نعم.. ولكن: لغة العبور من الضرورة إلى الكرامة
8 أكتوبر 2025
في الأزمنة التي تُكتب فيها الصفقات بالحبر الأحمر، تغدو الكلمات مفاتيح أبواب أو أقفالا لا تُلقى على الورق فقط، بل على مصير مدينة كاملة. كلمة قصيرة من ثلاثة أحرف، "نعم"، قد تفتح نافذة للهواء وسط جدار من دخان. وكلمة أخرى، "لكن"، تأتي ميزانا وحارسا يحفظ الاسم من التلف. بين هاتين الكلمتين تُدار حياة الناس المعلقة بخيط بين موت محتمل وفرصة خلاص.

"نعم" ليست زينة لغوية ولا تنازلا مجانيّا؛ إنّها فعل إنقاذ مباشر. هي ماء يُسكب على لهب متطاول، لحظة توقف مدفع كي تتنفس الأرواح، نافذة يمرّ منها الدواء، ورسالة تطمئن قلب أسير أو أم تنتظر خبر ابنها وآخرون كثر طواهم الغياب والأنقاض.
هذه "النعم" تعني الاعتراف بأنّ حياة الإنسان لا تُؤجَّل حتى اكتمال النصوص، وأن إنقاذ الممكن واجب مهما بقيت الجراح مفتوحة. في التجارب الإنسانية الكبرى ــ من سراييفو المحاصرة إلى غزّة المثقلة بالجراح ــ كان قول "نعم" لمرور الغذاء أو لوقف النار المؤقت أشبه بوضع حجر أساس في طريق طويل نحو البقاء.
"نعم" ليست زينة لغوية ولا تنازلا مجانيّا؛ إنّها فعل إنقاذ مباشر. هي ماء يُسكب على لهب متطاول، لحظة توقف مدفع كي تتنفس الأرواح، نافذة يمرّ منها الدواء، ورسالة تطمئن قلب أسير أو أم تنتظر خبر ابنها وآخرون كثر طواهم الغياب والأنقاض.
لكنها ليست مجرد تنازل، بل عقد أخلاقي: هدنة للدم، تبادل يعيد أبناء إلى أحضانهم، مسارب للحياة بلا زخرف سياسي.
الورقةُ تحتاج بنودا وضمائرَ شرط وتواريخ. أمّا الرسالة فتحتاج كلفة حقيقية: صمود محسوب، إشارة دقيقة في توقيتٍ لا يضيع، صورة حياة تُعاد إلى الشاشة فينهض الرأي العامّ من مقعده. الرسالة تغيّر إيقاع الميدان أكثر ممّا تغيّره البيانات؛ تقلِب جدول الأولويّات في عقل الخصم بلا مؤتمرات، إلى طاولة أصغر وأهدأ.
مع ذلك، فإن مدينة اعتادت دفع الأبواب بكتفين مثخنين تعرف أن "لكن" ضرورية بعد كل "نعم". ليست عقدة الرفض، بل حكمة البقاء. نعم لإطفاء النار، ولكن لا لتزيين القيد. نعم لفتح المعابر، ولكن لا لتحويلها إلى بوابات وصاية. نعم لإدارة تنقذ حياة الناس، ولكن لا لحراسة غريبة تحت مسمى "ضمان".
"لكن"هنا صيانة للكرامة من التلف: لا يُسلّم مفتاح البيت لجيب غريب، ولا يُنتزع سيف الحارس الداخلي ليُعلّق في متحف الصور قبل أن يغادر الخطر أسوار الحي. الانسحاب انسحاب لا مراقبة من الشرفة المقابلة، والضامن ضيف مؤقت لا صاحب بيت.
السياسة في مثل هذه اللحظات هندسة وقت أكثر منها هندسة ورق. الذكاء يكمن في تحويل الزمن من خصم إلى أداة: أسبوع مقابل أسبوع، مرحلة مقابل مرحلة، إنسان مقابل إنسان.
التجارب التفاوضية الحديثة تثبت أنّ أي هدنة لا تُبنى دفعة واحدة، بل تُجزّأ خطوات: إطلاق سراح دفعة من الأسرى مقابل انسحاب مرحلي، فتح معبر مقابل تراجع نيران. هنا "نعم ولكن" تتحول إلى إيقاع مدروس، يمنع الغدر ويُعطي كل طرف كلفة إذا تراجع.
الناس يبحثون عن ضامن كما يبحث الغريق عن حبل. لكن الضمان الأمتن ليس ختما على ورقة، بل شبكة كُلف متبادلة. الضامن الواقعي هو معادلة تجعل الغدر مكلفا، بحيث يدفع الطرف المخلّ ثمنا سياسيّا وأخلاقيّا في اللحظة نفسها.
الضامن الواقعي هو معادلة تجعل الغدر مكلفا، بحيث يدفع الطرف المخلّ ثمنا سياسيّا وأخلاقيّا في اللحظة نفسها.
قد يكون الضامن دولة أو وسيطا، لكنه أيضا رأي عام عالمي وجوقة شهود، تقلق من يفكر في الخديعة ساعة التسليم. وفي العمق، يبقى الضمان الأهم في يد أصحاب الأرض: قدرتهم على القول والفعل معا، ورسالتهم الضمنية أن العودة للقتال خيار ممكن ومكلف للجميع إذا انهار الاتفاق.
الأوراق تحتاج بنودا وجداول وتواريخ، أما الرسائل فتحتاج كلفة حقيقية تُغيّر إيقاع الميدان. الرسالة أن يرى العالم حياة تعود إلى الشاشة فينهض الرأي العام من مقعده، أو أن يلمس الخصم أثرا عمليّا يقلب أولوياته بلا مؤتمرات.
لذلك يجب أن تُكتب "نعم ولكن" رسالة تنفيذية لا كُتيّبا للمواعظ: تُحدد ما يحدث الآن لإنقاذ الأرواح، وتترك ما ينبغي ألا يحدث أبدا إلى طاولة أصغر وأهدأ. الرسالة لا تقنع بالبيانات، بل تُغيّر مسار النار على الأرض.
في لغة "نعم ولكن"، الصمت أداة تفاوضية. الصمت عن ذكر مجالس وصاية أجنبية رفض بأدب. الصمت عن أقدام غريبة تدوس الأزقة تحفّظٌ مشروط: ما لم تُحدَّد الحدود، لن يدخل أحد. الصمت عن تعليق سيف الحارس على الجدار إعلان ذكي: لن نضعه تذكارا قبل أن يبتعد الخطر. هنا تعمل "لكن" من وراء الستار، لتضمن أن "نعم" لا تتحول إلى سلّم يفضي إلى سقف لا يليق بالبيت.
يرتكز الإطار المقترح على تحويل الوعود إلى التزامات موثوقة ذات كلفة فورية عند النكث، عبر آليات تلقائية لاسترداد أو منح الامتيازات، بما يوازن بين الردع والحوافز المتدرجة التي تجعل الالتزام خيارا رابحا. يقوم التنفيذ على مراحل قصيرة متناظرة، كإطلاق مقابل انسحاب أو ممرات مقابل وقف نار، ضمن جداول زمنية دقيقة ومؤشرات قياس واضحة، بحيث يفعّل التأخير إجراءات تعويضية فيما يُكافأ التقدّم المبكر. ويُدار التحقق من خلال منظومة متعددة الطبقات تدمج الرقابة التقنية والبشرية وتوزيع الضمانات بين الوسيط والآليات التقنية والرأي العام والقدرة المحلية، مع توثيق قانوني صارم، بينما يبقى "سيف الحارس" جاهزا حتى زوال الخطر.
يقوم التنفيذ على مراحل قصيرة متناظرة، كإطلاق مقابل انسحاب أو ممرات مقابل وقف نار، ضمن جداول زمنية دقيقة ومؤشرات قياس واضحة، بحيث يفعّل التأخير إجراءات تعويضية فيما يُكافأ التقدّم المبكر.
ولضمان استقرار الإطار، تُعتمد خطوط حمراء وقنوات فضّ اشتباك فورية، واستجابات معيارية متناسبة لكل خرق، مدعومة بمصفوفة للمخاطر ومسارات هبوط آمن تمنع الانهيار في الطوارئ. كما تُفعَّل حوكمة اللاعبين الداخليين عبر خارطة للفيتو ومسارات تواصل ورسائل تهدئة تحيّد التعطيل وتبني ظهيرا اجتماعيّا وسياسيّا يحمي التنفيذ. وفي المستوى الإنساني، تُفصل المسارات الإنسانية في مدوّنة مستقلة غير قابلة للابتزاز، مع اعتماد مؤشرات موضوعية لقياس التقدّم وصوغ رواية موحّدة تختصر جوهر المعادلة: "نعم للإنقاذ... ولكن لصون الاسم والحق".
"نعم... ولكن" ليست حيلة لغوية، بل طريقة عبور من نار مستعرة إلى أرض آمنة تُرتب عليها أدوات البناء. "نعم" تلبي الحاجة الفورية إلى النجاة، و"لكن" تحمي الكرامة كي لا يصبح التنازل إذلالا.
وحين تُقال بوعي، تهدأ المدافع من تلقاء نفسها لأن البديل أكثر كلفة، ويرتفع صوت المعنى فوق صوت الرصاص. عندها يتبين أن الكلمة التي أنقذت أرواحا لم تُفقد القضية اسمها، وأن المدينة وضعت قدمها على العتبة الأولى: عتبة الإمكان، حيث لا تُطفئ الحياة جذوة الكرامة، ولا تبتلع الكرامة حق الناس في الحياة.