الضّم الزاحف يلتهم الضفة الغربية
26 نوفمبر 2025
في الضفة الغربية، الخطر يقترب من كلّ اتجاه. من الطرق الالتفافية التي أُغلقت، إلى بيوت اقتُلعت، إلى مخيمات أُفرغت من سكانها. هناك، في تلك البقعة التي أثخنتها الجراح منذ عقود، يعيش الناس أياما تختلط فيها الدموع بالغبار، والقلقُ بصوت الرصاص، وتصبح العودة إلى البيت كل مساء ضربا من الحظ.

ومع انشغال العالم بما يجري في قطاع غزة، تتشكل في الضفة جريمة أخرى تسير ببطء، وبيد لا تخجل من إعلان نواياها. فالمشهد ليس سلسلة اعتداءات متناثرة، بل مسار طويل من الضمّ الزاحف الذي تُستخدم فيه قوة المستوطنين وعنف جيش الاحتلال لإعادة رسم الجغرافيا والديمغرافيا معا. وما يحدث في البلدات والمخيمات لا يمكن النظر إليه خارج سياق سياسي أكبر، حيث تتقدم إسرائيل نحو تثبيت سيطرة دائمة على الأرض عبر الاستيطان والتهجير، في انتهاك واضح لكل قواعد القانون الدولي.
مع انشغال العالم بما يجري في قطاع غزة، تتشكل في الضفة جريمة أخرى تسير ببطء، وبيد لا تخجل من إعلان نواياها
المحامية الحقوقية الأميركية أليغرا باتشيكو تؤكد أن إسرائيل ضمّت فعليا 70 كيلومترا مربعا من شرقي القدس ومناطق أخرى في الضفة، وأن 53 تجمعا - معظمها بدوي - تمّ تفريغها بالكامل أو جزئيا، بعدما هاجم المستوطنون سكانها وأحرقوا بيوتهم. وتضيف أن أكثر من 35 ألف فلسطيني شُرّدوا منذ مطلع هذا العام من مخيمات جنين وطولكرم وغيرها، في موجة نزوح جماعي تعيد إلى الذاكرة أبشع فصول التطهير العرقي.

وتتسارع عمليات الضمّ على الأرض عبر توسع استيطاني غير مسبوق. فقد ارتفع عدد البؤر الاستيطانية الجديدة إلى 84 خلال عام واحد فقط، وهو رقم يعكس شهيّة سياسية أكبر تتجاوز السيطرة العسكرية إلى إعادة هندسة الضفة ديمغرافيا وجغرافيا، وتقسيمها إلى كانتونات محاصرة لا يمكن أن تنمو أو تتصل ببعضها. وفي الوقت نفسه، تُستخدم سياسة التهجير القسري كأداة ترهيب وعقاب، تماما كما حدث في مخيمات الشمال، لكي تُصاب باقي المخيمات بالذعر، ولكي يتفادى السكان المصير نفسه قبل أن يُجبروا على ذلك.
هذه السياسات لا تُنتج تهجيرا داخليا فحسب، بل تدفع الفلسطينيين نحو الهجرة الخارجية مع ازدياد الضغط على الموارد والخدمات، وانعدام الأمان، وتراجع قدرة السلطة على احتواء موجات النزوح المتلاحقة. وهكذا تتكامل حلقات الطرد غير المباشر، بينما تتقدم إسرائيل نحو مشروعها الأكبر: أرض بلا فلسطينيين، أو بفلسطينيين محاصرين عاجزين عن البقاء.
هنا، في هذا المكان الذي تلتقي فيه الذاكرة بالقهر، يكتب الفلسطينيون فصلا جديدا من صمودهم، حتى وإن كان العالم لا يسمع سوى صدى الخطوات التي تغادر تحت التهديد.
وتحذّر وكالة "الأونروا" من وضع إنساني غير مسبوق في الضفة منذ عقود، حيث ما يزال 12 ألف طفل نازحين قسرا، فيما قُتل 47 طفلا هذا العام وحده. أما مركز "بتسيلم" الحقوقي فيصف واقع الضفة بأنه "كارثي على حياة الفلسطينيين"، مؤكدا أن إسرائيل قتلت 1003 فلسطينيين منذ أكتوبر 2023، في استمرار لمسار دموي لا ينفصل عن الاستيطان والضم القسري.
وفي ظل هذا كله، يتضح أن الضفة الغربية لا تواجه مجرد اعتداءات متقطعة أو ضغوط أمنية مرحلية، بل مشروعا بنيويا يستهدف الأرض والبشر معا. وما لم يقف العالم أمام هذا التحول العميق، فإن الضفة لن تخسر أراضيها فقط، بل ستخسر حياة كاملة كانت تنبض بين جبالها ووديانها وبيوتها المتعبة. هنا، في هذا المكان الذي تلتقي فيه الذاكرة بالقهر، يكتب الفلسطينيون فصلا جديدا من صمودهم، حتى وإن كان العالم لا يسمع سوى صدى الخطوات التي تغادر تحت التهديد.