التعليم في فلسطين: جيل على أعتاب الإفلاس المعرفي
4 أكتوبر 2025
كيف يمكن لطفل في الصف الأول، بالكاد يعرف ترتيب الحروف، أن يواجه واقعا دراسيا قوامه ثلاثة أيام من الدوام فقط، وحقائب فارغة من الكتب؟ هذا السؤال ليس مجرد قلق أمّ على ابنها، ولا مجرد شكوى عابرة من معلم مرهق، بل هو اختصار لأزمة وطنية تتجاوز أسوار المدارس إلى عمق المجتمع الفلسطيني برمّته.
لطالما كان الفلسطيني يُعرّف نفسه بالعلم قبل أي شيء آخر؛ فقد كان التعليم جواز سفره إلى العالم، وسلاحه في مواجهة التهجير والشتات، وعلامة اعتزاز جعلت المجتمع الفلسطيني من أكثر المجتمعات العربية إقبالا على مقاعد الدراسة. لكن اليوم، يقف هذا الإرث أمام فجوة خطيرة، فجوة تتهدد الجيل الصغير الذي كان يفترض أن يحمل الراية.

في المدارس الحكومية، خاصة في المرحلة الأساسية الدنيا، يواجه الأطفال تحديات لا يمكن لعقل أن يتصورها: معلم يدرّس عشرات الطلبة بلا كتب، مناهج متوقفة أو غير متوفرة، بيئة صفية مزدحمة، وأيام دراسية متقطعة. هذه البدايات المرتبكة تزرع في نفس الطفل شعورا بالتيه، وتحوّل المدرسة من مساحة بناء إلى مجرد جدران تحبس الطاقات. إنّ الفاقد التعليمي لا يُقاس فقط بما نُسي من مادة أو بما لم يُدرس، بل بما يُكسر من شغف، وما يُطفأ من فضول.
إنّ الفاقد التعليمي لا يُقاس فقط بما نُسي من مادة أو بما لم يُدرس، بل بما يُكسر من شغف، وما يُطفأ من فضول.
أما في المراحل اللاحقة، فإن الفجوة تتسع أكثر: جامعاتٌ مثقلة بالأزمات المالية، طلبة عاجزون عن سداد الأقساط، وأحلام مؤجلة على أبواب المؤسسات الأكاديمية. التعليم العالي، الذي كان حاضنة للنخب، صار في كثير من الأحيان رفاهية لا يقدر عليها أبناء الأسر التي بالكاد تعيش. كيف يمكن لشاب يرى زملاءه يغادرون مقاعد الدراسة أن يحافظ على حلمه في ظل واقع اقتصادي يضغط على كل تفاصيل حياته؟

هكذا تتكامل حلقات الأزمة: فاقد تعليمي في المراحل الأولى، ضعف في التأسيس، إحباط في المراحل المتوسطة، وأبواب مغلقة في الجامعات. إنّها ليست مجرد مشاكل منفصلة، بل منظومة متصدعة تهدد بتحويل التعليم من قوة دافعة للمجتمع إلى عبء جديد على كاهله.
الفلسطيني الذي كان يعرف أن مستقبله يُبنى عبر كتاب، يجد اليوم أن الكتاب نفسه قد غاب، هذه المفارقة تصنع أثرا عميقا: جيل قد ينشأ بلا أدوات كافية لمواجهة العالم، ومجتمع مهدد بخسارة رأس ماله الأهم، وهو العقل المتعلم.
ماذا يعني أن يخسر الفلسطيني تعليمه؟ الجواب بسيط وقاس: يعني أن يخسر ذاته، وهويته، ومستقبله. ولهذا فإن حماية التعليم اليوم ليست خيارا، بل ضرورة وجودية.
لكن، رغم قسوة الصورة، يظل الأمل حاضرا. فالشعب الذي جعل من الخيمة مدرسة ومن المنفى جامعة، قادر على أن يبتكر حلولا: مبادرات أهلية لتعويض الفاقد التعليمي، صناديق دعم للطلبة الجامعيين، خطط طوارئ لإعادة الاعتبار للمرحلة الأساسية، واستثمار مجتمعي يعيد الاعتبار للتعليم باعتباره مشروعا وطنيا لا يقل أهمية عن أي معركة سياسية أو اقتصادية.
في النهاية، السؤال الذي يواجهنا جميعا: ماذا يعني أن يخسر الفلسطيني تعليمه؟ الجواب بسيط وقاس: يعني أن يخسر ذاته، وهويته، ومستقبله. ولهذا فإن حماية التعليم اليوم ليست خيارا، بل ضرورة وجودية.