الأسود الأربعة.. حكاية أمٍ على بوابة السجن
16 أكتوبر 2025
في بيت يطلّ على ذاكرة مثقلة بالانتظار، تجلس أمٌ فلسطينية ثمانينية تَغزل من الصبر عباءة لثلاثة عقود. ملامحها غارت في الزمن، لكن عينيها ما زالتا تبرقان كلما ذُكر اسم معاذ، ذاك الفتى الذي خرج يوما يحمل حلم الحرية، ولم يعد. ثلاثون عاما وهو في غياهب السجون، وثلاثون عاما وهي تُهيّئ قلبها لكل خبر علّه يكون "الخبر السعيد".
وحين جاء نبأ الصفقة الأخيرة، هرعت حفيدتها لتواسيها، لتجد أن الجدة لا تُواسَى؛ بل تُواسي وطنا بأكمله، وهي تقول بصوت يتهدّج بالإيمان: "المهم غزة وأهل غزة وأطفالها إلي ماتوا جوع، ما دام بدها الأميات تبطل تنفجع بأولادها إحنا بخير، وإلي كاتبه الله بدو يصير، ابني اختار هالطريق وأنا نذرته لربي وربنا أرحم فيه". في تلك اللحظة، بكت الحفيدة على بيت خلا من الرجال، وعلى أم ما زالت تؤمن أن التضحية قدر جميل، وأن ما كُتب في ملك الله لا يُردّ.

هكذا تبدأ حكاية الأسير معاذ، ابن هذه الأم الصابرة، وشقيق الأسرى الذين شاركوه الدرب والقدر، وجعلوا من وجعهم سيرة تُروى في زمن لا يملك فيه الفلسطيني سوى الصبر والإيمان.
في أولى محطات المواجهة التي خاضها الفتى معاذ بلال، عندما كان يلهو بعصاه الخشبية في باحة البيت حين داهم الجنود منزل العائلة في أحد صباحات الثمانينات، فاندفع بينهم بعفوية طفل لا يعرف الخوف، ووضع العصا بين قدمي أحدهم فأوقعه أرضا. لم يدرك الصغير حينها أن تلك اللحظة العابرة ستحدّد ملامح حياته كلها، حتى صفعة الجندي التي نزلت على وجهه الصغير لم تكن سوى أول درس في طبيعة العلاقة بينه وبين المحتل.
في أولى محطات المواجهة التي خاضها الفتى معاذ بلال، عندما كان يلهو بعصاه الخشبية في باحة البيت حين داهم الجنود منزل العائلة في أحد صباحات الثمانينات، فاندفع بينهم بعفوية طفل لا يعرف الخوف، ووضع العصا بين قدمي أحدهم فأوقعه أرضا.
لم تلبث السنين أن مرّت حتى وجد معاذ نفسه يعرف السجون من بوابة أبيه. كان معاذ حينها تلميذا في الصف الرابع، حين اعتقله الاحتلال مع والدته للضغط على والده. في غرفة التحقيق جلس الطفل على ركبتي أبيه المقيّد، يحدّق في عينيه وهما تنطقان بالثبات، فيما أجبره المحقق على تقبيل وجنتيه ومناشدته قول "الحقيقة". أدرك الطفل الصغير أن والده لا يريد منه شيئا سوى أن يصمت، وأن الصبر في حضرة الظلم عبادة. انتزعوه من حضن أبيه ووضعوه في زنزانة مجاورة، ليسمع الأب صوت بكاء ابنه، وكان ذلك الصوت صرخة أولى في رحلة طويلة من الوجع والمقاومة.
انتقلت العائلة إلى مخيم بلاطة، وهناك نما معاذ على فكرة الدعوة، فأسس مع رفاقه في المدرسة الثانوية نواة "الشباب المسلم"، ومع اندلاع الانتفاضة الأولى، خرج من صفوفهم فتية حملوا الحجر والبيان معا. وعندما التحق بجامعة النجاح لدراسة الشريعة، مضى على درب أبيه، وتقدّم في صفوف الكتلة الإسلامية حتى صار أحد قادتها الشباب.
في عام 1994، وجد معاذ طريقه إلى كتائب القسام، وهناك التقى برجال صاروا رموزا في الذاكرة الفلسطينية: يحيى عياش، علي عاصي، عدنان مرعي وغيرهم. ولم تمضِ أشهر حتى اعتُقل للمرة الأولى بتهمة مساعدة المجموعة، فقضى أحد عشر شهرا في الأسر، ثم أعيد إلى الاعتقال بعد أسبوع فقط، ليقضي سبعة عشر شهرا أخرى. خرج من السجن يحمل فكرة واحدة: حرية الأسرى. كان أخوه عثمان آنذاك يقضي حكما بالمؤبد، فآلى معاذ على نفسه أن يجعل من قضيته وقودا لعمله المقاوم.
في قاعة المحكمة، وقف معاذ رابط الجأش، يحدّث أمه، حين قاطعه المدّعي الصهيوني بوصفه "قاتلا"، فالتفت إليه وقال بثبات: "أنت القاتل، أنتم من احتل أرضنا وقتل أبناءنا".
بعد ثلاثة أيام فقط من الإفراج عنه، بدأ بتشكيل مجموعته القسامية الأولى مع الشهيدين نسيم أبو الروس وجاسر سمارو، ثم اندمجت المجموعة مع أخرى يقودها خليل الشريف، ومحمود أبو هنود ويوسف السركجي، تحت اسم "شهداء من أجل الأسرى". كان هدفهم واضحا: تنفيذ سلسلة عمليات استشهادية للضغط من أجل الإفراج عن الأسرى، وجاءت العملية الأولى في تموز/يوليو 1997 في سوق "محانيه يهودا" بالقدس، فهزّت الكيان، وأسفرت عن مقتل خمسة عشر صهيونيا وإصابة المئات، ثم تلتها عملية "بن يهودا" بعد أيام.
في كانون الثاني/يناير 1998، وبعد لقاء جمعه بالشهداء أبو هنود وعادل عوض الله، وقع معاذ في كمين قرب مخيم العروب، فاعتُقل واقتيد إلى أقبية التحقيق ثلاثة أشهر متواصلة قبل أن يصدر بحقه حكمٌ بالسجن المؤبد 26 مرة.
في قاعة المحكمة، وقف معاذ رابط الجأش، يحدّث أمه، حين قاطعه المدّعي الصهيوني بوصفه "قاتلا"، فالتفت إليه وقال بثبات: "أنت القاتل، أنتم من احتل أرضنا وقتل أبناءنا". ثم نظر إلى القاضي وقال: "أنا لا أعترف بك ولا بمحكمتك، وسنخرج من السجن في أقرب وقت، ودولتكم إلى زوال".
واليوم، بعد ثلاثين عاما في الأسر، حين استثناه الاحتلال من صفقة التبادل الأخيرة، رفع معاذ يديه ساجدا وقال: "يا رب لك الحمد، اللهم إني راض بحكمك فارض عني". ثم التفت لمن أُفرج عنهم يبتسم ويواسيهم، كما لو أنه هو الحرّ وهم السجناء.

في بيت صغير بنابلس، عاشت السيدة رابعة بلال عمرها متنقلة بين السجون الإسرائيلية، تحمل في يديها إذن زيارة وفي قلبها يقين لا يذبل. كانت تُلقّب أبناءها الأربعة بـ"الأسود"، فقد اختاروا جميعا درب المقاومة، ودفعوا ثمنه أعمارا كاملة خلف القضبان.
كان بكر الابن الأكبر وعمود البيت، عرفه الناس بشجاعته وهدوئه، وكان سندا لوالده في إدارة محل الملابس والمكتبة التي كانت الأولى في نابلس. اعتُقل مرات متفرقة بسبب نشاطه المقاوم، ثم لاحقته قوات الاحتلال بعد عملية السور الواقي. ظلّ مطاردا، متنكرا بهوية أخرى، يرى أبناءه من بعيد ويعانقهم في الشارع قبل أن يختفي مجددا.
عاشت السيدة رابعة بلال عمرها متنقلة بين السجون الإسرائيلية، تحمل في يديها إذن زيارة وفي قلبها يقين لا يذبل. كانت تُلقّب أبناءها الأربعة بـ"الأسود"، فقد اختاروا جميعا درب المقاومة، ودفعوا ثمنه أعمارا كاملة خلف القضبان.
تقول الحاجة رابعة: "لما اعتقلوه جابوا لي صورته وهو مكبّل، مبين عليه مستشهد، سألوني: هاد ابنك؟ قلت لا مش ابني، عرفت إنها فخ عشان يعرفوا هو بكر ولا لا". وعن يوم وفاته تروي بصوت تخنقه الذكريات: "كنت في غزة عند ابني عبادة، كلمني أكثر من مرة يومها وقال لي: اشتقتلك يا إمي. بعد ساعات استشهد". رحل بكر، واحتضنت غزّة أمّه في مصابها، تقول: "أهل غزة هونوا عليّ الفقد، كانوا سندي، عشت بينهم أربع سنين وأحببتهم، حتى سافرت لتركيا مع عبادة للعلاج".
عثمان، الطفل الذي كبر على وعد المصحف، تتذكره الحاجة رابعة ضاحكة: "كان طفل هادي، مرة كسر مرطبان الزيت تبع سِتّه، وبكى، وبعدها لما جبنا أخوه عبادة قال: أنا مش غيران، بس ليش جايباه؟ بدناش إياه!". كبر عثمان، وحمل أمانة الجهاد. طارده الاحتلال واعتقله عاما، ثم أعادوا اعتقاله ليستمر ثلاثين عاما خلف القضبان. خرج عثمان ضمن صفقة المقاومة لتبادل الأسرى، لكن الاحتلال أبعده قسرا إلى تركيا، ولم تتمكن والدته الثمانينية من احتضانه.
عثمان، الطفل الذي كبر على وعد المصحف، تتذكره الحاجة رابعة ضاحكة: "كان طفل هادي، مرة كسر مرطبان الزيت تبع سِتّه، وبكى، وبعدها لما جبنا أخوه عبادة قال: أنا مش غيران، بس ليش جايباه؟ بدناش إياه!".
أما عبادة، فقد مضى من الأسر إلى الحج، بعد أكثر من أحد عشر عاما في سجون الاحتلال، معظمها في العزل الانفرادي، حتى بات شبه كفيف. ورغم ذلك لم يفقد بصيرته وإيمانه. تقول الحاجة رابعة: "مرة حكى له الأسير ضرار أبو سيسي إنه شافه بالحلم رايح الحج، رد عليه عبادة: كيف وأنا محكوم 15 سنة؟ بس سبحان الله، راح فعلاً على الحج قبل عرفة بيوم واحد". وتضيف وهي تبتسم بفخر: "لما كان عبادة بالتحقيق اعتقلوني عشان يعترف، لما شافني بعيط، حضنته وقلت له: أوعك تعترف، إحنا فش عنا زلام بتعيّط".