كيف غيّرت غزّة معنى الحياة والموت
8 نوفمبر 2025
في غزّة، تحت النار والحصار، يُعاد ترتيب المعنى من جديد. الحياة هناك ليست أخفّ من الموت، بل هي فعلُ صمود يوميّ، والموت – على فداحته – لا يطوي الحكاية، بل يفتح فصلا آخر في كتاب الجماعة؛ الراحلون يتركون إشارات تقول: "من هنا تعبرون إلى الطريق الأوضح". الجنازة ليست رقما في بيان بارد، بل شهادة عدل تُضاف إلى رصيد الأمّة، وتكذيب عمليّ لكلّ محاولة لتحويل الدم إلى إحصاء. لذلك لا يُقدّس الموت لأنّه فاجع، بل لأنّه يرفع منزلة الأحياء: أن يكونوا على قدر الضرورة، وأن يحملوا الأمانة عن الذين مضوا. وغزّة لهذا ليست بقعة على خارطة، بل تجربة إنسانيّة قصوى تُعاد فيها صياغة المفاهيم، ويُقال فيها على الدوام: "كيف يبقى الإنسان إنسانا وسط معادلة النار والدمار؟"

الحياة في غزّة ليست دَورانا رتيبا لليوم، بل ميلاد متكرّر عند كلّ فجر. شمس تخرج من بين الدخان، وأطفال ينهضون من بين الغبار، وأمّ تمسح على رؤوس صغارها كأنّها تقول لهم: "هذا اليوم أمانة أخرى، فاصبروا صبرا جميلا". صار مجرّد البقاء إنجازا؛ فمن يعيش في أرض يلاحقه الموت كظلّه يمارس بطولة هادئة لا تُرى في الشاشات ولا تُدوّنها النشرات. الحياة هناك مقاومة صامتة للتلاشي، وتشبّث بكرامة الإنسان رغم اقتراب المنون. وليست وجودا جسديّا فحسب، بل صحبةُ أرواح يجمعها الألم والأمل؛ ضحكةُ طفل بين الركام، وقنديل صغير في خيمة، ووعاءُ طعام يدور على أكثر من يد، كلها تقول: "ما زلنا أحياء، وما زال للعيش معنى".
يبدأ نهار غزّة بسؤال مباغت: "من بقي؟" العدّ هنا عبادة، وتفقّد الأحياء أحبّ من تفقّد الأرزاق. رسالة "أنا بخير" بعد قصف أو انقطاع للطاقة تعادل فرحا عظيما، وتُقال بلهفة من عرف ضيق الممرّ بين الحياة والموت.
يبدأ نهار غزّة بسؤال مباغت: "من بقي؟" العدّ هنا عبادة، وتفقّد الأحياء أحبّ من تفقّد الأرزاق. رسالة "أنا بخير" بعد قصف أو انقطاع للطاقة تعادل فرحا عظيما، وتُقال بلهفة من عرف ضيق الممرّ بين الحياة والموت. ثمّ يمضي الناس لتأمين قوتهم وهم يدركون أنّ الطريق نفسه قد يصير فجأة طريق شهادة. الأسواق تُفتَح على عجلٍ وتُغلَق على عجل، ورغيف الخبز يسابق صفّارة الإنذار، ودلو الماء يُحمل كأنّه كنز، وابتسامة صاحب المخبز جبر للقلوب. الاجتماع حول طعام قليل في مأوى مكتظّ غايةُ المنى. هذا التدبير المتواضع هو الاقتصاد الحقّ تحت النار؛ هو قول عمليّ: "نحن نُدير القلّة بكرامة، ولا نسمح للجوع أن يكسر الروح".

البقاء في غزّة لم يعد حظّا ولا صدفة، بل اختيار واع يتكرّر كلّ ساعة؛ اختياٌ للأمل بدل اليأس، وللثبات بدل الفرار، وللالتحام بدل التشتّت. كلّ نَفَس يتنفّسه الغزّي شهادةُ حضور أمام آلة تريد محوه أو نفيه، وهو يقول في سرّه: "رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً". والبقاء هناك جماعيّ قبل أن يكون فرديّا؛ فالمرء يبقى لأنّه جزء من بيت وحارة وشعب يتقاسم المصير. حين تُسعف جارة جارتها من تحت الأنقاض، يتجلّى البقاء في صورة رحمة تمشي على الأرض، وحين يقتسم ثلاثة رغيفا واحدا فهم يقتسمون حقّ الحياة، وحين يُؤْثِر مُهجَّر مُهجَّرا مثلَه بمكان أدفأ فهو يقول بفعله: "لن نسمح للشدّة أن تُقسّي قلوبنا". أخطر ما فيه الحرب أن تجعل الناس حجارة، ولذلك يحرس الغزّي ليونته الداخليّة ليظلّ أهلا للحبّ والبكاء والضحك.
البقاء في غزّة لم يعد حظّا ولا صدفة، بل اختيار واع يتكرّر كلّ ساعة؛ اختياٌ للأمل بدل اليأس، وللثبات بدل الفرار، وللالتحام بدل التشتّت.
وحين تضيق الوسائل الماديّة، تتّسع الكلمة. التحيّة في غزّة إعلان بقاء: "السلام عليكم" تعني "ما زلنا هنا، وما زال بيننا عهد". وكلمة "إلى اللقاء" ليست مجاملة بل رجاء صادق بلقاء آخر. الصمت نفسه صار لغة حين عجز اللسان؛ نظرةُ أمّ لأمّ في ملجأ تكفي لتقول: "صبري من صبرك، والله معنا". واللغة هناك مقاومة أيضا؛ طفل يكتب "أمل" على جدار مهدوم يجعل من الكلمة جدارا، وشاعر يتلو على الأنقاض يجعل من الصوت عمودا للنفس، ومن الذكرى جسدا ثانيا للغائب. هكذا تردّ غزّة على العالم الذي يحصي فتقول: "نحن لا نعدّ موتانا، نحن نُسمّيهم، ونحفظ وجوههم، ونُدخلهم في سيرة المكان".

للوقت في غزّة ثِقل خاص. دقيقة تحت القصف أطول من يوم في مدينة آمنة، ولحظة الهدوء كأنّها ومضة رحمة من السماء. لا يُقاس الزمن بالساعات بل بالنجاة: نجونا من غارة فهذه زيادة في العمر، اجتمعنا مساء فهذه نعمة، استيقظ الجميع عند الفجر فالمعركة ما زالت متوازنة. انتظار شاحنة إغاثة واحدة قد يمتدّ، لكنّه عندهم وقت نافع لأنّه انتهى بحفظ الحياة، وكم من زوجة كانت تراقب السماء وتقول: «اللهمّ سلّم». هكذا صار الزمن كائنا محسوسا يُمسكه الخوف تارة، وتُطلقه الإرادة تارة أخرى، وصار الناس يقيسون اليوم بعدد من نجوا لا بعدد الساعات.
للوقت في غزّة ثِقل خاص. دقيقة تحت القصف أطول من يوم في مدينة آمنة، ولحظة الهدوء كأنّها ومضة رحمة من السماء.
وتحت الحصار ينكشف الاقتصاد على حقيقته الأولى: تدبير ما يُبقي الإنسان. الغنيّ في غزّة من يملك خبزا وماء وسقفا، والمترف من بقي له من بيته جدار ونافذة. تعلّم الناس إدارة الندرة فصاروا أهل التكافل؛ يقتسمون ما عندهم كي لا ينقطع ما بقي من حبل الوصل، فينشأ اقتصادُ رحمة يمنع الجوع من أن يصير نهبا، واليأس من أن يصير فوضى، ويجعل من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" قانونا يوميّا. هذا هو الاقتصاد الذي يقدّم الضروريّ ويؤخّر الزينة، ويجعل العطاء أكبر رصيد في خزينة المجتمع، ويحوّل كيس الطحين إلى عملةٍ أخلاقيّة، وجرّة الماء إلى عهد بالشراكة في البقاء.

الموت في غزّة حاضر، لكنّه لم يعد سيّدا مطلقا. تكرّر حتى أَلِفوه، غير أنّه ظلّ موجعا. كلّ رحيل يترك في الروح خدشا، لكنّه يزيدهم إصرارا على صون ما تبقّى. هم لا يُمجّدون الموت لذاته، بل لِما يفتحه من أفق عند الله، ولأنّه شهادة على بقاء القضيّة. يشيّعون الشهداء بوصفهم من أدّى الأمانة، ويُحيون ذكراهم بالتسمية والحكاية وصور الوجوه على الجدران. ومع إيمانهم يرون الموت انتقالا لا فناء، ووعدا بعدل أوسع، ولقاء "عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". بذلك فقد الموت بعض هيبته، وصار جرسَ تنبيه يقول: "اغتنموا ما بقي، فإنّ الطريق ما زال طويلا.
الإنسان هو مركز المعادلة. الصراع في جوهره على بقاء الإنسان وكرامته: هل يبقى أم يُمحى؟ في أزقّة غزّة، حيث الغبار والضوء والدمع، يخرج الإنسان ليقول: "أنا القضيّة وأنا دليلها".
وتبقى الخاتمة: الإنسان هو مركز المعادلة. الصراع في جوهره على بقاء الإنسان وكرامته: هل يبقى أم يُمحى؟ في أزقّة غزّة، حيث الغبار والضوء والدمع، يخرج الإنسان ليقول: "أنا القضيّة وأنا دليلها". الأمّ التي تحتضن أبناءها تحت القصف تُثبت أنّ حماية الإنسان للإنسان هي القيمة الأعلى، وأنّ البيت إذا سقط يُبنى، والمال إذا ضاع يُعوَّض، أمّا الرّوح إذا انكسرت ضاع كلّ شيء. غزّة غيّرت معنى الحياة والموت لأنّها أعادت الإنسان إلى القلب: الزمان لأجله، واللغة لحكايته، والاقتصاد لبقائه، والموت يتحدّاه فلا يسلب جوهره. ومن هناك، من الشريط الضيّق المحاصر، يخرج نداء هادئ يقول للعالم كلّه: إنّ معيار الحضارة ليس ما نبنيه من حجر، بل ما نصونه من روح، وإنّ الإنسان إذا ظلّ قائما في وجه العاصفة فقد انتصرت الحياة، ولو كانت محفوفة بالموت من كلّ جانب. وهذه هي الرسالة التي لا تسقط بالقذائف، ولا تُمحى بانقطاع الكهرباء، ولا بتهشيم صورة الحكاية في شاشات البعيدين.