عائلة الأسير نادر صوافطة.. الحياة تحت ظلال السجن
20 سبتمبر 2025
على ضفاف البعد، وبين عتمات الابتلاء وفي غياهب السجون، يأذن الله لنور الحب أن يسطع، وللقلوب الطاهرة أن تنير، يطبطب الله على أرواح زوجين عقدت قلوبهما برابطة لم تفتتها القضبان، وقداسة قدر لها أن تخلد في سماء الحب الصادق، إنه لحديث ذو شجن أن تروي تفاصيل زوجة أسير، زوجة تخاطب زوجها بلغة الحنين والشوق، بقلب مكلوم يرفع رجاء صادقا بأن يجمع الله شملها ببركة الدعاء والمناجاة الأمينة.
قصتنا اليوم عن عائلة الأسير نادر محمد صوافطة من بلدة طوباس قضاء جنين، حيث نفتح نافذة على حوار مع زوجته الصابرة معالي صوافطة، التي حملت عبء الغياب ورعت أبناءها الخمسة؛ معاذ ومازن وسندس وهمس وسما، رغم قسوة الفقد وغياب الزوج القسري.
عرف نادر بدينه، وعلمه، وأخلاقه، وتعرض للاعتقال قبل دخوله الجامعة وزواجه من معالي، وكان عضوا فاعلا في مجلس الطلبة وناشطا في العمل السياسي. أكمل دراسته في جامعة النجاح الوطنية، غير أنّ سنواته الدراسية امتدت لعقد كامل بفعل الاعتقالات المتكررة التي حالت دون تخرّجه في الوقت المعتاد. وأكمل دراسة الماجستير في أربع سنوات، حتى استطاع مناقشة الرسالة التي أصبحت كتابا له حضوره في معرض الكتاب في اسطنبول، وبيع منه عدد كبير من النسخ التي ذهب ريعها لأهلنا في غزة.

كانت القرابة هي السبب الأول لارتباط معالي بزوجها فهو ابن عمها، فغدت رابطة الدم سبيلا إلى رابطة النسب، لتبدأ رحلة زوجين تعاهدا على تقاسم الوجع ومرارة الغياب.
اعتقل نادر بعد زواجه من معالي بعشرين يوما عام ٢٠٠٢، وكان هذا هو الاعتقال الأصعب عليهما كزوجين، لكن الله ألهمها الصبر، وعرفت أن هذه هي ضريبة الطريق الذي اختاره زوجها. استمر هذا الاعتقال ثلاث سنوات ونصف، مرت عصيبة على فتاة لا زالت عروسا في بيت الزوجية، وطالبة جامعية تستكمل دراستها كزوجة وطالبة في ظل غياب الزوج.
اعتقل نادر بعد زواجه من معالي بعشرين يوما عام ٢٠٠٢، وكان هذا هو الاعتقال الأصعب عليهما كزوجين، لكن الله ألهمها الصبر، وعرفت أن هذه هي ضريبة الطريق الذي اختاره زوجها.
ومن بشريات هذا الابتلاء التي واست لوعة الفراق، إنجاب معالي مولودها الأول معاذ عام 2003، ليكون أقدس رابطة تجمع بينها وبين زوجها على هيئة طفل صغير. ورافق معاذ أمه في دراستها الجامعية وتنقلاتها بين السكن الجامعي والبيت، فكان سلوى لقلبها ورسالة الله لها أن اصبري.
مرت الأيام ليلتقي الأسير نادر بمعاذ للمرة الأولى بعد أن أفرج عنه، كان معاذ وقتها بعمر السنتين ونصف، بعد أن حملته الأقدار جنينا في رحم والدته قبل اعتقال أبيه، ليولد بين أحضان الفراق ويتربى في مراتع الشوق. ثم توج هذا البعد بلقاء لم يدم طويلا، إذ فارق الوالد ابنه وهو في مدارج الطفولة، وانتزع من حضنه ليقبع خلف القضبان بعد سنة من الإفراج عنه، توالت بعد ذلك اعتقالات الأب، حتى تجاوز مجموع سنوات أسره ثمانية عشر عاما.
ثم جاءت البشرى الثانية بأن رزقت معالي بمازن، والذي شاء الله له أن يولد بعد اعتقال والده بأسبوعين عام 2007، لم يكن سهلا على معالي أن تضع مولودها وأن تعاني تفاصيل الميلاد دونما السند الأول والكتف الأقرب زوجها الحبيب.
تقول معالي: "كل الأيام التي يقضيها الأب في الاعتقال تكون تفاصيلها الدقيقة عصيبة جدا، لم يكن من السهل علي أن أجد نفسي أما لطفلين وأنا لا زالت في بداية الطريق وزوجي غائب، لكن الحمدلله أنني عشت هذه الابتلاءات، ومضت الأيام بكنف عائلة دعمتني واحتضنت أولادي".

وبعد كل فرحة وانتشاء للعائلة بالإفراج عن الأسير ناد، يواجه أطفاله صعوبة في تقبل والدهم، ولم يكن من السهل على الأب المشتاق لقطعة منه وبضعة من روحه أن يرى أطفاله ينكرونه ولا يتعرفون عليه.
غالبية اعتقالات الأسير نادر صوافطة كانت إدارية، وهذا ما فاقم التعب والاستنزاف النفسي في انتظار مدة غير معلومة للاعتقال في كل مرة يصدر بها أمر التجديد.
لم يكن من السهل على معالي أن تتلقى أسئلة أطفالها المتكرر عن والدهم، وأن تحاول بكامل جهدها أن تشغل دور الأب والأم معا، في الوقت الذي كانت تحتاج فيه دعم المحب وقرب الزوج ومساندة شريك العمر في أعباء الحياة، فما أثقل الطريق دون عكازة يستند عليها القلب!
وبعد كل فرحة وانتشاء للعائلة بالإفراج عن الأسير ناد، يواجه أطفاله صعوبة في تقبل والدهم، ولم يكن من السهل على الأب المشتاق لقطعة منه وبضعة من روحه أن يرى أطفاله ينكرونه ولا يتعرفون عليه.
رزق الأبوان معالي ونادر ابنتهم سندس في عام ٢٠١٧، وتنزلت الرحمات على هذا البيت المبارك مرة أخرى، وهذه هي الولادة الأولى التي رافق بها نادر زوجته، لكن نادر اعتقل بعد ولادة سندس بشهر تاركا طفلته الصغيرة في أحضان أمها، وبعد سنة ونصف أفرج عنه، ليرى طفلته وقد درجت في مراتع الطفولة، ثم رزقت معالي بطفلتها همس عام 2015، ليقضي الأب مع ابنته سنة واحدة قبل أن يغيب مرة أخرى في غياهب السجون.
كان الاعتقال الأخير هو الأصعب على زوجته، وذلك في بداية أحداث الحرب الأخيرة على غزة، وكانت معالي وقتها تحمل طفلتها سما التي ولدت في أصداء الحرب والغياب، ولم ينعم نادر برؤية طفلته حتى الآن ولم يسمع صوتها، ولم يسمح بإرسال صورة لها، وهذا مخالف للاعتقالات السابقة، حيث كان يحظى برؤية صور أطفاله، لدرجة أنه كان يخرج بعد كل اعتقال بألبوم صور كامل لكل طفل من أطفاله.
وزادت معاناة الأم المكلومة باعتقال ابنها البكر وفرحتها الأولى معاذ، أثناء محاولته السفر إلى تركيا لاستكمال دراسته، لتجد نفسها أما لأسير وزوجة أسير في آن واحد. وما أقسى أن يتضاعف الوجع، حين يتحول الفقد إلى إرث متجدد ينهش روح العائلة. ولا يزال معاذ حتى اللحظة رهن الاعتقال.
وتتوالى المحن باعتقال نجلها الثاني مازن، الذي زُجّ في السجون وهو قاصر، ليكمل عامه الثامن عشر خلف القضبان. وقد كان هذا الاعتقال أشد وقعا على معالي، وهي ترى ابنها مكبّلا ومعصوب العينين، كما أنه اعتقل قبيل فترة الثانوية العامة وحرم من استكمال دراسته.
اضطرت معالي لدفع تكاليف زيارة أولادها وزوجها من خلال محام في ظل انقطاع رواتب الأسرى وظروف مادية صعبة للغاية، لكن الله أمدها بالقوة لتحتمل كل هذه الأعباء.
وعن شوقها لأولادها تقول معالي: "ذرفت الكثير من الدموع، خصوصا يوم إعلان نتائج التوجيهي، كنت أنظر إلى كتب مازن وأرى غرفته فارغة فيتقطع قلبي ألما وحسرة".
تجاوزت سنوات اعتقال نادر صوافطة ١٨ سنة، ولم يقض مع زوجته إلا سنوات معدودة، الأمر الذي شكل تحديا كبيرا أمام الزوجة الصابرة، التي اضطرت لإكمال المسيرة وحدها، خصوصا في الاعتقال الأخير الذي قطع التواصل تماما بينها وبين زوجها.
وعن وضع أولادها وزوجها تقول: "يطمئنني المحامي دائما بأن معنوياتهم عالية، وأصيبوا بالأمراض التي انتشرت مؤخرا داخل السجون، كما وصلتني رسالة من معاذ ووالده مؤخرا بأنهما يواصلان الصيام لعدة أشهر بسبب قلة الطعام".
تجاوزت سنوات اعتقال نادر صوافطة ١٨ سنة، ولم يقض مع زوجته إلا سنوات معدودة، الأمر الذي شكل تحديا كبيرا أمام الزوجة الصابرة، التي اضطرت لإكمال المسيرة وحدها، خصوصا في الاعتقال الأخير الذي قطع التواصل تماما بينها وبين زوجها.
لم تتجاوز معالي جمال اللحظات التي عاشتها في كنف الزوج المحب، فتقول: "في فترات خروجه من السجن كان نادر يحاول تعويضنا عن غيابه، فكان نعم الزوج الحنون والأب المحب، كان يشاركني في تربية الأولاد وعمل المنزل، وخارج البيت كان محبا للجميع شهما ذا مروءة وشجاعة".
لم يكن الطريق سهلا، لكن معالي اختارته وارتضه لها، ميقنة أن الله إذا كلف أعان، وأن الصبر والرضا زاد من ليس له زاد، ولا زالت على درب الدعاء بأن يجمع الله شمل العائلة تحت سقف واحد، كما جمع الله يوسف عليه السلام بإخوته ووالديه من بعد شتات!