الهدنة التي لم تصل إلى مستشفيات غزة
5 نوفمبر 2025
على أرضية باردة في أحد مستشفيات مدينة غزة، يرقد طفل صغير من شمال القطاع وقد فَقَد نصف جمجمته بعد أن مزقت شظية حربية رأسه الصغير. كان من المفترض أن ينام هذا الطفل على سرير في قسم العناية المركزة، لكن المستشفى المتهالك لا يملك له سريرًا ولا تجهيزات طبية كافية لرعايته. تحت ضغط الأعداد الهائلة من الجرحى، اضطر الأطباء إلى إخلاء سريره لصالح حالة أخرى أشد حرجا، وأُجبر الطفل على مغادرة جناح العلاج ليستلقي على الأرض في خيمة مؤقتة خارج المستشفى. هناك تفترش والدته الأرض بجواره، تمسح العرق عن جبينه العليل، عاجزةً عن فعل أي شيء آخر لتخفيف ألمه.

غير بعيد عن هذا الطفل، يتقاسم عشرات المرضى المصير نفسه في مستشفيات غزة التي تحولت ممراتها وخيامها المؤقتة إلى عنابر علاج. مرضى بإصابات بالغة، بعضهم خرج لتوّه من غيبوبة إثر إصابة خطيرة في العمود الفقري، ينامون على الأرض تحت أغطية رقيقة في خيام مزدحمة. لا أسرّة كافية ولا أجهزة طبية تفي باحتياجاتهم، فالأقسام القليلة التي ما زالت عاملة بعد الحرب تغصّ بأعداد تفوق طاقتها.
هذه المشاهد القاسية ليست من ذروة الحرب، بل من غزة بعد أكثر من أسبوعين على بدء هدنة إنسانية في 10 أكتوبر. صحيح أن القصف توقف، لكن العاملين في القطاع الصحي يؤكدون أن شيئًا لم يتغير فعليًا في أوضاع المستشفيات. لقد خفّت موجات الإصابات الجماعية التي كانت تتدفق أيام الحرب، لكن الأزمة الصحية بقيت على حالها: نقص حاد في الأدوية والمعدات، ومستشفيات شبه منهارة تكافح للبقاء. وتشير تقديرات طبية دولية إلى أن ما لا يزيد عن عُشر الإمدادات الطبية المطلوبة دخل غزة منذ بدء الهدنة، ما ترك المستشفيات تعاني من فقدان شبه كامل لكل ما تحتاجه.
في أجنحة الأطفال، يعاني العديد من الصغار من نوبات صرع متكررة ناتجة عن الصدمات النفسية وذكريات القصف، لكن الدواء الذي يحتاجونه لوقف هذه النوبات مفقود.
كثير من الأطفال المرضى اليوم يعيشون كابوسًا آخر إلى جانب جراحهم الجسدية، وهو غياب الأدوية الأساسية. في أجنحة الأطفال، يعاني العديد من الصغار من نوبات صرع متكررة ناتجة عن الصدمات النفسية وذكريات القصف، لكن الدواء الذي يحتاجونه لوقف هذه النوبات مفقود. كان شراب كيبرا المضاد للصرع يساعدهم على التحكّم في تلك النوبات، أما الآن فلا أثر له في أي مستشفى.

لا تكاد رفوف الصيدليات تحوي شيئا من الأدوية. من علاجات الأمراض المزمنة الضرورية إلى مسكنات بسيطة كالباراسيتامول، يكافح المرضى يوميا للعثور على أبسط احتياجاتهم الطبية. وحتى إن توافرت بعض الأدوية بكميات ضئيلة، فإن انقطاع الكهرباء المستمر يجعل حفظها تحديا هائلا؛ فالأدوية التي تحتاج إلى تبريد مثل الأنسولين تواجه خطر التلف السريع، مما يعرض حياة مرضى السكري لخطر فوري إذا انقطعت عنهم جرعاتها المنتظمة. وإلى جانب الدواء، أدى النقص الحاد في مواد التعقيم والتنظيف إلى تحويل أجنحة المستشفيات إلى بيئة خصبة لانتشار البكتيريا والفيروسات. بات خطر التهاب الجروح وتسمم الدم يُخيّم على المرضى في غرف تفتقر لأبسط مستلزمات مكافحة العدوى.
رغم الحاجة الهائلة، لا يدخل غزة يوميا سوى قرابة 90 شاحنة بضائع. ومن هذه القوافل القليلة، لا تزيد نسبة الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الإنسانية عن 15%، بينما تحمل البقية بضائع تجارية أغلبها طعاما منخفض القيمة الغذائية.
ويرجع السبب الرئيس وراء هذا النقص الكارثي إلى استمرار القيود الإسرائيلية المشددة التي تمنع دخول القسم الأكبر من الإمدادات. بحجة ما يسمى "الاستخدام المزدوج" للأغراض المدنية والعسكرية، توسعت قائمة المواد المحظورة إلى حد غير مسبوق. قبل أكتوبر 2023، كانت القائمة تضم نحو 1400 صنف ممنوع؛ أما الآن فقد قفز العدد إلى ما يقارب 4000 صنف، تشمل معظم الأجهزة والمعدات الطبية بل وحتى الأدوية وملابس الأطفال.
رغم الحاجة الهائلة، لا يدخل غزة يوميا سوى قرابة 90 شاحنة بضائع. ومن هذه القوافل القليلة، لا تزيد نسبة الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الإنسانية عن 15%، بينما تحمل البقية بضائع تجارية أغلبها طعاما منخفض القيمة الغذائية.
وسط هذا المشهد، تدفع الفئات الأكثر هشاشة الثمن الأكبر، وعلى رأسها ذوو الإعاقة. طفلة صغيرة في غزة فقدت سماعة الأذن الطبية التي كانت تساعدها على السمع عندما اضطرت عائلتها للفرار تحت وابل القصف، ومنذ ذلك الحين يحاصرها الصمت. كانت هذه الطفلة تخضع لجلسات تأهيل وعلاج سمعي، لكن من دون الأجهزة المساعدة باتت عاجزة عن حضور تلك الجلسات، ولا تستطيع حتى مشاركة الأطفال الآخرين في اللعب أو الدراسة. مثلها الآلاف من الأطفال والبالغين الذين حُرموا من الأدوات التي تعينهم على الحياة الطبيعية.
تشير الإحصاءات المحلية إلى أن نحو 58 ألف شخص في القطاع يعيشون مع إعاقة بحلول منتصف عام 2025. من بين هؤلاء، هناك 22,500 فرد يعانون من إصابات دائمة تستلزم إعادة تأهيل ورعاية مستمرة.
ارتفع عدد ذوي الإعاقة في غزة إلى مستويات غير مسبوقة بسبب الحرب وما خلّفته من إصابات دائمة. تشير الإحصاءات المحلية إلى أن نحو 58 ألف شخص في القطاع يعيشون مع إعاقة بحلول منتصف عام 2025. من بين هؤلاء، هناك 22,500 فرد يعانون من إصابات دائمة تستلزم إعادة تأهيل ورعاية مستمرة. ومع نزوح آلاف العائلات أثناء القتال، فقد 83% من الأشخاص ذوي الإعاقة أحد أجهزتهم المساعدة على الأقل – مثل الكراسي المتحركة أو الأطراف الصناعية أو السماعات الطبية – ليجد الكثيرون أنفسهم عاجزين عن الحركة أو التواصل. وبالإضافة إلى ذلك، يواجه نحو 35 ألف شخص خطر فقدان السمع جزئيا أو كليا نتيجة الإصابات وغياب المتابعة الطبية. في ظل هذه الظروف، يصبح غياب الأجهزة المساعدة كارثيا، فبدون الكرسي المتحرك لا يستطيع المصاب الوصول إلى العيادة، وبدون سماعة الأذن الطبية يبقى الطفل الأصم أسير العزلة، عاجزا عن تلقي العلاج النفسي أو التعليم.

وعلى الرغم من حاجة غزة الماسّة للدعم الطبي الخارجي، فإن قلة من الأطباء المتطوعين تمكنوا من الدخول إلى القطاع بسبب القيود ذاتها. كانت إحدى الجرّاحات البريطانيات متوجّهة ضمن فريق إغاثي لدخول غزة يوم 10 أكتوبر، لكن السلطات الإسرائيلية رفضت منحهم الإذن قبل موعد الدخول بساعات معدودة. يصف أطباء متطوعون هذه المماطلة في التصاريح بأنها متعمدة، ويشيرون إلى أن إسرائيل لا تسمح حاليا إلا لخمسة أطباء فقط بالدخول إلى القطاع كل شهر. في المقابل، تُمنح تصاريح الدخول بسهولة أكبر لأشخاص يحملون صفات غير طبية مثل منسقي المشاريع والمديرين اللوجستيين، مما يعني تشديد التدقيق على ذوي المعاطف البيضاء الراغبين في مساعدة غزة.
لا يزال الحصار الصحي يطبق على أنفاس المرضى والأطباء معا، مبقيا جراح الحرب مفتوحة تنزف رغم صمت المدافع.
لم يسلم القطاع الصحي من ويلات الحرب أيضا. فقد طالت القذائف والمواجهات المستشفيات وطواقمها. ولقي نحو 17 ألفا من الأطباء والممرضين والمسعفين حتفهم منذ أكتوبر 2023، كما وقع عشرات غيرهم في الأسر أو فُقدوا خلال هذه الأحداث. خلّف هذا النزيف البشري نقصا حادا في الأطباء المتخصصين، فيما تعمل الأطقم الباقية فوق طاقتها وهي منهكة. تحتاج مستشفيات غزة اليوم إلى جراحي عظام وجراحة ترميمية وغيرهم بصورة عاجلة، إلا أن الحصار لا يترك مجالًا يُذكر لوصول مثل هؤلاء المتخصصين. وهكذا تبقى غرف العمليات مغلقة أمام الكثير من الحالات المعقدة، ويبقى المرضى رهائن الألم والانتظار.
بالنسبة لمرضى غزة وجرحاها، لم تنته الحرب فعليا. فالمشاهد التي تعيشها مستشفيات القطاع تؤكد أن الهدنة الهشة التي أوقفت القصف لم تتحول بعد إلى انفراجة إنسانية. لا يزال الحصار الصحي يطبق على أنفاس المرضى والأطباء معا، مبقيا جراح الحرب مفتوحة تنزف رغم صمت المدافع.