ما بعد الحرب: نساء غزة بين رماد الإبادة واستمرار المعاناة
18 أكتوبر 2025
انتهت الحرب، لكنّ وجعها لم ينته بعد. فالإبادة التي اجتاحت غزة لم تقتل البشر والحجر والشجر فقط، بل أضرمت النار في الكرامة الإنسانية، ومزّقت شعور الإنسان بعزّته ووجوده. وسط الركام والخراب، تبرز معاناة الغزاويات كأحد أكثر فصول الحرب قسوة وصمتا.
فما واجهته النساء خلال العدوان من فقد لمساحاتهنّ الخاصة، وحرمان من أساسيات النظافة الشخصية واحتياجات أجسادهنّ الفسيولوجية، ترك جرحا لا يندمل. النزوح القسري الذي فرضه الاحتلال على أكثر من 90% من سكان القطاع حوّل الحياة اليومية إلى امتحان قاس للكرامة الإنسانية؛ ازدحام الخيام، غياب الحمامات الآدمية، انقطاع أدوات النظافة، ومعاناة الدورة الشهرية والحمل والعلاقات الزوجية، كل تلك التفاصيل البسيطة التي كانت تشكّل "روتين المرأة العادي"، أصبحت اليوم من ذكريات ما قبل الحرب.
انتهت الإبادة عسكريا، لكنّ آثارها لا تزال تُحاصر النساء في تفاصيل حياتهنّ، شاهدة على جريمة لم تنته بانتهاء القصف.

يعتبر الحصول على الفوط الصحية التي تستخدمها النساء أثناء الدورة الشهرية أمراً شبه مستحيل، لذلك يقمن بمحاولات يائسة للحصول على بدائل بدائية في غالب الأحوال من تمزيق الأغطية أو الملابس القديمة لديهن، لاستخدامها كفوط صحية. وعادة ما تكون المراحيض المؤقتة التي يستخدمها النازحون حاليا، مجرد حفرة في الرمال محاطة بأغطية تتدلى من حبل، ويجب التشارك فيها مع عشرات الأشخاص الآخرين. وحتى لو تطور الأمر واستطاعت العائلة بناء حمام بدائي وكان أكثر من مجرد حفرة فسوف يكلفها ما يقارب 1500 شيكل (أي 455 دولار أمريكي).
فمن باب الشيء بالشيء يُذكر، انتشرت مؤخرا صور للحمامات التي تستعملها النساء في الخيام، صورا مؤلمة موجعة لمن اعتاد النظافة خُلقا وطبعا كالغزاويات. وكذلك الكثير من صور النزوح تحمل فيها سيدات البيوت أدوات النظافة معها أينما ارتحلت جانبا بجنب الأكل والملابس.
هناك أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في غزة يحتجن إلى منتجات النظافة الشهرية، بالإضافة إلى المياه النظيفة والحمامات.
يقصد الاحتلال منع دخول الفوط الصحية الخاصة بالسيدات والأطفال كنوع إضافي للعقاب الجماعي للمجتمع الفلسطيني، وقد تنبهت الكثير من المُقيمات على الحملات الخيرية وخصصن صناديق مساعدات مليئة بمساحيق التنظيف والفوط والمناديل الورقية والفرش. لكنها بطبيعة الحال لا تُغطي أقل القليل للقطاع وحاجة سيداته.
تقول الأمم المتحدة في إحدى تصريحاتها إن هناك أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في غزة يحتجن إلى منتجات النظافة الشهرية، بالإضافة إلى المياه النظيفة والحمامات. وقد نفدت مخزون أدوات النظافة من الأسواق، وحتى إن وُجدت فالأسعارها باهظة جدا. فالنتيجة أن الكثير من النساء تقع في فخ الاختيار ما بين شراء الفوط الصحية أو شراء الطعام والماء، والخيار سيكون محسوما لحرمانها من وسائل النظافة وأدواتها.
كما أعربت منظمة "أنيرا" وهي منظمة حقوقية تعمل في غزة، إن بعض النساء يستخدمن حبوب منع الحمل لوقف الدورة الشهرية لديهن منذ الأساس تجنبا لكل هذه الأهوال، وأخريات عانين من اضطرابات في دوراتهن الشهرية بسبب الإجهاد والصدمة الناتجة عن عمليات النزوح المتكررة. وفي هذا الخصوص، صرّحت مديرة مركز شؤون المرأة في غزة الأستاذة أمل صيام، "أن بعض النساء لم يقمن بتغيير ملابسهن لمدة 40 يوما"، موضحة أن هذا إلى جانب استخدامهن للفوط القماش التي قمن بتمزيقها من الملابس القديمة، سيؤدي بالتأكيد إلى إصابتهن بأمراض جلدية وأخرى مرتبطة بالصحة الإنجابية، وباضطرابات نفسية.

"المرأة الفلسطينية والطفل خطران أكثر كثيرا من الرجل، لأن بقاء طفل واحد معناه استمرار عدة أجيال"، هذا ما قاله شارون عن الفلسطينيات منذ عقود مضت، ومن هنا نفهم هذه الهمجية والشهية المفتوحة للقتل اتجاه الفلسطينيات، إذ أقرت الأمم المتحدة أن 70% من شهداء وجرحى الإبادة هم من النساء والأطفال.
يرى الكيان الغاصب فيهنّ عدوا يحمل في رحمه الأجيال الفلسطينية القادمة، ومجرد تواجدهنّ في هذه الأرض تعتبر مقاومة وتثبيتا للجذور. فهنّ قادرات على إعادة تشكيل العائلة كونها البُنية واللبنة الأساسية للمجتمع الفلسطيني، وبالتالي لا بد من إبادتهن وانتهاك أجسادهن، وهذا ما دفع الاستعمار إلى بناء منظومة من العنف التمييزي قائمة على أساس الجنس والنوع الاجتماعي لاستهداف جنسانيتهن وأنوثتهن بشكل واضح وصريح. وفي نفس السبب قاموا بقتل الأجنة المخصبة المحفوظة في المراكز والمستشفيات، بالإضافة لاستهداف الأجنة في الأرحام والمواليد الجدد أيضا في الحضانات. انتهاكات صريحة وموجّهة إتجاه الوجود الفلسطيني والسبب فيه وهي السيدة الفلسطينية.
يرى الكيان الغاصب فيهنّ عدوا يحمل في رحمه الأجيال الفلسطينية القادمة، ومجرد تواجدهنّ في هذه الأرض تعتبر مقاومة وتثبيتا للجذور.
لم يتوقف الشعب الغزي عن الزواج، وهذا بطبيعة الحال يعني ضرورة الاختلاء وإبجاد أوقات خاصة للزوجين. وهذا ما يُعتبر خادشا وصعب التحقيق في ظلّ الظروف القائمة سواء في الخيام أو أماكن النزوح من مدارس ومراكز إيواء، وفي حال حدوث حمل فيما بعد تعيش الحامل أهوالا نفسية وجسدية لا يمكن تخيّلها وحصرها. فالحصار والتجويع أطبق على الجميع فلا تستطيع الفلسطينية الحامل التقوت ليكفي جسدها وجسد طفلها ولا يوجد أي مقويات او فيتامينات، أو حتى أبسط الأدوية التي تزود مناعتها أو تعالج مشاكلها.
أما عند الدخول في مرحلة المخاض، فلا مخدر يساعدها على تخطي الآلآم، وتُجرى العمليات وهي في كامل وعيها ووجعها. ففي شهادة ميدانية لسيدة اضطرت إلى الولادة في أحد ممرات مستشفى كمال عدوان أثناء الحصار، دون أي مراعاة لخصوصيتها وحالتها الحرجة، عبرت عن تجربتها الموجِعة قائلة: "ولدت وأنا أسمع زخات الرصاص وقذائف المدفعية في كل مكان بالمستشفى، لم أتوقع النجاة بتاتا لي ولطفلتي التي حملتها وركضت في الشوارع من بين الدبابات الإسرائيلية المتواجدة في بلدة جباليا شمال غزة، عقب ولادتي بساعتين فقط بعد اقتحام جنود الاحتلال للمشفى".
أما عند الدخول في مرحلة المخاض، فلا مخدر يساعدها على تخطي الآلآم، وتُجرى العمليات وهي في كامل وعيها ووجعها.
نتكلم للآن عن أوجاع جسدية وانهيار تام في البنية التحتية للمستشفيات ومراكز الطوارئ بكل كوادرها. لكن الخطر النفسي الذي يداهم حياة الأمهات هو الخوف من الغد على أطفالها وأجنتها، إذ أن استمرار القصف والقتل بشتى الأنواع وبمختلف الأماكن يضعها في توتر دائم وانتظار للموت في كل ثانية.
وصل الأمر ببعض السيدات أخذ حبوب منع الحمل ومنهم من أجهضت رغم انتظارها السابق للحظات الأمومة فقالت السيدة براء صيدم: " هذه الحرب المُهندَسة بالتجويع قضمت أظافر الأحلام التي كنا نضعها على طرف أفواهنا ونحن نتخيل المستقبل كان أجمل أحلامي أن أصبح أمّا لطفل جميل، وأعيش لحظة ترقب قدومه للحياة تفصيلة تفصيلة. مع ظهور علامات الحمل الأولى فاضت سعادة الدنيا، لكن تجلت أمامي شظايا الرعب والقصف وفتات المجاعة.. أخبرت نفسي أنني أمارس غريزة الأمومة في وقت خطأ. جاهرت أمام الجميع بتوقيت أمومتي الخطأ، أخبرتهم بأنني أنوي الإجهاض".
"إن النساء يعشن صراعا بين الرغبة في الأمومة، أو إنقاذ أرواح بريئة من احتمال الموت بطرائق بشعة، وفي الحالتين هناك وجع هائل وصمت ثقيل، وحاجة ملحّة إلى الدعم النفسي والإحتواء، وهو ما يكاد يكون مفقودا بالكامل في غزة".
وقالت الدكتورة رائدة أبو عبيد، متخصصة في علم النفس التنموي والاجتماعي، "إن النساء يعشن صراعا بين الرغبة في الأمومة، أو إنقاذ أرواح بريئة من احتمال الموت بطرائق بشعة، وفي الحالتين هناك وجع هائل وصمت ثقيل، وحاجة ملحّة إلى الدعم النفسي والإحتواء، وهو ما يكاد يكون مفقودا بالكامل في غزة.. فالحرب أعادت تشكيل معنى الأمومة. الحمل مجازفة مرعبة، والكثير من النساء يقلن إنهن لا يردن الإنجاب مجددا، كونهن لا يحتملن أن يرن أبناءهن ضحايا محتملين في أي لحظة، وكلمة ضحية هنا تعني طفلا شهيدا أو جائعا أو فاقدا أطرافه، أو طفلا لا يجد بيتا أو تعليما أو صحة أو اهتماما أو مستقبلا".

كل هذه الآلآم التي لا تستطيع الجبال حملها أُورثت للنساء، فمع كل هذه الأرواح التي أُزهقت زورا وبهتانا للرجال الغزيين، لم يكن أمام الأرامل والأمهات والأخوات والبنات والأيتام سوى التكفل بمن بقي لديهنّ من أولاد وأهل وعائلة.
أجبر تتار العصر الحديث مئات الآلاف من النساء والفتيات على النزوح القسري مشيا على الأقدام مسافة تقدر بعشرات كيلومترات (22كم على الأقل)، وسط كثافة النيران نحو مناطق جنوب غزة التي ادّعى جيش الاحتلال أنها آمنة، ففرض حيز اللجوء جملة من التحديات الجديدة على النساء، اللواتي لم يجدن أنفسهن في وضع جديد يفتقر إلى ظروف الحياة الآدمية فحسب، بل أيضا افتقرن إلى آليات الحماية التقليدية لهن من رجالهن. حيث تم إجبارهن أتوماتيكيا على القيام بوظائف جديدة فُرضت عليهن.
كل هذه الآلآم التي لا تستطيع الجبال حملها أُورثت للنساء، فمع كل هذه الأرواح التي أُزهقت زورا وبهتانا للرجال الغزيين، لم يكن أمام الأرامل والأمهات والأخوات والبنات والأيتام سوى التكفل بمن بقي لديهنّ من أولاد وأهل وعائلة.
في النزوح الأخير الذي تتم به إبادة الشمال وغزة كاملا كتب الصحفي ضياء أبو عون تعليقا على الصورة:" أم تحمل طفلة على يديها، وتمسك الأخرى بيدها، وعلى كتفها حمل ثقيل، تنزح إلى جنوب القطاع لتنجو لكن أي نجاة هذه؟ الأم منهكة، مكسورة، استسلمت من التعب بعد عشرات الكيلومترات من السير. كل خطوة تسيرها، كأنها تنزف من روحها".
إن عددا كبيرا من النساء يقمن بأعمال الرجال وهن مصابات، نتيجة لفقد مُعيلهن، أولادهن أو رجال عائلاتهن خلال الحرب وهذا الفقد يكون بالعشراتِ من رجال العائلة، حيث يُقدر عدد الأيتام في غزة نحو 49 ألف يتيم وهو ما يقابل زيادة بنسبة 135% منذ بداية الإبادة.
في مقابلة مع سيدة بقيت في مناطق شمال غزة بعد استشهاد زوجها، قالت: "أصبت بيدي بحروق متوسطة بعد قصف منزل ملاصق لمنزلنا واستشهاد زوجي، لكنني مضطرة للوقوف في طابور لنقل المياه إلى مركز إيواء في مدرسة فهمي الجرجاوي الواقعة وسط غزة، لتأمين أولادي البالغ عددهم 4 أطفال." وتقول سيدة أُخرى في شهادة أدلت بها: "كنت خايفة لما قربت ع الكفن بس فتحته تعرفت عليها وقلتلها، إنتي أول فرحتي وبكري وأول كلمة ماما كانت منك وأولادك غير أربيهم زي ما ربيتك."
إن عددا كبيرا من النساء يقمن بأعمال الرجال وهن مصابات، نتيجة لفقد مُعيلهن، أولادهن أو رجال عائلاتهن خلال الحرب وهذا الفقد يكون بالعشراتِ من رجال العائلة.
بعد حرمانهن من كل ما يمكّنهن من استكمال حياتهن، والقيام بدورهن كأمهات مقاتلات يواجهن حرب الإبادة بأعمال شاقة لا تتناسب مع طبيعتهن وما اعتدنهن، مثل تقطيع الحطب لطهي الطعام، والجلوس أمام النيران التي ينبعث منها دخان احتراق الخشب والأوراق لساعات طويلة في العراء والأمراض التي تنتج عن هذه الأدخنة بالإضافة لتدمير الصرف الصحي وانعدام الحصول على سبُل المأكل والمشرب النظيف.
هنا دخلنّ الغزيات حروبا جانبية مرعبة وصعبة بجانب حرب الإبادة والفقدان والموت، وهي حرب التشبث بالحياة ومن تبقى لهن فيها من أهلهن.