حين اختطفوا أبي في عتمة الثانية ليلا
19 نوفمبر 2025
بعد الثانية ليلا، دق الرّعب بابنا، كان الصوت مقتضبا ومضغوطا كالصخر، لكنه حمل بين حروفه زلزالا حطّم أمان البيت "افتحوا الباب، جيش"، ليست المرة الأولى، لكنّها مختلفة عن المرات كلها، بل تعادلهن رعبا وخَوفا، كادوا يفجّرون البيت، فتح الباب، بالكاد غطّينا ما غطّينا منّا.
بلا مقدّمات، بأحداث متتالية، سرعتها تشبه الحلم الذي تنساه بمجرد الاستيقاظ منه، كيس أسود، غطّوا به رأس أبي، وسلاسل حديديّة شلّوا فيها حركته، واقتادوه أمامي أنا وإخوتي، دون نظرة أخيرة، دون وداع، دون كلمة بابا، نحوَ المجهول.

لم يعد معلوما مصير الأسير الفلسطينيّ منذ السابع من أكتوبر، كنّا نجول المؤسسات لمعرفة خبر واحد، ونخرج بنظرات الخيبة نفسها، لا أحد يعرف أين هو.
في هذا الوقت نفسه، سمعنا شهادات مروّعة، ضرب وتعذيب، كهرباء، اغتصاب حتى! لم أستوعب، هربت مرارا من المجهول، علّه لا يحصل، علّ صورة الأب في ذهني تبقى سويّة، أنا التي تذمّرت كثيرا من سلطة الأبوين، الآن أريد لسلطة أبي أن تبقى، لا أريد له صورة هشّة، لا يستوعب عقلي أن تتمّ تعريته، هو الذي لطالما ارتجفت الأرض تحت أقدامه، كيف به يرتجف جوعا وبردا لديهم الآن؟
لم يعد معلوما مصير الأسير الفلسطينيّ منذ السابع من أكتوبر، كنّا نجول المؤسسات لمعرفة خبر واحد، ونخرج بنظرات الخيبة نفسها، لا أحد يعرف أين هو.
كنت في دوامي المعتاد، بعد شهر من الانتظار، اتصال مفاجئ من أحد العاملين في قطاع الأسرى، بدأت المكالمة وانتهت في ثانيتين: " 6 شهور إداري"، وكنت أعلم أن سنينا من عمري أنا وإخوتي كانت تحت رحمة لعنة "الإداري"، لم يشهد ولادة ثلاثة منّا، لم يحضر يومي الأول في الصفّ الأول، لم يكن إلى جانبي عندما دخلت غرفة العمليات، عشت أجزاء مبتورة من أبوّته، بسبب الإداري!
كيف سأخبر والدتي؟ وإخوتي؟ كيف أبقى ثابتة، أنا الهشّة من دون سنده، أنا أكبرهم وسندهم من بعده، على دموعي أن تجفّ، وعلى لساني أن ينتقي الأحرف المسكّنة لآلامهم، هذا الكابوس الذي فارقناه منذ سنين، عاد ليرمي طمأنينتنا عرض الحائط، عاد الكابوس وذهب أبي.
ربما كان عزاؤنا حينها، أننا نعرف أنه حي على الأقل، فبعد السابع من أكتوبر، باتت الحياة تستوجب الامتنان، حتى ولو كانت حياة بلا حياة.
علِنا كغيرنا من الآلاف، في دوّامة الانتظار، جلسنا على الموائد، ننتظر أن يمسك ملعقته، لنبدأ الأكل من بعده، وقفنا على أبواب البيتِ ننتظر أن يعود من صلاة الفجر ليصنع كوب القهوة الخاصة به، لكنه لم يعد، ولا ندري متى يعود.
تخرّجت أختي من الثانوية العامّة، بمعدل 95 علمي، كان ينتظر فرحتها بفارغ الصّبر، وكان الخبر ممزوجا بالقهر، فقد بحثت عن حضنه في لحظة إعلان النتيجة، ورغم أنّ الأحضان تتالت تباعا نحوها، إلا أن عيونها كان يملؤها التّيه، شعرت بهذا فبكيت رغما عنّي، فبكينا جميعا بنحيب جماعيّ ومشترك، ونسينا الفرحة بعد لحظات.
علِنا كغيرنا من الآلاف، في دوّامة الانتظار، جلسنا على الموائد، ننتظر أن يمسك ملعقته، لنبدأ الأكل من بعده، وقفنا على أبواب البيتِ ننتظر أن يعود من صلاة الفجر ليصنع كوب القهوة الخاصة به، لكنه لم يعد، ولا ندري متى يعود.
في حضرة هذا الغياب كيف يقوى المرء على نسج ضحكة واحدة حقيقيّة، والغصّة لا تكاد تفارق روحه؟
تتالتِ الأفراح بعدها، لتنقلب عزاء في كلّ مرّة، تخرّجت أختي من تخصص الصيدلة، الذي أفنى لأجله أبي سنين من عمره، فقدّمت الإهداء له أولا: " إلى أبي الذي منعته غياهب السّجن من الحضور"، شعرت بحشرجة صوتها المختنق، وارتجفت لارتجاف يديها، وتوقّف الزّمن في تلكَ اللحظة، "كن فخورا بابنتك"، قالتها بصوت مرتفع تتأمل أن يكون ارتفاعه كافيا ليصنع صدى يخترق السّجن، ليصل إليه، ولم يصل.

بعد السابع من أكتوبر، تحوّل كل شيء إلى ترقّب، أصبحنا نحمل هواتفنا ونحمل وزر الخوف الذي يعيشونه قبل أن نراه، وأصبحنا كعائلة فيها أسير، نفرح لأننا نعيش جزءا من معاناة شعب، لسنا بعيدين عن وجعه.
ما تعريف الحياة هنا؟ حين تفرح الفتاة لكونها جزءا من معاناة شعب؟ وما الشّعور المنطقيّ حيال هذه المعاناة؟
ما عاد فينا شيء طبيعيّ، اعتقلوا كلّ منطقيّة، اقتادوا عقولنا لتفكّر بالأبشعِ، لنشعر بالامتنان تجاه ما نظنّه الأسوأ، بنفسيات مريضة، مَحرومة، موؤودة، ننتظر تحرير من نحبّ، ونَخشى على ما تبقّى من أحبّتنا.
هذا الغياب ليس فراغا عاديا، بل هو ثقب أسود يجعلنا نعيش في حضرة صورة معلّقة، وكرسيّ فارغ، واتصال لن يأتي، وعبرات متأرجحة بين الإنكار والحقيقة.
والأقسى من صدمة فراقه هي رحلة البحث والسؤال المرهقة؛ كل اتصال محتمل بالمحامي يتحول إلى جرعة أمل يتبعها خذلان ثقيل.
يبقى الخوف الحقيقي، أن يصبح أبي الخبر الذي أخشاه، وأن ينتهي الانتظار بوجع لا يكتب، في حين أنّني أرفض تصديق أن حكاية بيتنا، قد تنتهي قبل أن تبدأ.
لم تكن هذه التجربة هي الأولى، للأسف كانت الرابعة عشرة إن أحسنت عدّها، لكنّها كانت الأقسى مرارة بتفاصيل يومها الأول، وأنا أعرف جيّدا عند خروجه "إن خرج" كيف ستبدو رحلة التذكّر، وسرد محطّات الألم، ماذا عاش وماذا شهد؟
فبعد السابع من أكتوبر، لم يعد الاعتقال مجرد غياب نتجرّع لوعته بل تحول إلى إعدام بطيء للأمل، بتنا نرجو أن يبقى الغياب غيابا، دون عذابات، دون أن يكون والدي أحد النماذج المروّعة التي أسمع عن تعذيبها، أصبحت أدعو أن لا أكتب خبرا وأنقل صورة عن السّجون، يكون أبي قد عاشها، أو شاهدها.
يبقى الخوف الحقيقي، أن يصبح أبي الخبر الذي أخشاه، وأن ينتهي الانتظار بوجع لا يكتب، في حين أنّني أرفض تصديق أن حكاية بيتنا، قد تنتهي قبل أن تبدأ.