هدنة معلّقة على حافة الدم
17 نوفمبر 2025
لم تُطفئ الهدنة المعلنة في غزة نيران العقاب الجماعي، ولم تُغيّر واقع الخطر الذي يلاحق الناس في كل ساعة. فمنذ لحظة إعلان وقف إطلاق النار، استمرّ سقوط الشهداء، وارتفعت أعداد الجرحى تحت ركام الدمار والجوع والمرض. هدنة بلا أمان، أشبه بخيط رفيع فوق هاوية، أو كستارة رقيقة أمام ريح لا تهدأ.
فقد وثقت المؤسسات الحقوقية ارتقاء عشرات الشهداء منذ بدء الهدنة، معظمهم نتيجة القنص المباشر، أو القصف المتقطّع. كما أصيب المئات بجراح مختلفة، بعضها خطير، في وقت تُمنع فيه الأدوية والمستلزمات الطبية من الدخول، ليصبح كل جرح مشروع شهادة معلّقة.
وعلى امتداد القطاع، ما يزال الغزّيون يعيشون في فراغ قاتل بين صمت المدافع واستمرار استباحة الحياة. ورغم تراجع القصف، فإن شروط القهر لم تتغيّر: الجوع قائم، والمرض ينتشر، والتهجير لا يتوقف، والمساعدات تُحتجز عند المعابر على بعد خطوات من الأطفال الذين يموتون ببطء.

منذ أكتوبر 2023، تكرّرت موجات التهجير القسري، كان آخرها خلال سبتمبر حين أصدرت إسرائيل أمرا بإخلاء كامل مدينة غزة - المدينة التي كانت أصلا على حافة المجاعة - مطالبة مليون إنسان بمغادرة ما تبقى من بيوتهم. كان المشهد موجعا، عائلات تفقد آخر ما بقي لها من أمل، بعد عامين متتالين من العودة والخراب، من إعادة البناء ثم هدمه، من الحداد المتكرر والنجاة المرهقة. كثيرون وصفوا تلك اللحظة بأنها "النهاية".
ومع ذلك، بقي كثيرون حيث هم. بعضهم لم يعد قادرا على النزوح، وبعضهم فضّل الموت في مكانه على حياة تيه بلا قرار. كانت العبارة التي تتردد من أفواههم: "نموت هنا… حتى لو كانت بيوتنا خيمة فوق الركام".
عائلات تفقد آخر ما بقي لها من أمل، بعد عامين متتالين من العودة والخراب، من إعادة البناء ثم هدمه، من الحداد المتكرر والنجاة المرهقة.
وما زاد المأساة عمقا هو الفوضى التي رافقت أوامر التهجير الفورية، حيث ألقت إسرائيل منشورات من الجو وحددت إحداثيات على الخرائط الرقمية، بينما معظم الناس بلا إنترنت ولا شبكة اتصال. أما الجنوب، حيث الجحيم ذاته، كان الأطفال يحرقون البلاستيك لصنع وقود بدائي، فيملأ الدخان الأسود الهواء ورئاتهم، وفي المخيمات التي تفتقر للمرافق الصحية، حفرت العائلات ثقوبا في الخيام لتنجو بما تبقى من كرامتها، فيما اصطفّ الغرباء في طوابير طويلة أمام حمام واحد يعمل في بيت نجا من الدمار.

كل ذلك يحدث بتواطؤ دولي واضح. حكومات ما تزال تزوّد إسرائيل بالسلاح رغم مسؤولياتها القانونية، وتجار يربحون من الجوع والموت. وفي الوقت ذاته، ما تزال مساعدات أساسية كالأرز، والعسل، والصابون، والفوط الصحية وأجهزة تحلية المياه، عالقة في المستودعات على بعد أمتار من جوعى لا يجدون حتى ماءً صالحًا للشرب.
كيف يمكن لوقف إطلاق النار أن يكون نهاية لحرب لم تُنهِ شيئا؟ فالهدنة لم توقف الجوع الذي يفتك بالناس، ولم تؤوِ النازحين الذين تُركوا في العراء فوق ركام بيوتهم، ولم تُخرج أكثر من عشرة آلاف شهيد ما زالوا عالقين تحت الأنقاض.
كيف يمكن لوقف إطلاق النار أن يكون نهاية لحرب لم تُنهِ شيئا؟ فالهدنة لم توقف الجوع الذي يفتك بالناس، ولم تؤوِ النازحين الذين تُركوا في العراء فوق ركام بيوتهم، ولم تُخرج أكثر من عشرة آلاف شهيد ما زالوا عالقين تحت الأنقاض. لا هدنة تُعيد طفولة مزّقتها المجاعة، ولا تُخفّف ألم عائلة لم تجد جثمانا لدفنه، ولا تُداوي صدمة ناج ستبقى في قلبه عقودا. وما دامت هذه الهدنة بلا عدالة، وبلا حماية، وبلا محاسبة، فستبقى هدنة معلّقة على حافة الدم؛ ظلّا خفيفا فوق جرح ينزف، وصمتا لا يوقف الموت بل يُعيد ترتيبه فقط.