زيتونةٌ تنزف.. موسمٌ تحت سياط الاستيطان
5 نوفمبر 2025
بقدر ما ارتوت أرض الزيتون والزيت بدماء أصحابها بقدر ما كان لتلك الشجرة قدسية خاصة لدى الفلسطينيين. هناك فيلم تسجيلي لقناة الجزيرة الوثائقية اسمه فيلم فلسطين 1920 يتحدث فيه المسن إسماعيل أبو شحادة عن والده الذي مات قهرا وكمدا- أو كما قال "فقعا" - لرؤيته خلع الاحتلال لشجر زرعه في أرضه وقلبه منذ عشرات العقود. هذا الارتباط المعقد والمتجذر في قلب كل فلسطيني اتجاه أرضه عموما واتجاه شجر الزيتون خصوصا يستحق أن يُشار له بالبنان على الدوام.

فلسطين جوهرة العالم القديم، ونقطة اتصال القارات الثلاثة الأولى ببعضها في حوض البحر الأبيض المتوسط، ما جعلها تمتاز بخصوبة تربتها وتنوعها، وبزراعتها لأشجار الزيتون وجودة الزيت وطعمه، فثقافة موسم قطف الزيتون الذي يرافقه لمة العائلة الممتدة من الأجداد للأحفاد وأحفادهم مع تواجد أكلات فلسطينية بحته بجانب إبريق الشاي الذي يُعدّ كله على النار والحطب وغناء الأهازيج الشعبية بصوت جماعي، جعل من هذا الموسم موروثا ثقافيا شعبيا خاصا بالشعب الفلسطيني أينما حل وارتحل. فمهما مرّ بالبلاد من دم وقتل وتشريد، وأتعبتها أهوال المحتل المجرم، كان هذا الموسم يأتي فيُغيث القلوب ويُسعد الأرواح المتعبة من الفلسطينين.
فمهما مرّ بالبلاد من دم وقتل وتشريد، وأتعبتها أهوال المحتل المجرم، كان هذا الموسم يأتي فيُغيث القلوب ويُسعد الأرواح المتعبة من الفلسطينين.
بين الشاعر الفلسطيني محمود درويش وشجرة الزيتون قصة واضحة المعالم، لم يقتصر فيها شاعرنا المخضرم على قصيدة أو اثنتين ليوضح لنا أصالة هذه الجذور، وكان صوت الفلسطينيين بالتعبير عن هذا الترابط والحب المتجذر، فقال فيها مرة:
"لو يذكر الزيتون غارسهُ
لصار الزيت دمعا!
يا حكمة الأجدادِ
لو من لحمنا نعطيك درعا!
لكن سهل الريح،
لا يعطي عبيد الريح زرعا!
إنا سنقلع بالرموشِ
الشوك والأحزان.. قلعا!
وإلام نحمل عارنا وصليبنا!
والكون يسعى..
سنظل في الزيتون خضرته،
وحول الأرض درعا!"
مع كل هذا الارتباط المتجذر للفلسطيني مع شجرته روحيا ومعنويا إلا أن هناك أثر آخر مهم لوجودها وهو الدخل الاقتصادي حيث تعتبر مصدر دخل لآلاف المزارعين، فتصدير الزيت والزيتون للخارج أو بيعه داخل السوق الفلسطيني أيضا يُعد ركيزة أساسية في الدخل الفلسطيني. وكذلك الرقم الأول في الأمن الغذائي للأسر الفلسطينية فوجودهما يغني البيت بالكثير، ومن أبرز ما يثبت ذلك بالتجربة توثيق الغزيين لسنتي الإبادة، وبأن الزيت طالما تواجد في بيوتهم فهم في خير كثير. وهناك من الأمثال ما لا يمكن حصرها التي تُعبّر عن وجود الزيت في البيت يكفي ويسد أي احتياج، منها "الخُبز والزيت سَبعين في البيت" و"الزيت عامود البيت" و "خبز الزيت عمارة البيت" وغيرها الكثير الكثير.

نظرا لأهمية هذه الشجرة المباركة لدى الفلسطينيين ولتجذرهم بجذورها، اعتنى المستوطنين وتحت إشراف الجيش بقيادته الحكومية لاسيّما اليمين المتطرف ورؤوسائه، لتجنيد وتمويل فتيان وفتيات التلال وكذلك المستوطنين الرعويين ومغتصبي المستوطنيات الزراعية القريبة من الأراضي الفلسطينية. فقد أعلنت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية بأن النصف الأول من الشهر الجاري تعرّض المزارعين الفلسطينيين لـ 1042 اعتداء في الضفة المحتلة من جيش الاحتلال والمستوطنين، شملت هدم منازل ومنشآت زراعية تحديدا، بالإضافة إلى اعتقالات ومداهمات، والاعتداء على قاطفي الزيتون والأراضي الزراعية، وسرقة الشجر ومحصول الزيتون، كذلك وغيرها الكثير من أساليب المستوطنين المقززة من تكسير وحرق للشجر أو إطلاق حيواناتهم ودوابهم لتهاجم وتأكل محاصيل المزارعين الفلسطينيين.
نظرا لأهمية هذه الشجرة المباركة لدى الفلسطينيين ولتجذرهم بجذورها، اعتنى المستوطنين وتحت إشراف الجيش بقيادته الحكومية لاسيّما اليمين المتطرف ورؤوسائه، لتجنيد وتمويل فتيان وفتيات التلال وكذلك المستوطنين الرعويين ومغتصبي المستوطنيات الزراعية القريبة من الأراضي الفلسطينية.
قامت "الفاو" وهي منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة في السنوات الماضية بدعم مزارعي الزيتون لتحسين الوصول إلى الأراضي والموارد المائية وإدارتها، كما أدخلت ممارسات مستدامة تساعدهم على زيادة إنتاج الغذاء والدخل باستخدام الموارد الطبيعية بكفاءة أكبر. وقد أعلن مديرها في الضفة والقطاع عن صعوبة هذا الموسم من قطف الزيتون وتعرض المزارعين وأراضيهم لمخاطر غير مسبوقة.
سياسات عنف دولة الاحتلال وفجور مستوطنيها حالت دون الوصول إلى عشرات الالاف من دونمات الأراضي والمراعي الفلسطينية، وفي نفس السياق أوضحت منظمة حقوق الإنسان أن هذه القيود ساهمت بدورها في تدمير الاقتصاد المحلي وتشريد آلاف المزارعين والرعاة الفلسطينيين، خصوصا في سنتي الإبادة لحالات قد تصل إلى حد النقل القسري للمواطنين.
وفي كثير من حالات العنف المخيفة للمستوطنين المدعومة من جيش وكيان دولة الاحتلال، وصلت لقتل قاطفي الزيتون وضربهم بالهروات والأدوات الحادة والأسلحة النارية. ففي أغلب قرى رام الله، وسلفيت، ونابلس، وكذلك قرى جنوب الخليل في الضفة الغربية المتاخمة للمستوطنات الصهيونية، تعرضت بيوتها وأراضيها لمثل هذه الهجمات الممنهجة والمستمرة.
سياسات عنف دولة الاحتلال وفجور مستوطنيها حالت دون الوصول إلى عشرات الالاف من دونمات الأراضي والمراعي الفلسطينية.
آخرها ما تعرضت له الحاجة عفاف أبو عليا ورجال من عائلتها في قرية ترمسعيا قضاء رام الله مع اثنين من المتضامنين الأجانب، من ضرب مبرح أدخلها العناية، وذلك وفق فيديو كان من الأشهر تداولا الأسبوع الماضي على صفحات السوشال ميديا، وهذا ما أوضحه عوض أبو سمرة الناشط والعضو في اللجان الشعبية كما كان شاهدا للواقعة، حيث يُظهر المقطع مستوطنا ملثما يحمل عصا يهاجم السيدة ويضربها مرارا على رأسها حتى سقطت أرضا، قبل أن يكُمل تعديه على اثنين من المتضامنين الأجانب بين أشجار الزيتون ما تسبب في كسر يد أحدهم أيضا.
أما هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية بمديرها مؤيد شعبان، فأعلنت مؤخرا أن المستوطنين نفذوا 7154 اعتداءا ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم بالضفة الغربية في عامي الإبادة، نتيجتها استشهد 33 مواطنا فلسطينيا، وجرى تهجير 33 تجمعا بدويا فلسطينيا على الأقل، وفي المقابل قاموا بإنشاء 114 بؤرة استيطانية.
المستوطنين نفذوا 7154 اعتداءا ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم بالضفة الغربية في عامي الإبادة، نتيجتها استشهد 33 مواطنا فلسطينيا، وجرى تهجير 33 تجمعا بدويا فلسطينيا على الأقل، وفي المقابل قاموا بإنشاء 114 بؤرة استيطانية.
هذا الموسم يُعد من الأسوء بالنسبة للفلسطينيين فنتيجة لكل التدمير والهجمات السابقة ومنع الوصول المستمر للمزارعين أدى لانخفاض كبير جدا في الإنتاج لهذا العام، وبالتالي تأثر الاقتصاد المحلي والفردي بالإضافة لقلة ما يسد حاجة صاحب الأرض دون الحديث عن البيع أيضاً. باختصار ليس هناك ما يكفي من الزيت والزيتون لهذا العام.