تاريخ إسرائيل الطويل في محاولات التطهير العرقي لقطاع غزة
4 أكتوبر 2025
منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، شكّل قطاع غزة محورًا رئيسيًا في المشروع الاستعماري الإسرائيلي الرامي إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين. وعلى الرغم من تنوع الوسائل وتغير السياقات السياسية، ظل الهدف واحدا: تقليص الوجود الفلسطيني في غزة ودفع سكانها نحو التهجير القسري إلى دول الجوار أو المنافي البعيدة.
قبل أسابيع، أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إحياء هذا المشروع بطرح مقترح لإفراغ القطاع من سكانه ونقلهم إلى مصر والأردن ودول أخرى. ورغم أن الخطاب المرافق لمقترحه تزيّن بشعارات إنسانية، إلا أن جوهره يعكس إرثا استعماريا ممتدا منذ تأسيس إسرائيل، هدفه تقويض الهوية الوطنية الفلسطينية وإلغاء حق العودة.

تحوّل قطاع غزة عام 1948 إلى مخيم ضخم للاجئين بعد أن هجّرت إسرائيل أكثر من 700 ألف فلسطيني ودمّرت ما يزيد عن 400 قرية. لجأ نحو 200 ألف منهم إلى القطاع، فارتفع عدد سكانه ثلاثة أضعاف. ومع مرور الوقت، بات أكثر من 80% من سكان غزة لاجئين اقتُلعوا من أراضيهم. شكّل هؤلاء تحديا لإسرائيل، إذ حاول بعضهم العودة إلى قراهم الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من غزة، بينما انخرط آخرون في مقاومة مسلحة أو شعبية لتجسيد حق العودة. ردّت إسرائيل بعنف في السنوات التي تلت النكبة، وقتلت ما بين 2700 إلى 5000 فلسطيني حاولوا العودة إلى قراهم.
لاحقا، دفعت الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة مصر إلى توقيع اتفاق هدنة عام 1949 اقتُطع بموجبه 200 كيلومتر مربع إضافية من مساحة غزة.
في السنوات التي تلت النكبة، مارست إسرائيل والولايات المتحدة ضغوطا على مصر لإعادة توزيع اللاجئين. ففي عام 1953، وافقت القاهرة على نقل 12 ألف فلسطيني إلى سيناء بالتعاون مع "الأونروا" مقابل 30 مليون دولار من الولايات المتحدة، ترافق هذا الاتفاق مع هجمات إسرائيلية على غزة، خصوصًا على المخيمات، لإرهاب الناس ودفعهم إلى الفرار نحو مصر، لكن الغضب الشعبي الفلسطيني أحبط هذا المشروع، بعد احتجاجات واسعة هتف خلالها اللاجئون: "صاغوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحوها بالدماء".
استخدمت إسرائيل أساليب وحشية لإرهاب السكان ودفعهم إلى النزوح نحو مصر، منها اعتقال كل الذكور بين 15 و60 عاما، وتنفيذ إعدامات ميدانية، واغتيال ناشطين في المقاومة، واستخدام الأطفال كدروع بشرية.
لم تتوقف إسرائيل عند ذلك. فخلال العدوان الثلاثي عام 1956، احتلت غزة لأشهر عدة، دمّرت خلالها البنية التحتية والمخيمات وارتكبت مجازر راح ضحيتها أكثر من 1500 فلسطيني، في محاولة لدفع السكان إلى النزوح نحو مصر.
استخدمت إسرائيل أساليب وحشية لإرهاب السكان ودفعهم إلى النزوح نحو مصر، منها اعتقال كل الذكور بين 15 و60 عاما، وتنفيذ إعدامات ميدانية، واغتيال ناشطين في المقاومة، واستخدام الأطفال كدروع بشرية. ونتيجة لذلك، اضطر بعض الغزيين إلى النزوح مشيا أو على ظهور الإبل والحمير إلى مصر.

عام 1967، ومع إعادة احتلال غزة، هجّرت إسرائيل 45 ألف فلسطيني إلى مصر والأردن، وأقامت مكاتب للهجرة قدّمت من خلالها المال وجوازات سفر أجنبية مقابل مغادرة القطاع إلى دول بعيدة مثل كندا وأستراليا والبرازيل. ولم تلقَ هذه الخطة إقبالا واسعا. في حين دفعت سياسات إسرائيل القمعية نحو 20 ألف فلسطيني لمغادرة غزة خلال خلال النصف الأول من العام 1968.
وفي السبعينيات، قاد أريئيل شارون حملة شرسة في غزة شملت اعتقالات جماعية وهدم منازل وتنفيذ إعدامات. استهدفت حملاته بشكل خاص المخيمات المكتظة مثل جباليا والشاطئ ورفح، حيث هدم أكثر من 2500 منزل، ما أدى إلى تهجير أكثر من 16 ألف فلسطيني.
واصلت إسرائيل في السبعينيات وحتى 2005 تنفيذ استراتيجيتها الثلاثية: التدمير، والقتل، والتهجير القسري، بالتوازي مع سياسة استعمارية أسمتها "استراتيجية الأصابع الخمسة"، أي بناء مستوطنات تفصل القطاع إلى خمس مناطق معزولة.
واصلت إسرائيل في السبعينيات وحتى 2005 تنفيذ استراتيجيتها الثلاثية: التدمير، والقتل، والتهجير القسري، بالتوازي مع سياسة استعمارية أسمتها "استراتيجية الأصابع الخمسة"، أي بناء مستوطنات تفصل القطاع إلى خمس مناطق معزولة، وهو ما أعادت تطبيقه خلال حرب 2023-2025.
بحلول الثمانينيات، كانت إسرائيل قد صادرت أكثر من ثلث مساحة القطاع، وحظي المستوطنون بمساحات من الأرض والمياه تزيد مئات المرات عما يُتاح للفلسطينيين.
حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، لم تتخلّ إسرائيل عن حلمها بتقليص عدد سكان غزة. ففي 2004، وصف رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، غيورا آيلاند، القطاع بأنه "معسكر اعتقال ضخم"، واقترح ضم 600 كيلومتر مربع من سيناء لتفتيت السكان. ومع فرض الحصار منذ عام 2007، تحوّل القطاع إلى "حي بائس"، حيث استُخدم الحصار وسيلة لابتزاز السكان ودفعهم إلى الرحيل. وقد اعترف مسؤولون إسرائيليون عام 2019 بأنهم يسعون فعليا لتشجيع الهجرة، عبر البحث عن دول تستوعب الفلسطينيين.
إن قبول فكرة "توطين" الفلسطينيين في دول الجوار لا يعني سوى الإقرار بشرعية مشروع التهجير الإسرائيلي وتطبيع التطهير العرقي كخيار سياسي عادي.
تأتي مقترحات ترامب اليوم امتدادا لهذا التاريخ الطويل. فهي لا تعالج جذور المعاناة الناجمة عن الاحتلال والحصار، بل تحمل الضحايا مسؤولية مأساتهم، وتطرح الفلسطينيين كـ"مشكلة" يجب التخلص منها بدل النظر إليهم كشعب يستحق الحرية والعدالة.
إن قبول فكرة "توطين" الفلسطينيين في دول الجوار لا يعني سوى الإقرار بشرعية مشروع التهجير الإسرائيلي وتطبيع التطهير العرقي كخيار سياسي عادي، وهو ما يفتح الباب لتداعيات خطيرة قد تطال الضفة الغربية وساحات أخرى حول العالم.