أقلام خلف القضبان: أدب السجون الفلسطيني بين القيد والحرية
22 أكتوبر 2025
في هذه الأيام، ومع بشائر الحرية التي تعانق أسرانا الأبطال الخارجين من كهوف الاحتلال وغياهب ظلمه، تفرض علينا اللحظة أن نتوقف أمام بطولاتهم، لا في ميدان الفداء فقط، بل في ميادين الكلمة أيضا. فكما قاوموا بأجسادهم خلف القضبان، قاوموا بأقلامهم، فحوّلوا الزنازين إلى منابر، والأغلال إلى حروف تنبض بالكرامة والوعي.
يُعدّ أدب السجون من أبرز أشكال الأدب الفلسطيني الحديث، ذلك الأدب الذي لم يشتدّ حضوره وتأثيره كما اشتدّ في العقود الأخيرة. فهو أدب يُكتب من قلب التجربة، من داخل القيد أو بعده، ليحمل للعالم وجع الأسرى وصبرهم، وحكاياتهم التي تمزج الواقعي بالخيالي، والذاتي بالجمعي. كتبوا سيرهم، وتأملاتهم، ونتاجهم الفكري والتربوي، فكانت أعمالهم مرآة للإنسان في أقصى اختبارات الوجود: حين يُسلب الجسد وتبقى الروح حرة تنسج الحكاية.

لم يتوقف السجين الفلسطيني عن العلم والتعلم، فلم يكن السجن وإجرامه قيدا يقتل الهمم ويُبعثر العقل والفكر أمام أبطالنا. وكما أن نسبة التعليم في فلسطين تُعتبر من الأعلى في العالم، حيث يرى فيها الفلسطينيون الوسيلة لتحقيق الوجود الفلسطيني المتعلم وتثبيا في أرضه. وبما أن هناك الكثير من الأسرى الذين يكون اعتقالهم في فترة الثانوية العامة وما حولها - فالاحتلال لا يتورع عن اغتيال أو سجن من هم دون 18 عاما من الأشبال - فيلجأ الكثيرون منهم فيما بعد لإكمال تعليمهم الثانوي تحفيزا من قيادات الحركة الأسيرة بمختلف تنظيماتهم، استمرارا للبكالوريس ومن ثم الدراسات العليا داخل السجون أيضا.
قد يظن القارئ أن الكتابة متاحة وتوريد الكتب والمصادر للأسرى متوافرة، وكذلك دور النشر وغيرها من الأمور التي يحتاجها الكاتب، لكن يؤسفني أن أوضح بأن ذلك محض خيال مرهف في عالم فاجر مجرم كسجون الاحتلال.
وكذلك أصحاب المحكوميات العالية، الذين لا يجدون ما يحمي عقولهم من الهذيان إثر فترات الحبس الطويلة أو العزل الانفرادي الذي قد يصل 10 و 13 سنة متواصلة أيضا.
يختلف أدب السجون الفلسطيني في محتواه، فهناك من وجده للتعبير عن رحلته المؤلمة في السجن وبشاعة السجّان في روايات واقعية أو خيالية وهناك من وجدها ملاذا لشعره، وآخر وجدها فرصة لدراسة الاحتلال وكينونته وفكره، ولا ننسى كتّاب السِيَر الذاتية وتأريخ النضال الفلسطيني.
أما بعد كل هذا فقد يظن القارئ أن الكتابة متاحة وتوريد الكتب والمصادر للأسرى متوافرة، وكذلك دور النشر وغيرها من الأمور التي يحتاجها الكاتب، لكن يؤسفني أن أوضح بأن ذلك محض خيال مُرهف في عالم فاجر مجرم كسجون الاحتلال. فأغلب الكتابات تعتمد على ذاكرة السجين ومن ثم تفريغها في أي قصاصات تتوفر صدفة بين يديه، كعلب سجائر أو كروت ما أو مغلفات علب ومن ثم تتحول هذه القُصاصات لما يُعرف لدى الأسرى بـ "الكبسولة"، وهي تصغير القصاصات لأصغر حجم ممكن ومن ثم لفها بقطعة بلاستيكية تُسهّل بلعها مع الأسرى المُفرج عنهم لتهريبهم إياها. هذه الطريقة الوحيدة للأسرى لإخراج أعمالهم الأدبية للنور.
الأسير يتعرض للتفتيش ومصادرة حاجياته بين فينة وأخرى. هذا يعني احتمال فقد كل ما أنجزه وخطه، لذا كان عليه أن يحفظ دائما في دماغه ما كتب، ليعيد تدوينه مرة أخرى في حال المصادرة.
كما أن واقع الأسير الفلسطيني داخل سجون الاحتلال لا يمكّنه من الكتابة منذ البداية، فالأمر أقرب للعبقرية في الحفاظ على ما يتم تأليفه وتدوينه، لأن الأسير يتعرض للتفتيش ومصادرة حاجياته بين فينة وأخرى. هذا يعني احتمال فقد كل ما أنجزه وخطه، لذا كان عليه أن يحفظ دائما في دماغه ما كتب، ليعيد تدوينه مرة أخرى في حال المصادرة.
أدباء فلسطينيون في معتقلات الإحتلال

من أبرز وأهم الكتب التي رويت في سجون الاحتلال الصهيوني كان لقيادات النضال الفلسطيني باختلاف توجهاتهم ولكل من لديه حسّ أدبي أيضا. وهنا يسعنا أن نذكر على سبيل المثل لا الحصر:
- الأسير مروان البرغوثي وكتابه "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي" والذي يتحدث عن حياة الأسير في المنفردات لسنوات متواصلة.
- الأسير حسن سلامة الذي كتب في ذات الباب كتابه " 5000 يوم في عالم البرزخ"، يوضح من خلاله سنوات حياته في العزل الانفرادي أيضاً على شكل سيرة ذاتية في السجون الصهيونية، كذلك كتاب "الحافلات تحترق" تتحدث عن العمليات الفدائية وتاريخ تفجيرات الحافلات في الداخل الفلسطيني.
- الشهيد الأسير المحرر يحيى السنوار في روايته "الشوك والقرنفل" تحدث عن الفلسطيني ووجوده وتاريخه الطويل.
- الأسير عمار الزبن، صاحب حكم 26 مؤبداً وأول من تحدى هذه المؤبدات فهرب نطفه وهو داخل الأسر وكان رائد معركة الوجود الفلسطيني هذه فأصبح أب ل 4 أطفال. أطلق عمار خياله فكتب "الزمرة" تتحدث عن مشوار خلية قسامية، ورواية "عندما يزهر البرتقال" عام 2011 الحاصلة على جائزة القدس عاصمة الثقافة العربية ورواية "خلف الخطوط" عام 2015 والعديد من القصص القصيرة والمقالات الأدبية والسياسية.
- الأسير سامر محروم وكتابه "دائرة الألم" الذي يتحدث عن الدائرة المغلقة لأسرى أمضوا أكثر من 25 عاما داخل السجون وعن أجواء حياتهم هناك، وقد أبرز في أحد أجزاء كتابه كيف تكون الكتابة معقدة، وخاصة حينما تغيب الأوراق والأقلام.
- الأسير عبدالله البرغوثي صاحب حكم من أعظم الأحكام في التاريخ وهو المؤبد 67 مرة، إضافة إلى (5200) عام لمسؤوليته عن مقتل 67 صهيونيا، والذي يتعنت الاحتلال للآن في الإفراج عنه ضمن الصفقات. ألّف ما يزيد عن 15 كتاب أشهرها السيرة الذاتية التي خاطب فيها ابنته تالا "أمير الظل، مهندس على الطريق" وكذلك كتاب "الماجدة ذكريات بلا حبر و ورق" وكتاب "المقصلة وجواسيس الشاباك الصهيوني" وغيرهم الكثير.
- الشهيد الأسير وليد الدقة، الذي يُعتبر أسماً مهماً في معركة النُطف المهربة أيضاً وابنته ميلاد التي لم يرها واستشهد وهو في الأسر يُمنّي نفسه برؤياها، هذه التجربة جعلته يكتب رواية "سر الزيت" التي يُخاطب بها الأطفال ليزرع فيهم بذور الذاكرة للوطن.
- شيخ الأقصى رائد صلاح، كتب قصائد ديوانه "زغاريد السجون" وهو داخل السجن، وتعد مثالاً على الشعر الذي كتب في ظروف قاسية.

تحرر الأسير باسم خندقجي خلال الصفقة الأخيرة للمقاومة، وهو صاحب القلم المميز والحائز على جائزة البوكر عن رواية "قناع بلون السماء" كما كتب رواية "أنفاس امرأة مخذولة" و رواية "أنفاس قصيدة ليلية" التي وصلت للعالمية، ويُعتبر رائداً في صياغة أدب السجون. كما تحرر الأسير محمود العارضة، مهندس الهروب الكبير من سجن جلبوع مشدد الحراسة وهو الذي أوضح لنا عبقريته وتفكيره بالتجربة، كما خطّ لنا في كتابه "الرواحل الواقع والمأمول" ويتحدث فيه عن أهمية وقوة الإعلام ومن ثم إلى ملهيات الحياة التي تؤثر في الراحلة (ويقصد بها الانسان) وما يجب أن يكونه للأفضل. وكذلك كتاب " فقه الجهاد، تأثير الشيخ الغزالي على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين؛ منهجا وفكرا".
كل هؤلاء مجرد غيض من فيض، فالإبداع لا يتوقف في الدم الفلسطيني ومهما قست عليها الحياة والتجارب سيُنتج الأفضل ويُشار له بالبنان.
وأفرج الاحتلال عن الأسير رائد عبد الجليل خلال صفقة تبادل الأسرى، وكات كتب روايته "الحب والبندقية" التي تناول فيها سيرة رفيق سلاحه والأسر رامي نور، بطل عملية اقتحام قيادة المنطقة الوسطى لجيش الاحتلال في القدس، الذي تمكّن من قتل وجرح أكثر من ٤٨ من جنود وضباط الاحتلال حسب إعلان الاحتلال. وكذلك رواية "الزيارة بين الأمل والألم". التي سجّل فيها أول لقاء مع والدته بعد سنوات من الغياب القسري. هذا بالإضافة إلى كتابته عن المرأة وتنميط ونظرة المجتمع الذكوري لها، عبر بحثين، أحدهما تحت عنوان "النظرة الدونية للمرأة في اللاوعي الذكوري". بالإضافة إلى مقالات بحثية عن الذاكرة الجمعية حيث دوّن بها السيرة الذاتية والنضالية لـ ٨٠ أسيرا من قادة ومؤسسي كتائب شهداء الأقصى.
كل هؤلاء مجرد غيض من فيض، فالإبداع لا يتوقف في الدم الفلسطيني ومهما قست عليها الحياة والتجارب سيُنتج الأفضل ويُشار له بالبنان.