحظات قسوة التي مرّ بها داخل المعتقلات، وتحديدا تلك التي سبقت حريته بثلاثة عشر يوما، حين اجتاحت قوات القمع قسم ثمانية في سجن النقب بعنف غير مسبوق. يقول وهو يسترجع المشهد كأن النار لا تزال تحت جلده: "باغتونا بالعشرات، وفتحوا أنابيب الغاز باتجاهنا حتى اختنق الهواء في صدورنا. ثم بدأ الرصاص المطاطي يُطلق مباشرة على أجسادنا. ربما كنت من أكثر من أصيبوا ذلك اليوم؛ ثلاث طلقات أصابتني بقسوة جعلتني أرى الموت يمرّ أمامي. نزفت كثيرا، ويمكنني القول إني غادرت إلى غزة ودمائي لا تزال على حائط سجن النقب".
كان الأسرى يعيشون في عزلة كاملة عن العالم، لا يعرفون ما يجري خارجه ولا يتوقعون شيئًا. لذلك جاء قرار الإفراج مثل صدمة باردة. أُبلغ عليان به قبل ثلاثة أيام فقط، حين استدعاه ضابط في السجن وأخبره بالقرار، قبل أن يطلق تهديده الأخير: "أعلم أنك صحفي تعمل في غزة. إذا عدت إلى عملك، فلن نعيدك إلى السجن، ستذهب مباشرة إلى المقبرة".
وبين الخوف والرجاء، جاءت لحظة الحرية. خرجوا واحدًا تلو الآخر، وفي عيونهم سؤال واحد: هل سنجد عائلاتنا بانتظارنا؟ يقول عليان: "لا شيء يشبه تلك اللحظة، لحظة أن ترى الوجوه التي اشتقت إليها عاما كاملا. لم أكن أعلم شيئا عن مصيرهم. وحين رأيتهم بانتظاري شكرت الله كثيرا، لكن المفاجأة كانت مؤلمة، لقد وجدتهــم يعيشون في الخيام، بعدما دُمّر منزلنا ومنزل عائلتي، ولم يبقَ لنا سوى قطعة قماش نحتمي بها من الليل والريح".
وبين الخوف والرجاء، جاءت لحظة الحرية. خرجوا واحدًا تلو الآخر، وفي عيونهم سؤال واحد: هل سنجد عائلاتنا بانتظارنا؟
خرج عليان، لكن خلف الأسوار بقي مئات الأسرى الذين يواجهون السياسات ذاتها: تعذيبٌ يومي، إهمال طبي، ظروف اعتقال أشبه بالموت البطيء. تُستغل هشاشتهم الصحية والنفسية للضغط عليهم بلا توقف، فيما يحتاجون إلى دعمٍ حقيقي يفضح ما يمرّون به ويمنحهم بعضا من الأمل.
وعن رسالته للعالم، يقول بنبرة يختلط فيها اليأس بالعزم: "كصحفي، أعتقد أن كل الرسائل التي كان يجب أن تُقال… قد قيلت. لكن هذا العالم أغلق عينيه عن معاناة شعبنا، وصمّ أذنيه عن حقنا في الحياة. لذلك، لا رسائل جديدة يمكن أن تُقال لعالم جاحد كهذا".
انتهت ليالي السجن التي ابتلعت عامًا من عمر الصحفي نضال عليان، لكن آثارها لا تزال تتبعه في كل خطوة. قصته ليست حدثا فرديا، بل مرآة لواقع أشد قسوة على الصحفيين في غزة، حيث تتحول الحقيقة إلى تهمة، وتتحول المهنة إلى خطر يستحق العقاب. وبرغم التهديدات التي لاحقته حتى لحظة الإفراج، يظل الصوت الحر يقاوم، يشق طريقه من بين الركام والخيام ليذكّر العالم بأن الحقيقة تُطارد لكنها لا تُقتل، وأن الحرية مهما طالت آتية لا محالة.