إلى الحرم الجامعي: طريق البوابات والحواجز الإسرائيلية
25 سبتمبر 2025
في معظم أنحاء العالم، يعدّ التعليم الجامعي مرحلة زاهية من التطور الشخصي والفكري، وتجربة أكاديمية واجتماعية غنية. أما في فلسطين، فالتعليم الجامعي يأخذ طابعا مختلفا تماما؛ إذ يتحول إلى رحلة قسرية شاقة يفرضها واقع الاحتلال المرير الذي غيّر ملامح الحياة بكل جوانبها. يسير الطالب الفلسطيني إلى جامعته محمّلا بالهموم والمخاوف بدلا من الكتب والأحلام، فحضور المحاضرات واجتياز الامتحانات أصبح في مخياله عملية محفوفة بالمخاطر لا يجتازها إلا إذا صمد وقاوم وحالفه الحظ العظيم، حيث يتعيّن عليه اجتياز حواجز عسكرية لا تعدّ ولا تحصى، والتعامل مع قيود أمنية واجتماعية خانقة قبل أن يصل إلى قاعات الدراسة. وفي حين ينظر العالم إلى التعليم كحق أساسي، يجد الطالب الفلسطيني نفسه كأنه ينتزع هذا الحق انتزاعا في معركة بقاء يومية.
يكافح الطالب الفلسطيني للحفاظ على تركيزه العلمي وتحصيله الأكاديمي؛ ومن جهة أخرى يصارع مشاهد الإذلال والتوتر التي يتعرض لها على الحواجز يوميا، ولا يقتصر الأمر على التأخير في الوصول إلى الجامعة، بل يتعداه إلى إرهاب نفسي وجسدي يلاحقه حتى داخل أسوار الحرم الجامعي.
مع بداية كل نهار، يتحول طريق الطالب الفلسطيني إلى جامعته لمضمار عذاب يومي، فعلى امتداد الضفة الغربية المحتلة، تنتشر الحواجز العسكرية الإسرائيلية بكثافة، وتحول المدن والقرى إلى جزر معزولة. في محافظة نابلس وحدها – وهي مركز تعليمي بارز يضم عدة جامعات وكليات – تحيط بالمدينة ما لا يقل عن عشرة حواجز عسكرية، يقف فيها جنود مدججون بالسلاح دورهم الأساسي هو إعاقة الفلسطينيين وقهرهم وفق أهواء مزاجية قد تبلغ حد إطلاق النار بقصد القتل لمجرد الشك، فأيديهم دوما على الزناد.
ولأن طلّاب الجامعات في مقتبل العمر وشريحة الشباب، فهم أكثر من يطاله هذا التنكيل اليومي على الحواجز. ينتظر الطالب الجامعي ساعات طويلة تحت رحمة جندي متوترا مقهورا، فقد يصرخ في وجهه أو يأمره بالانتظار والتفتيش المهين دون سبب واضح. تتحول رحلته من المنزل إلى المدرّج الدراسي إلى محنة غير مضمونة النتائج: فقد ينجو منها بالوصول متأخرا إلى قاعة المحاضرة، وقد تنتهي باعتقال مفاجئ على الحاجز إذا قرر الجندي الاشتباه بأي شيء يخصّه. وهكذا أصبحت الحواجز الإسرائيلية أشبه بمصائد تستهدف المارّة، وخاصة الطلاب، بغرض التضييق والاعتقال.
تتحول رحلته من المنزل إلى المدرّج الدراسي إلى محنة غير مضمونة النتائج: فقد ينجو منها بالوصول متأخرا إلى قاعة المحاضرة، وقد تنتهي باعتقال مفاجئ على الحاجز إذا قرر الجندي الاشتباه بأي شيء يخصّه.
من المشاهد اليومية المؤلمة التي باتت مألوفة: طوابير السيارات والحافلات التي تقل الطلبة متوقفة لأميال عند حاجز أو بوابة حديدية، وأصوات تنادى بأسماء الشبان للنزول للتفتيش. عند حاجز مثل حاجز حوّارة أو زعترة جنوب نابلس، قد يقضي الطلبة ساعات الصباح في الانتظار بدلا من قضاء هذا الوقت في قاعات الدرس. ولا يقتصر الأمر على نابلس؛ فمحافظة جنين أيضا لها نصيبها من المعاناة. حاجز الجلمة شمال جنين، مثلا، يشكّل شريانا حيويا خصوصا لطلبة الجامعة العربية الأمريكية في جنين. عند اندلاع المواجهات في جنين أو فرض إجراءات عقابية بحق المدينة، يغلق الحاجز مرارا ، ما أدى إلى عزلها تماما وشلّ حركة آلاف الطلبة، واضطر نحو 4 آلاف طالب من فلسطينيي الداخل (48) الذين يدرسون في جامعة جنين إلى اجتياز الحاجز مشيا على الأقدام لمسافات طويلة للوصول إلى محاضراتهم.
بعض هؤلاء الطلبة وجدوا أنفسهم يدفعون ضعف الأجرة اليومية – حوالي 60 شيكلا – لأنهم يضطرون لاستقلال مركبتين مع فاصل مشي مرهق تحت الشمس الحارقة. وقد دفع هذا الواقع المرير طلبة الجامعة في جنين ذات مرة إلى إعلان إضراب مفتوح، مطالبين بتحويل الدراسة إلى نظام إلكتروني عن بُعد، بعد أن عجزوا عن تحمل مشقة الوصول اليومي في ظل الحواجز.
بعض هؤلاء الطلبة وجدوا أنفسهم يدفعون ضعف الأجرة اليومية – حوالي 60 شيكلا – لأنهم يضطرون لاستقلال مركبتين مع فاصل مشي مرهق تحت الشمس الحارقة.
وفي طولكرم الواقعة أقصى شمال الضفة، ليس الوضع أفضل حالا؛ إذ يشهد حاجز عنّاب ومدخل المدينة إجراءات عسكرية خانقة، بل إن جامعة فلسطين التقنية -خضوري - في طولكرم نفسها تعرضت لاقتحامات عسكرية أكثر من مرة. ذات يوم حوّل جيش الاحتلال ساحات الجامعة إلى سجن جماعي عندما احتجز نحو ألف طالب في حرم الجامعة بأمر عسكري، وأخضعهم لتحقيقات أمنية مهينة. وبات حاجز 104 على مدخل طولكرم كابوسا يوميا لطلاب خضوري؛ فإغلاقه المفاجئ يعني استحالة دخول المدينة أو مغادرتها، مما يقطع أوصال اليوم الدراسي تماما.
ومن بين النماذج الحية لمعاناة الطلبة، تبرز قصة الطالب علي دوابشة من قرية دوما جنوبي نابلس. يدرس دوابشة (22 عاما) التربية الرياضية في جامعة فلسطين التقنية – خضوري- في طولكرم، ويضطر يوميا لمغادرة منزله قبل الفجر ليشق طريقا مروعا إلى جامعته. لا يواجه علي حاجزا واحدا أو اثنين، بل يمر عبر أربع إلى خمس حواجز يوميا على الأقل: من البوابة العسكرية المستحدثة على مدخل قريته دوما – التي وُضعت كعقاب جماعي لأهل القرية – إلى حاجز زعترة جنوب نابلس، ثم حاجز عورتا والمربعة شرقا، وصولا إلى حاجز دير شرف غرب نابلس، الذي يجب أن يجتازه في طريقه نحو طولكرم.
في كثير من الأيام، يفاجأ علي أيضا بحواجز طيّارة (حواجز مفاجئة مؤقتة) ينصبها الجنود في أي نقطة على الطريق، فتكون أشد فتكا وتأخيرا من الحواجز الثابتة. خلال رحلته هذه، يتعرض علي وأمثاله لكل أصناف الابتزاز والعنف: توقيف بلا سبب لفترات طويلة، تفتيش جسدي دقيق يصل إلى حد انتهاك الخصوصيات كفحص الهواتف النقالة ومحتويات الحقائب. يروي علي كيف يقوم الجنود أحيانا بضرب الطلبة وشتمهم بلا مبرر أثناء التفتيش، وإذا ما قرروا اعتقال أحدهم فإنهم يقيدون يديه ويعصبون عينيه ويتركونه مصلوبا لساعات في ظروف قاسية. وفي نهاية المطاف قد يُطلق سراح المحتجز بعد فوات الأوان، أي بعد أن يكون الدوام الجامعي قد تبخر ذلك اليوم، وقد يُكرر المشهد ذاته عدة مرات في أسبوع واحد.
يروي علي كيف يقوم الجنود أحيانا بضرب الطلبة وشتمهم بلا مبرر أثناء التفتيش، وإذا ما قرروا اعتقال أحدهم فإنهم يقيدون يديه ويعصبون عينيه ويتركونه مصلوبا لساعات في ظروف قاسية.
يصف علي هذه الرحلة اليومية بأنها مأساة متكاملة التفاصيل؛ وبلغت المعاناة ذروتها حين علق على حاجز دير شرف لساعات يوم امتحانه النهائي؛ حُرم من الوصول للقاعة في الوقت المناسب وفوّت موعدد الامتحان، فكانت النتيجة أن سجلّت له الجامعة علامة “غير مكتمل”، واضطر لإعادة الامتحان لاحقا بعدما ذهب تعب فصل كامل أدراج الرياح .
المشهد لا يكتمل دون الإشارة إلى التكاليف الباهظة التي يتكبدها الطلبة خلال تنقلهم القسري هذا. فإلى جانب هدر الوقت والجهد، هناك استنزاف اقتصادي لأسر الطلبة. يذكر علي أن تكلفة المواصلات اليومية تضاعفت تقريبا بسبب اضطراره لسلوك طرق التفافية طويلة هربا من الحواجز. فبعد أن كان يدفع ما يعادل 12 دولارا يوميا أجرة نقل إلى الجامعة وبالعكس، بات الآن يدفع حوالي 25 دولارا، وأحيانا أكثر من ذلك، نتيجة التحايل على إغلاقات الطرق. هذا العبء المالي يرهق عائلات الطلبة التي تعيش أصلا في ظل أوضاع اقتصادية متردية في الضفة الغربية.
المشهد لا يكتمل دون الإشارة إلى التكاليف الباهظة التي يتكبدها الطلبة خلال تنقلهم القسري هذا. فإلى جانب هدر الوقت والجهد، هناك استنزاف اقتصادي لأسر الطلبة.
وإذا كان هذا حال شاب أعزب يسافر وحده، فكيف بعائلة لديها عدة أبناء في الجامعات؟ هنا تبرز قصة المواطن نادر سالم من قرية قرب جنين، والذي لديه ثلاثة بنات يدرسن في جامعة النجاح بمدينة نابلس. تضطر بناته الثلاث إلى السفر يوميا هذه المسافات الطويلة من جنين إلى نابلس عبر حواجز مختلفة ثابتة وطيّارة. يقول الأب بمرارة “إنني أعيش في قلق مستمر عليهن”؛ فكلما أُغلق طريق أو نُصب حاجز مفاجئ أعرف أن بناتي عالقات لساعات بلا حول ولا قوة.
هذا الانتظار الإجباري لا يسبب فقط خوفا عليهّن، بل ينعكس على حالتهن النفسية وتحصيلهن الأكاديمي عند وصولهن أخيرا إلى الجامعة. حاول الأب نادر أن يخفف عنهن فأصبح أحيانا يقلّهن بسيارته الخاصة، ولكن كما يقول “ذلك لا يلغي المعاناة؛ فالانتظار الطويل عند الحواجز هو نفسه سواء كنا في سيارتي أم في الحافلة”. ومع تصاعد التوتر الأمني في نابلس ومدن أخرى مؤخرًا، أصبح من الصعب إيجاد سكن آمن للبنات قرب الجامعة، فحتى خيار السكن الطلابي الذي قد يخفف مشقة الطريق بات محفوفا بالمخاطر والقلق.