لماذا يتهاوى المشروع الاستيطاني رغم توسعه؟
20 نوفمبر 2025
كأن إسرائيل تتحرك بلا قاع، مشروعٌ ينهش الأرض والعائلة والذاكرة كما لو أن الجغرافيا وليمة لا تنتهي. تمتدّ يدها فوق الركام وتحت ظل الأنظمة المطبّعة، بينما الغرب يمدّ لها صوته وسلاحه. بين كل هذا الصخب، يتصدّع المشروع من داخله، ويتعثر في تحقيق أهم ما سعى إليه منذ بدايته: حسم المعركة و"إنهاء المهمة".
فبينما تسارع أنظمة عربية نحو التطبيع، وتمنح الاحتلال شرعية مجانية، تتوالى جرائم الإبادة في غزة، ويتواصل التطهير العرقي في الضفة. وفي كل تفصيل يظهر أن هذا الاستعمار، مهما تمدّد، عاجز عن استكمال مشروعه.

الأسبوع الماضي، أحرق مستوطنون متطرفون مسجدا فلسطينيا في سلفيت شمالي الضفة الغربية، وكتبوا شعارات عنصرية على جدرانه. وفي اليوم نفسه، أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي النار وقتل طفلين فلسطينيين قرب مدينة الخليل جنوبي الضفة. بهذا الفعل، يواصل المستوطنون والجنود تقليدا صهيونيا قديما. فأيديولوجيا الفصل العنصري وما يرافقها من سرقة الأراضي شكّلت الأساس الفكري للصهيونية منذ بدايات القرن العشرين، ومع ذلك لا تُبدي الأنظمة العربية أي قلق بشأن ما يعنيه ذلك لمستقبلها، بل وتسطفّ اليوم لمكافأة إسرائيل عبر تطبيع جديد أو تعميق التطبيع القائم.
يواصل المستوطنون والجنود تقليدا صهيونيا قديما. فأيديولوجيا الفصل العنصري وما يرافقها من سرقة الأراضي شكّلت الأساس الفكري للصهيونية منذ بدايات القرن العشرين
منذ السابع من أكتوبر 2023، قتل الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه أكثر من 1070 فلسطينيا في الضفة، وأصابوا 10,700، واعتقلوا 20,500 فلسطيني. والمستوطنون وحدهم نفذوا 7,154 هجوما وما زال العدد يتصاعد. كما واصلت السلطات الإسرائيلية مصادرة الأراضي وطرد السكان لإفساح المجال لمزيد من المستوطنات. وفي الأشهر الأخيرة، هجّرت إسرائيل 40,000 فلسطيني، ودمّرت منازل وأحياء كاملة، بما في ذلك في مخيمي جنين وطولكرم. بينما يواجه الفلسطينيون في غزة الإبادة، التي خلّفت أكثر من ربع مليون بين قتيل وجريح وأكثر من مليوني لاجئ.

عرف العالم، عبر تجارب الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ومعظم دول أميركا اللاتينية، أن الاستعمار الاستيطاني لا يكتمل إلا عبر الإبادة الشاملة للشعب الأصلي. لكن في فلسطين، ورغم عقود من التهجير، والقتل، والتجريف، ما زال ملايين الفلسطينيين أحياء، ونصفهم يعيش على أرضه. هذه الحقيقة وحدها كافية لتبيّن أن المشروع الاستيطاني فشل في تحقيق غايته الكبرى: إلغاء الوجود الفلسطيني.
ورغم الإبادة في غزة، وتصاعد القمع في الضفة، والدعم الغربي المفتوح لإسرائيل، يبقى المشروع الصهيوني مشروعا غير مكتمل، عاجزا عن "إنهاء المهمة". فالحرب الأخيرة لم تُظهر قوة إسرائيل، بل كشفت هشاشتها السياسية والاقتصادية والعسكرية. بل إن جيشها فشل، رغم عامين من حرب الإبادة، في القضاء على حماس، كما فشل في تحقيق هدفه المركزي: ترحيل سكان غزة خارج فلسطين.
جامعة هارفارد أنشأت أرشيفا سرّيا ضخما لحفظ تاريخ الدولة، في حال توقّفت عن الوجود.
ومع ذلك، تواصل بعض الأنظمة العربية، خاصة الخليجية، المراهنة على "إسرائيل ما بعد الحرب"، وكأن مقاومة شعب كامل يمكن أن تختفي بقرار سياسي، وكأن الفلسطينيين مجرّد رقم قابل للمحو.
ومع مرور 150 عاما على المشروع الصهيوني، لم تستطع الصهيونية ضمان مستقبل دولة تقوم على التفوّق اليهودي. وحتى داخل إسرائيل، تتصاعد المخاوف من الانهيار؛ فالنخب السياسية والاقتصادية تتحدث علنا عن مستقبل قاتم، واليهود يغادرون بأعداد متزايدة، وآخرون يفكرون بالرحيل. إلى درجة أن جامعة هارفارد أنشأت أرشيفا سرّيا ضخما لحفظ تاريخ الدولة، في حال توقّفت عن الوجود.